الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 590الرجوع إلى "الثقافة"

على بن الجهم, على بن الجهم

Share

كنا نقرأ لعلي بن الجهم قطعا متفرقة في كتب الأدب هنا وهناك ، فنعجب بشعره لأصالته وجزالته وحسن معانيه ومتانة أسلوبه ، وتجنبه الإمعان في الخيال والتعقيد في التركيب والغلو في المحسنات ، وكنا نتمني أن نري شعره مجموعاً في ديوان أو كتاب ، حتى تكل صورة الشاعر فيستمتع القارئ ويستفيد المؤرخ والناقد .

حتى طلع علينا الأستاذ خليل مردم بك بهذا الديوان على أكمل وجه ، وأتم صورة ، منفحاً مضبوطاً مع تعليقات دقيقة وتصحيحات بارعة .

ولم يكتف بما عثر عليه من نسخ الديوان ، فأضاف إليه ما وجده مبعثرا من شعره في كتب الأدب مما لم يرد في الديوان ، ثم قدم له مقدمة واسعة جامعة في تاريخ حياته . ومذهبه الدينى والسياسي وقيمة شعره ونسخ ديوانه . فجاءت واقعية بالتعريف به ، منسجمة في الدقة والشمول مع ما بذله من الجهد في جمع شعره .

وأنا أستأذنه في أن أسئلهم ما كتب في مقدمته لتعريف القراء بشيء عن ابن الجهم .

فهو شاعر من فحول الشعراء العباسيين ، عربي قرشي ، استوطن أهله خراسان فكان خراسانياً أيضا ، والناس يخطئون كثيراً ، فيظنون أن من نسب إلى خراسان أو إلى أي بلد من بلاد الفرس يكون فارسياً ، مع أن كثيراً ممن انتسبوا إلى بلد فارسي كانوا عربيا في نسبتهم فرساً في موطنهم ، وكذلك الشأن في العرب الذين نزلوا الشام أو مصر أو المغرب أو الهند ، فهم عرب النسبة عجم الموطن . وعلى ابن الجهم من هذا القبيل .

وكان يعتز بنسبه العربي القرشي ، كما يعتز بخراسانيته ، وكانت هذه الخراسانية عزاً في الدولة العباسية ، إذ قامت الدعوة والدولة بسيوف الخراسانيين وعلى أكتافهم ، فكان نسل هؤلاء الجنود الخراسانين يسمون الأبناء ، أى أبناء الجنود الفاتحين الذين أزالوا الدولة الأموية وأحلوا محلها

الدولة العباسية ؛ فكان على بن الجهم هذا من الأبناء ، وكان لذلك يعتز بأسرته القريبة ، فالجهم أبو علي أحد كبار الموظفين في عهد المأمون والواثق ، ومحمد بن الجهم أخو على كذلك يعد في كبار الموظفين . وفي كبار ذوي الرأي والمتفلسفين . يقدره الجاحظ كثيرا ويستشهد بكلامه ، ويصفه ابن قتيبة فيقول إن مصحفه كتب أرسططاليس ، هذا إلى سعة اطلاعه في الأدب ، وكثرة روايته للشعر .

أما علي شاعرنا فيظهر من سيرته أنه كان - كما نسميه اليوم - من " أولاد الذوات " الذين ينشأون في بيت عز وثروة ، ولا يهتمون كثيرا بتحصيل العلم ، فيعيشون عيشة بوهيمية مملوءة بالشراب والقيان . فإن كان لديهم ملكة طبيعية فنية صحبوا الفنانين وأخذوا عنهم فنهم في أوقات لهوهم وشرابهم ، وساعدتهم هذه المعيشة الناعمة على نمو شعورهم الفني ، فيظهر أن على بن الجهم كان من هذا القبيل ، ظهرت شاعريته وهو في الكتاب ، ولعله تأثر برواية أخيه لأشعار العرب وسماعه عنه . وكان يتردد وهو شاب على المسجد الجامع ببغداد إذ كانت فيه قبة يجتمع فيها الشعراء كل جمعة ينشدون فيها الشعر ويسمع بعضهم إلى بعض ، ويتعلم بعض من بعض ، وينقد بعض بعضاً ؛ فكانت مدرسة لطيفة ظريفة كل فيها مدرس وتلميذ . وصحب ابا تمام والبحتري وقارضهما الشعر ، وأعجب بهما وأعجبا به ؛ ولا يغرنك ما يروي من أنه لقي الإمام أحمد بن حنبل وسأله عن القدر فأجابه ، فهي حادثة جزئية عابرة لم تنشأ

