لا تفهم وجهة النظر الوطنية الاشتراكية للعالم إلا إذا اطلع المرء على عقيدة الزعامة Fuherrers chaft التى هى الأصل الأول من أصول المذهب النازى والعمود الذى ترتكز عليه جميع تعاليم الحزب ونظرياته. فلا تتساهل المؤسسات الهتلرية أبداً أمام التساهل بهذه العقيدة أو الكافر بها. لذلك سخرت جميع ما تمتلكه من وسائل فى سبيل تأييدها وحض الناس على الاعتقاد بها. وطهرت السياسة والعلم والفن والصناعة - على حد تعبير الوطنية الاشتراكية - من جميع الأدران التى تراها تصطدم مع هذا الإيمان المطلق. ولم تتساهل حتى مع أكبر الأساتذة الذين لم تجد منهم ميلاً أو تأييداً فى القول أو الفعل
وعقيدة الزعامة هذه تنحصر فى زعامتين: الزعامة الفردية، والزعامة العنصرية، أو الأممية. ومتى عرفت هاتين الزعامتين اتضح لك سبب تهجم هتلر على الماركسية والماسونية واليهودية، وكل فكرة أو نظرية علمية أممية. أما الزعامة الفردية فتستند إلى قاعدة أن الأفراد ليسوا فى الاستعداد على حد سواء. وكذلك فى المؤهلات العقلية والإنتاجية. فهنالك درجات كل درجة أرقى من التى تحتها؛ وهكذا ترتقى الدرجات حتى تصل إلى درجة زعيم فوهرر Fuhrer، وهو زعيم الزعماء، إذ أن كل فرد بالنظر إلى من هو أدنى منه عقلاً أو جسماً أو أضعف إرادة زعيم مفترض الطاعة. وعلى حسب هذه الدرجات تتوزع كذلك المسؤولية والوظيفة والواجب. وهذه المواهب والقابليات موهوبة فطرية لا تكتسب بعلم ولا يحصل عليها بتهذيب أو درس (1) Angeboren، والزعيم الأكبر الذي يتولى قيادة الشعب العامة هو الذى يكيف الشعب حسب إرادته وروحه Geist und wille ويضع الخطط العامة. ولا بد لهذا الزعيم من مؤهلات روحية تميزه عن أفراد شعبه، وقوى خارقة ممتازة من أهم صفاتها الإرادة والشجاعة والخيال
والتفكير والخطابة والمقدرة السياسية والتضحية والإنتاج(1) هذه الصفات كما ذكرنا فطرية مجبولة فى الشخص، فالزعيم يولد زعيماً وتظهر عليه المؤهلات، ولكى تنمو فيه هذه المؤهلات وتينع وتمنع من الانحطاط لابد من العناية بتربية الأفراد خصوصاً الطبقة الصالحة منها للقيادة التى تمتاز بميزات جسمية كطول القامة والاتزان وحدة النظر مع الهدوء وتحمل المشقات؛ ولا يسمح لذلك بالزواج إلا بعد الفحص الطبى والتحقق من سلامة الزوج والزوجة من الأمراض الجسمية أو العقلية أو الاجتماعية كالإدمان على الشرب واللصوصية وغيرها. وهناك مدارس صارمة للزعامة يدخلها من يريد الانخراط فى سلك الزعماء على اختلاف درجاته لها أنظمة شديدة، ومن هذه الطبقة تنشأ طبقة خاصة هى طبقة الأشراف، أشراف المستقبل الذين يقودون الجيل الجديد على طريقة فرسان الجرمان القدماء(2)
