لعل أفزع فاجعة صادفت الإنسان الأول فى حياته هى فاجعة الموت : فإن ما يكتنفها من أسرار وغموض أثار كوامن النفس الإنسانية ، وحفزها على البحث عن تفسيرات تخفف من هول وقع المنية على الإنسان ، وتخلصه من حيرته على مصيره المجهول . إنه يفقد من حين لآخر عزيزا عليه يذهب حيث لا يعلم بدون عودة ، ويشق عليه أن يموت ولا يدرى إلى أين يذهب ومتى يعود . ولكن لابد من حل لمشكلة الموت يسكن من روعة النفس ويحد من شدة قلقها ، ويمكن فى الوقت ذاته أن يستسيغه العقل ويرتاح إليه . فكان من أولى الحلول التى وصل إليها الإنسان فى تبرير الموت هى فكرة التناسخ التى توحى بما كان يجيش فى نفس الإنسان منذ القدم بأن الموت لا يفنيه وأنه باق ويعود بعد الموت إلى حياة جديدة ، وتصور لنا كيف لجأ الإنسان إلى خياله الساذج فأوهمه بأن الروح تعود بعد الموت متقمصة فى أبدان البشر أو فى أجسام الطيور والحيوانات والحشرات والأسماك أو فى سيقان الأشجار وعيدان النباتات .
ولقد تفاوت حظ الشعوب القديمة فى تصوير التناسخ بتفاوت الحضارات والثقافات . فآمنت بعض الشعوب البدائية أن روح المتوفى تتقمص بدن فقيده عند ولادته ، بينما تتقمص أرواح النبلاء وسادة القوم أجسام حيوانات قوية مقدسة كالثعبان ، وتتقمص أرواح الطهرة الأبرار أجسام الطيور الجميلة المغردة . أما أرواح الأشرار والصعاليك فلا تتقمص إلا أجسام الحيوانات الخبيثة والحشرات الوضيعة والزواحف الحقيرة . وتبدو عقائد الشعوب البدائية فى التاسخ الأرواح ساذجة غير ناضجة ينقصها الكثير من الجمال الخلقى الذى يمتاز به التناسخ الهندى ، أو التناسق الفكرى الذى يتسم به التناسخ اليونانى ، إلا أنها تعبر عن بعض المشاعر الاجتماعية الخاصة بهذه الشعوب البدائية ؛ فإن إحساس البدائى بحاجة الأسرة الماسة إلى رعاية الأب دفعه إلى الإيمان
بعودة الآباء والأجداد فى أبدان الأبناء والأحفاد الذين يقدرون أن يقوموا بما كان يؤديه الآباء والأجداد ، فلا يحس أفراد الأسرة بفقد العائل مما يساعد على صيانة كيانها . وإن إحساس البدائى بحاجة القبيلة إلى حماية زعيمها يدعوه إلى الاعتقاد بعودة الزعماء فى أجسام حيوانات قوية مرهوبة تقدر أن تقوم بما كان يقوم به الزعماء من حماية القبيلة والذود عنها . وبذلك تبين لنا عقيدة تناسخ الأرواح عند الشعوب البدائية كيف تخفف من مصائب الموت على الأسرة ، وكيف تشيع فى النفوس الأمن والاطمئنان وكيف تعمل على تماسك رابطة الأسرة ، وتحافظ على كيان المجتمع القبلى واستقراره . فهى تقيه من أشرار الموت وتبعث فيه الثقة فى الحياة .