عن ثقافة دينية واسعة ولا عمق في التفكير الديني ، ولا تدل على صلاح وتقوي ، وإنما كان سؤالا أوحت به البيئة ، فقد كان الجو كله مملوءا بالحديث في القدر مما أثار عباره المعتزله وخصومهم وقد تقسمت النزعات السياسية والمذاهب الدينية الشعراء والكتاب والمؤلفين في ذلك العصر ؛ فشعراء يؤيدون العلويين ويشعرون لهم كدعبل الخزاعي ، وشعراء يؤيدون العباسيين ويشعرون لهم ، وهؤلاء الأخيرون بالطبيعة

أكثر عددا ، لأن العباسيين بيدهم السلطة والمال والجاه يمنحوها لمن يشاءون من مؤيديهم ومن ينتصرون لهم . أما الشيعة فليس لهم إلا النفي والسجن والعقاب . كذلك المؤلفون ، فزعيم المعتزلة الجاحظ ، وزعيم السنية ابن قتيبة . وقد كان من الطبيعي ان يكون على بن الجهم عباسي المذهب . فأصله من جنود خراسان ، واسرته من كبار عمال العباسيين .

ولكن يستوقف النظر أنه سني يكره المعتزلة ويشنع عليهم . ولعل سبب ذلك أن الاعتزال يتطلب ضربا من الفلسفة وضربا من الثقافة الخاصة العميقة الواسعة كثقافة أخيه ، أما هو فمحدود الثقافة ، فأشبه به أن يكون من جمهور الناس وهو شاعر فقط لا فيلسفوف ولا متكلم ، ثم كان ازدهاره ونضجه في أيام المتوكل ، والمتوكل عدو المتزلة ونصير أهل الحديث ، ولم يبال بصولة الوزيرين الكبيرين محمد بن عبد الملك الزيات وأحمد بن ابي دواد المعتزليين قدمهما وهجاهما هجاء مراً .

يصرف حياته كما يصرفها الشبان المترفون من أهل الفن ، شراب ومنادمة وقيان وغزل ومطارحة شعراء ، في سماحة وشهامة وكرم ومروءة ، واتصل دهراً بالمتوكل فكان نديمه ينشده شعره ، ويطلع على أسراره ، ويسامره ، ولا يخفي عليه شئ من أخبار القصر والجواري والغلمان وما إلى ذلك وكان يشاركه في هذه المنادمة البحتري والحسين بن الضحاك وغيرهم من المغنيين والأطباء والضحكين ، ولكنه كان أعزهم نفساً ، وأعلاهم شأنا ، وأشدهم إلى المتوكل قرباً ، فيحكون انهم حسدوه على منزلته قدسوا له الدسائس حتى تم عليه المتوكل وحبسه ، ولكن يظهر أنه ارتكب غلطاً مكن خصماءه من النيل منه . أما ما هي هذه الغلطة : - أتصاله بحظية من حظايا المتوكل أو قولة قالها وهو سكران قال فيها من المتوكل أو شيء غير ذلك - فلم تقف فيها على خبر صحيح يدل على هذه الزلة . وقد شدد عليه المتوكل في حبسه ووضعه في الأغلال ، فقال في حبسه قصائد كثيرة ومقطوعات رائعة أشهرها القصيدة المعروفة :