أما الزعامة العنصرية أو الأممية فتتلخص فى أن الأمم ليست متساوية كذلك فى القابليات والأنتاج؛ وهى فطرية كذلك كما هى فى الأفراد. والشعوب الآرية فى نظر الوطنية الاشتراكية هى الشعوب المنتجة وحدها، وكل حضارة فى العالم أو مدنية هى من صنعة هذا الجنس، وهذا ما يدعو طبعاً إلى قلب التأريخ ظهراً على عقب وإلى كتابة تاريخ عالمى جديد. لذلك حاربت النظرية المادية فى التأريخ وهى نظرية كارل ماركس Karl marx وزميله أنكل Fr. Engels و A Bebel بيبل وهى النظرية المعروفة ب Akonomische Materialismus القائلة بأن التأريخ أو التطور البشري نتيجة من نتائج التطور الاقتصادي، وكذلك نظريةOswald Spengler الناصة على وجود حضارات بشرية مختلفة، فهنا لك حضارة بابلية وهناك حضارة مصرية، وهناك حضارة صينية، وهنا لك حضارة عربية.كما أن هناك حضارة ألمانية أو حضارة انكليزية، ولكل حضارة من هذه الحضارات نفسية خاصة (أنظر كتابه المشهور سقوط الغرب) وكذلك نظريات الكتاب الأحرار الذين يرون
العالم ككتلة واحدة والمبادئ التى نشأت من الثورة الفرنسية إن فكرة الزعامة العنصرية هذه ليست فكرة هتلر بمعنى أنه هو الذى ابتدعها وكوَّنها، بل هى فكرة عالمية قديمة كانت لدى اليونان إذ كانوا يحتقرون الشعوب الأخرى ولا يعترفون لها بالإنتاج؛ وكانت كذلك لدى الرومان والعرب، وظهرت فى العصر الإسلامي باسم الشعوبية وهى حركة كانت ضد العرب؛ وكانت لدى الأمم الأخرى، والحركة المعادية للسامية قديمة أيضاً حتى أن لوثر المصلح الدينى العظيم فى ألمانيا كان من الذين يكرهون اليهود. ولكن تلك الفكرة لم تطبع بالطابع العلمى وتصبح عقيدة كما أصبحت فى ألمانيا اليوم. وأشهر الذين نادوا بالزعامة العنصرية قبل هتلر هم الألمانى Klemm (١٨٠٢ - ١٨٦٧) الذى بحث عن الشعوب الفعالة وانتشارها على الكرة الأرضية واعتقد بأن الشعوب الهندو آرية هى الشعوب المنتجة وحدها. وكذلك الفرنسى المشهور Graf Gobineau كراف كوبينو (١٨١٦ -١٨٨2) فى كتابه Essai sur L'inegalite des races humaines وقد توصل إلى نتيجة تفوِّق العنصر الجرمانى على جميع العناصر؛ ثم الكاتب الفيلسوف الشهير هوستن شامبرلن Houston Stewart Chamberlin (١٨٥٥ - ١٩٢٨) فى كتابه Grumdlagen des 19 iahrhunderts وهو إنكليزي الأصل ألمانى الثقافة صديق الموسيقى الشهير ريشارد واكنر المعروف بكرهه لليهود أيضاً. وكان شامبرلن هذا يكره اليهود وحاول فى كتابه بعث ألمانيا من جديد إثبات أن العنصر السامى هو عنصر غير منتج. ولأفكاره أعظم أثر فى شخصية هتلر وآرائه. وقد زاره مراراً، وتعتبر كتبه من أهم الكتب التى كونت الوطنية الاشتراكية بجنب كتاب كفاحى Mein Kampf ويرى من خلال دراسته المصبوغة بطابعه الجرمانى الخاص أن الشعب الجرمانى وحده له حق القيادة والزعامة إذ هو الشعب المنتج على الإطلاق، وأن اليهودية والشعوب السامية لم تنتج شيئاً وما أنتجه هو نتيجة العقلية الآرية فقط
كانت فكرة العنصرية قد توسعت منذ عهد بسمارك إذ أطلقت لليهود، لأسباب سياسية، الحرية المدنية وسمح لهم بالتوظف فى الدولة من دون قيد ولا شرط. فازداد بذلك العداء وتوسعت الفكرة العنصرية ولا سيما بعد الحرب العظمى، وظهر مختلف الكتاب الذين شنوا الغارة على اليهود كالأستاذ أدولف بارتلز المشهور بكتابه (تاريخ الأدب الألمانى) على الطريقة العنصرية، والبروفسور