أما عن التناسخ الهندى فلم يقف عند سذاجة التناسخ البدائى وبساطته وإن كان يظن أنه أساسه واستمد أصوله منه ، إذ أضاف عليه مسحة خلقية جميلة فاضت بها نفوس الهندوس الروحية عندما تكاملت ثقافتهم الدينية . إن كتاب الفيدا وهو الكتاب الأول المقدس للهندوس لم يشر من بعيد أو قريب إلى التناسخ ولم يذكر عنه شيئا على الإطلاق ، بينما كتابا اليوبا نيشاد والبرهماناس وهما كتابان دينيان يفلسفان الديانة الهندوسية ، يتكلمان عن التناسخ على أنه أمر مسلم به لا يحتاج إلى برهان ، وحقيقة بديهية لا داعى لمناقشتها ، مما ينم عن إيمان الهنود العميق بالتناسخ . ومما يؤيد هذا الزعم اتخاذ جانى وبوذا حقيقة التناسخ دعامة أساسية لتوطيد تعاليمهما المناهضة للشعائر الفيدية والتعاليم الهندوسية . وهكذا آمن الشعب الهندى علي اختلاف طوائفة فى شتى عصوره بالتناسخ ، ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا مدارس مادية ثم ينتم إليها سوى أفراد قلائل ، ولم يكن لها أثر يذكر على المجتمع الهندى ، وأهم هذه المدارس المادية مدرسة كارافاكا ، وهى تزعم أن الروح تفنى بالموت ولن توجد حياة أخرى ، ولذلك يجب
أن نحصر غايتنا فى طلب اللذة الحسية والمتعة الوقتية . ولكن لم يكتب لهذه الأفكار العمر الطويل ، وسريعا ما انقرضت واتمحت من المجتمع الهندى لأنها تعارض أسس اتجاهاته الروحية .
وللهنود ثلاثة تعاليم رئيسية فى التناسخ تختلف باختلاف فهمها لحقيقة الله أو حقيقة الروح . فالهندوس الذين يؤمنون ببراهما على أنه الروح الكبرى أو الله ، ويؤمنون بالروح الفردية على أنها إحدى مظاهر الروح الكبرى فى الكون ، يرون أن روح الفرد تنتقل من جسد إلى جسد بفعل الله فى سلسلة متتالية من الولادات ، وأن ما يحدد نوع الجسد هى كارما الإنسان أى حسب سلوكه فى الحياة الأرضية السابقة ومدى معرفته بالحقيقة المطلقة ، فإذا كان الفرد صالحا نقيا يقوم بالشعائر الفيدية ، ويؤدى الطقوس الهندوسية ، ويقدم القرابين ، ويمنح رجال الدين العطايا ، ويتمسك بالفضائل من طهر وعفة وتسامح وكرم وضبط نفس وتعاون ويتجنب المعاصى من سرقة وقتل وإيذاء ، ثم أدرك أن هناك وجودا شاملا يضمه برهما ويحل فيه ، وآمن بأنه ليس فى الكون شئ منفرد بذاته وأن ما يبدو فيه من تعدد ما هو إلا مظهر متعدد لشئ واحد هو برهما ، وأن الشمس مظهر متعدد لشىء واحد هو برهما ، وأن الشمس والقمر والماء والأرض كلها مظاهر متنوعة لحقيقة واحدة خالدة يتجلى فيها برهما ، فإن روح هذا الإنسان تتقمص فى ولادتها المقبلة جسدا أرقى إنسانية وأسعد حالا من الجسد السابق . وإذا استمر فى حيواته المتتالية فى اتباع تعاليم الدين وفعل الخير وتجنب الشر وأدرك حقيقة اتحاد الكون ببرهما ، فإنه يعمل على التخلص من سلسلة الولادات المتعاقبة التى تفرض عليه متاعب الحياة وآلامها ، ويأخذ فى الارتقاء فى سلم الوجود حتى تفنى روحه فى برهما ويشعر بأن روحه وبرهما شئ واحد ، وأنها متغلغلة فى الوجود تتمتع بسعادة تامة وتحظى بسرور سرمدى . أما إذا اتبع الإنسان السلوك الرذيل وامتنع عن أداء العبادات الدينية وارتكب الآثام ، أو جهل حقيقة وحدة الوجود ، وميز بين الله والروح والكون ، فإن روحه تولد فى بدن أحط إنسانية من بدنه السابق تقاسى فيه ألوانا متضاربة من الآلام والأحزان ، وإن داوم فى حيواته المقبلة على إهمال الدين ، وتجاهل الفضائل ، وإغفال حقيقة اتحاد الوجود ببرهما ، فقد
تتقمص روحه جسم حيوان أونبات حسب عظم جرائره . أما إذا تمادى فى اقتراف الذنوب ، وتمسك بإنكار الحقيقة المطلقة ، فقد يعرض روحه للزوال والتلاشى من الوجود . فارتكاب الخطايا هو الذى يعلقنا بالأرض ، ويسبب عودة الروح إلى تلك الحياة البغيضة المليئة بالمصاعب والمتاعب ، ولا ينقذنا من قسوتها سوى ارتسام خطى الدين وفعل الخير وإدراك حقيقة اندماج الكون فى برهما ، وذلك عن طريق سيطرة النفس على الأهواء والشهوات ، وتحريرها من إغراء الرغبات وإغواء اللذات .