لدويك شيمان Prof. Luduig Schemann والبروفسور كنتر Prof. Hans Guntter وغيرهم، وأخذوا فى دراسة العنصرية من جميع أوجهها متخذين للموضوع قواعد وأسسا وأدوات، وقد ساعدتهم الوطنية الاشتراكية طبعاً بكل قواها، وأسست معاهد للعنصرية فى الجامعات والمستشفيات وجميع المؤسسات الشعبية. وظهر فى عالم الدروس الجامعية فرع خاص يسمى باسم مبحث الأجناس Rassenkunde. وقد كيفت النازية السياسة والعلم والفن والرأى العام على هذا الاتجاه، إذ يرى هتلر أن مصدر كل بلاء نزل على ألمانيا هو إهمالها العنصرية وتصاهرها مع اليهود الذين أضروا بالأخلاق والتقاليد الجرمانية الموروثة، وكذلك المسيحية اليهودية التى لا تمثل إلا أخلاق اليهود. وهذه كانت نظرية الفيلسوف نيتشة الذى كان يصف الأخلاق المسيحية بأخلاق العبيد، وكذلك شامبرلن وغيرهما. لذلك أكره هتلر جميع العلماء والمؤسسات العلمية على تطبيق هذه النظرية، وقاوم كل نظرية تدعو إلى الأممية وإلى المساواة بين الشعوب . ومثله فى ذلك عقيدة الزعامة حيث صور الشعوب كالهرم أيضاً، قاعدته متسعة يضم فى أسفله الشعوب الزنجية والأقوام الابتدائية، ثم يضيق شيئأ فشيئاً حتى يصل إلى القمة حيث هناك الشعوب الجرمانية الألمان والسكاندناويين والدانمارك، وفى قمة هذا الهرم تماماً تكون ألمانيا. (أنظر كتابDietrich Klagges Geschicbts Unterricht ص ١٤٠) وهكذا طبق هتلر عقيدة الزعامة الفردية على الزعامة الأممية، فكما أن هتلر هو زعيم الألمان الذى يجب أن يطاع لما له من مواهب الزعامة الموهوبة الفطرية(1) فكذلك يريد أن يجعل شعبه فى قمة الزعامة الأممية التى لا يرتقى إلى مصافها شعب
كان من الطبيعي أن يعاني العلم والفن من جراء هذه النظرية مصاعب شتى ولا سيما العلوم العقلية منها كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم التربية والسياسة والاقتصاد وخصوصاً التأريخ الذى يعتنى به هتلر عناية خاصة، وخصص له عدة صحائف فى كتابه كفاحى لأنه يرى فى التأريخ خير درس وعبرة للأفراد والشعوب على الطريقة التأريخية القديمة التى تنسب إلى المؤرخ اليونانى توكيديدس Thukydides (٤٦٠ - ٤٠٠ق. م) والمعروفة فى التاريخ باسم Pragmatische Geschichte أو التأريخ التعليمى. وبما أن الطريقة العلمية فى مثل
هذه الموضوعات حرة وآراء الأساتذة مختلفة طليقة تكره التحيز والتعصب، لذلك كانت مهمة العلماء فى مثل هذه الموضوعات صعبة جداً. والنتيجة المنطقية لذلك كانت إحجام الكثير منهم عن التأليف وتبيان آرائهم بصراحة، وإجهاد الفكر لإيجاد براهين جديدة لتحقيق نظرية الزعامة وقلب العلم رأساً على عقب. ولو تصور القارئ مثلاً أن علم التاريخ حسب هذه النظرية يجب أن يقلب رأساً على عقب تماماً عرف صعوبة المهمة الشاقة ونظر العلماء الأجانب إلى أمثال هذه الآراء. فالنظرية النازية الجديدة فى التاريخ ترى أنه من الكفر الابتداء منذ اليوم بالتاريخ القديم بممالك الشرق الأدنى كالمصريين والبابليين والأشوريين، بل ترى فى ذلك الخطأ الفادح لأن من عقيدتها أن الحضارة الجرمانية أساس الحضارات، ومن الجرمان أخذت الشعوب الشرقية حضارتها مستدلة بذلك على نظريات الهجرة، وتوسع السكان الذى جرى ولا يزال يجرى إلى الآن، وعلى حفريات تقوم بها المؤسسات الألمانية ثم تحكم هى بنفسها على تقدير أعمار المكتشفات الأثرية وقدمها. ولا شك أن ذلك مما يسخر منه علماء الأقطار الأوربية الأخرى ولا يدينون به، وكذلك علماء ألمانيا أنفسهم، ولكن السياسة طبعاً هى التى تتغلب الآن على العلم(1)