وآمن جانى كغيره من الهنود بالتناسخ ولم يقدم على رفضه كما رفض الشعائر الفيدية والتعالم الهندوسية . لقد حرم تقديم القرابين وأنكر وجود برهما أو الله ولكنه سلم بأن هناك أرواحا فردية متعددة يندس فى ثناياها أضراب من الكارما يختلف مفعولها باختلاف سلوك الأفراد ، وهى عبارة عن قوى مادية تنجس طهارة الروح وتسبب ولادتها من جديد ، وتجلب لها الآلام ، ويبدو طغيان الكارما على الروح عند ما ينغمس الفرد فى ملاذ الحياة المادية ، ويلى نداء الشهوة ، ويخضع لسلطان الحواس والانفعالات ، فإن سادت الكارما على الروح ضعف الأمل فى تخليصها من سجن الجسد ، بل يتأكد عودتها إليه بعد كل موت ، إذ لا سبيل لإيقاف سيل ولادات الروح المتجددة إلا بالقضاء على الكارما قضاء تاما ، أى بالقضاء على الرغبات والانفعالات والحواس ، وبالتمسك بالفضائل وفعل الخير والابتعاد عن الشر ، وبالتمثل بالزهد الصارم والمجاهدة المضنية والرياضة القاسية من أجل إهلاك الإحساس والشعور وإماتة العواطف والشهوات وبذلك تضعف قوة مفعول الكارما تدريجيا حتى تبلى وتفقد سطوتها وتتحرر الروح من قيودها المادية وتصبح نقية صافية خالية من شوائب المادة والحس . وعندئذ لا يوجد ما يدعوها لتعود إلي العالم الأرضى ، وتنجو من دائرة الولادات المتعاقبة وتصعد إلى العالم العلوى وتصل إلى مرتبة " العالم بكل شئ " الذى تتسع معرفته لكل ما يوجد فى الكون من كائنات ، ويحيط فهمه بكل ما يدور فى العصور من أحداث وظواهر وحركات ، ولا تغيب عن إدراكه صغيرة أو كبيرة وينعم بسعادة مطلقة لا أثر فيها للحزن أو الألم.
والمذهب الهندى الثالث فى التناسخ هو مذهب بوذا
الذى لم يكتف بالإيمان بعقيدة التناسخ ، وإنما اتخذ منها سندا يوضح به تعاليمه ، إذ وجد فيها ما يغنيه عن الاعتراف بوجود الله أو تقرير حقيقة الروح . فإذا أنكر جانى وجود الله فإن بوذا لم يحاول أن يؤكد هذا الوجود أو ينفيه لأنه لا يعرف عنه شيئا ، وبعيد عن محيط خبراته وتجاربه . وكذلك لم يحاول أن يقرر حقيقة مجردة للروح أو ينكرها ، لأنه لا يرى فى الإنسان إلا حواس وعواءف وشعورا وأفكارا وأمثالا ، ولا يدرى عن كنه الروح شيئا . ولكنه وجد فى الوقت نفسه فى عقيدة التناسخ ما يكفيه لتفسير تعاليمه الروحية دون أن يتورط فى ذكر حقائق مجردة مثل الله والروح تغيب عن إدراكه فرأى أن الكارما وهى مجموعة أفعال الإنسان هى التى تنتقل من جسد إلى جسد لا الروح ، وأن نوع أفعال الإنسان أى الكارما هى التى تحدد نوع حياته الجديدة تحديدا طبيعيا بدون تدخل قوى غريبة سماوية كانت أو أرضية . فإن كانت الكارما صالحة تولد مرة ثانية فى حالة أرقى مما كانت عليه قبل ذلك ويعيش الفرد حياة أسعد ، وتقل عدد ولاداته المستقبلة ، ويقرب من النرفانا حيث السعادة القصوى . أما إذا كانت الكارما طالحة فإنها تتقمص جسدا أحط من جسدها السابق يهدد الفرد بحياة تعيسة ويزيد عدد ولاداته المقبلة ويبعده عن النرفانا . ولا يمكن لأحد أن يصير صالحا ويفلت من دولاب الحياة والموت الدائر ، أو يقف سيل تدفقهما المستمر ويصل إلى السعادة القصوى ، إلا إذا أدرك الحقيقة المطلقة وآمن بها إيمانا راسخا قويا وأخلص فى تحقيقها إخلاصا صادقا . وتقوم هذه الحقيقة على أن الألم أساس الحياة ، وأن العذاب يشملها من كل جانب ويغمرها الشقاء من جميع الجهات ، إذ يصاب المرء فيها بمحتلف الأمراض المرهقة ، ولا يتمتع إلا بلذات وقتية لا تدوم يعقبها حسرات مريرة تشيع القلق والريبة ، ويتوعده عجز الشيخوخة الذى يقعده عن أى عمل ويحوجه للغير ويعرضه للمخاوف والأشجان ، وتهدده المنية وأهوالها فى كل خطوة فتثير فيه الفزع الدائم . وكل هذه المصائب وغيرها من متاعب الحياة تسبب للإنسان آلاما قاسية توقعه فريسة الاضطراب والشك ، وتدب فيه الخوف وتملأه بالحزن . ومما يزيد من لهيب هذه الآلام تعلق الإنسان الشديد بالحياة ،
وشغفه الزائد بلذاتها الفاتنة الزائلة . وجهله المطبق بأن الألم أساس الحياة ، وغفلته عن أن الانغماس فى ملذاتها لن يجلب إلا الشقاء ، ويجدد ظهور الكارما على وجه الأرض لتعانى آلام الحياة ومنغصاتها ، وإن السبيل الوحيد للنجاة من هذه الآلام هو قطع كل رابطة تربطنا بالأرض والتحرر من أسر مغتريات الحياة المشتهاة باتباع النهج القويم الذى يتطلب من الفرد أن يتمثل بالفضائل ، ويفعل ما يفيد وينفع ، ولا يؤذى أحدا لا بالقول ولا بالعمل ، حتى يصل إلى نوع من الطهارة الخلقية يهىء الذهن لضرب من الصفاء العقلى ولا يرد عليه خواطر خبيثة أو أفكار شريرة ، ولا تعوقه مشاعر منحطة ، ويتأمل تأملا هادئا خاليا من الشك والريبة ولا يفسده الخوف والحزن ولا يشغله الألم . فيدرك الحكمة الخالدة ويعرف أن الألم أساس الحياة وأن السبيل الوحيد للخلاص هو قطع كل رابطة تربط الإنسان بالأرض . و بتحقيق الطهارة الخلقية والنقاء الفكرى تخرج أفعال الفرد من نطاق الخير والشر ومن مجال الفضائل والردائل ، ويبتعد عن كل ما يتعلق بالأرض من قيم وحاجات ، فينعدم السبب لولادة الكارما من جديد ، وتفنى من الوجود ويقف الإنسان فى النرفانا حيث الحياة الهادئة والنعيم المقيم ، حيث لا حياة يعقبها موت ولا موت يليه حياة
وهكذا تمتاز شتى عقائد التناسخ الهندى بطابع خلقى رفيع وصبغة روحية متعالية لا تجد لها مثيلا عند الشعوب البدائية . إن الهندوسية تبشر الإنسان التقى الورع بأن يصير إلها . وتعد الجانية الإنسان المتقشف الطاهر بالصعود إلى عالم علوى يرتقى فيه إلى مرتبة الإله العالم بكل شئ . وتمنى البوذية الإنسان الفاضل الزاهد بالنرقانا حيث السعادة الحقة . وتنذر هذه العقائد الثلاث الإنسان الضال الفاسق بحيوات متتالية ييبدو فيها فى صور متعددة تعوقه عن التحرر من الحياة الأرضية ، وهى غاية العقائد السالفة الذكر ، بينما تهدف عقائد البدائيين فى التناسخ إلى أغراض اجتماعية تقصد خدمة المجتمع وصيانة الحياة الإنسانية من القلق والاضطراب ، وإلا أنها تخلو من دافع سام يطلب الكمال ، ولا يبدو فيها من السمات الخلقية إلا لون ساذج باهت لا يكاد يلحظ .