يقسم علماء التاريخ اليوم فى ألمانيا العالم إلى قسمين: شعوب سياسية تنشئ التاريخ وتكونه وهى الشعوب الجرمانية طبعاً، وشعوب غير سياسية وهى التى لا تلعب دوراً فى التاريخ ولا فى السياسة بل يلعب بها وهى الشعوب السامية والزنجية وغيرها(2). ويصرح هتلر بهذه الفكرة فى كتابه كفاحى، ويرى فضلاً عن ذلك أن التاريخ هو محصول الأفراد لا الشعوب، أى أن الزعماء هم الذين يكونون التاريخ لا الجماعة، إذ الجماعة تساق فتنساق وتؤمر فتطيع(3) ومن أجل ذلك أمر بكتابة تاريخ جديد، وأنشأ تاريخاً عاماً للعالم يستند إلى أساس العنصرية فيبدأ بالجرمان وبالشعوب الأوربية السياسية المكونة للتاريخ وينتهى بالشعوب التى لم تلعب دوراً فى دوراً في السياسة، فتفحص فحصاً من جديد، وكل ما وجد فيها من حضارة يسند إلى الآرية كما فعل الفريد دوزنبرك فى كتابه (خرافة القرن العشرين) Der Myttus des 20 Iahrunderts فى
الفصل الذى كتبه عن الحضارة العربية الإسلامية وكان من جراء هذه النظرية تعديل الكتب التاريخية ومناهج البحث ووضع قواعد ثابتة للتأريخ وفق القيم النازية، ولقد لخصها الوزير الألمانى ديترش كلاكس فى كتابه التأريخ Geschichts Unterricht بما يأتى :
إن الحياة كفاح، والشعوب ليست بشىء أبداً دون زعيم، والشعب هو مستقبل الفرد، والمواطنين يرتبط بعضهم ببعض فى السراء والضراء على قاعدة العنصرية والدم، وكل خائن عقابه القتل. يموت الفرد ويبقى الشعب، ولكن الشعب يجب أن يكون خالصاً نقياً كما أن الدولة يجب أن تكون نقية ذات عنصر واحد. ولكى تعيش هذه الشعوب تحتاج إلى قوى وجهاد وأسلحة وعتاد إذ بدونها لا تعيش الأمم. وبين هذه الأمم اختلاف فى العقل والجسم، وفى مقدمة هذه الأمم الأمة الألمانية؛ لذلك فإن كل من ينادى بالأممية وبالتطور البشرى وبحقوق الشعوب يجب عقابه عقاب مفتر كذاب، إذ أن الطبيعة البشرية تناقض ذلك. والشعب السعيد هو الذى يخضع لزعيم مطاع. والعنصرية هى مفتاح تاريخ العالم. (أنظر ص ١٤١ - ١٤٣) .
هذه هى نظرية الوطنية الاشتراكية وعقيدتها التى تتمسك بها وكل ما يتعارض مع هذه العقيدة ينظر إليه نظر المسلم إلى الكفر والإلحاد، لذلك فالماسونية والشيوعية والديمقراطية والأديان العالمية التى تساوى بين الشعوب والأفكار الأممية كلها آراء فاسدة تتعارض حسب نظرها مع الطبيعة البشرية والتأريخ. هذه هى فلسفة النازية، من أدرك شكل هذا الهرم الذى يمثل الزعامتين عرف المذهب تماماً وأدرك سبب كره هتلر للمبادئ المذكورة. ولعل فى نفسية هتلر وقسوة العالم الخارجى بعد الحرب العظمى على ألمانيا هى الباعث على تطرف الألمانية الوطنية هذه