قالوا حبست فقلت ليس بضائري

                           حبسي وأي مهند لا يغمد

وأخيرا خرج من سجنه ، وكره الناس ، وعاف

حياتة الأولى ، حياة صحبة أهل الوجاهة ومنادمة الكبراء . وهاجت عواطفه فتطرف في ناحيتين متناقضتين ، احياناً يذهب إلى القبور ويأنس بأهلها انتقاما من أهل الدنيا ، وأحياناً ينغمس في اللهو ، فيقضي أوقاته في بيوت القبان . ثم سئم ذلك أيضا فخرج غازياً يحارب الروم على أثر ذعر عم الناس من انتصار الروم ، فهب الناس للنجدة بأنفسهم وأموالهم ورجا على بن الجهم أن ختم حياته أحسن ختام ، فيموت شهيداً ، وما زال يقاتل حتى قتل . ويذكرون أنه وجد في ثيابه رقعة فيها هذان البيتان :

وارحمنا للغريب في البلد النا

                               زح ماذا بنفسه صنعاً

فارق أحبابه فما انتفعوا

                             بالعيش من بعده ولا انتفعا

هذا كله وأكثر منه يستلهم من البحث اللطيف الذي قدمه الأستاذ خليل مردم بك . والحق أنه مجهود قيم قام به الأستاذ ، ومثل رائع في النشر العلمي والتصحيح الدقيق والصبر المضني .

لقد عثر الأستاذ علي نسخ من الديوان بذل جهدا كبيراً في استحضارها ، وهو ديوان صغير يشتمل على جزء قليل من شعر على بن الجهم ، فلم يكتف الأستاذ بالديوان ، ورأي أن كثيراً من أشعار ابن الجهم مفرقة في كتب الأدب ، فأخذ نفسه يجمعها وضبطها وتصحيحها . والحق - في نظري - أن ما جمعه كتكلمة خير من الديوان نفسه ، فالديوان مملوء بما يصح أن نسميه " الشعر الرسمي " من مديح ونحوه أما التكملة فيسودها التعبير عن المشاعر النفسية الصادقة - عاطفة في الغزل ، وفي الشراب ، وفي الهجاء اللاذع الظريف ، وفي وصف ما أعجب به . . الخ وشعره في كل ذلك جزل لا تقاهة فيه ، جميل جمال الوضوح والبساطة ، وجمال الفكرة ، وجمال العاطفة . وشعره أيام بؤسه أحر منه أيام عزه ، فقد صهرت المحنة نفسه وأشعلتها ناراً أثرت في حرارة شعره . اسمعه يقول :

( البقية على صفحة ٩ )

( بقية المنشور على صفحة ٧ )

نوب الزمان كثيرة وأشدها

                        شمل تحكم فيه يوم فراق

يا قلب لم عرضت نفسك للهوي

                       أو ما رأيت مصارع العشاق

وقال وقد خاصمه صديق ، ثم اعتذر إليه :

لم تذقني حلاوة الإنصاف

                   و تعسفنى أشد اعتساف

وتركت الوفاء جهلا بما في

                       ه فأسرفت غاية الإسراف

غير أني إذا رجعت إلي حق

                           بني هاشم بن عبد مناف

لم أجد إلي التشفي سبيلا

                           بقواف ولا بغير قواف

لي نفس تأبي الدنية والإس

                         راف لا تعتدى على الأشراف

ويقول في الهجاء :

بلاء ليس يشبهه بلاء

                   عداوة غير ذي حسب ودين

يبيحك منه عرضا لم يصنه

                               ويرتع منك في عرض مصون

ويقول وهو في السجن :

المت وجنح الليل مرخ سدوله

                          وللسجن أحراس قليل هجودها

فقلت لها أي تجشمت خطة

                         يحرج أنفاس الرياح ورودها

فقالت أطعنا الشوق بعد تجلد

                         وشر قلوب العاشقين جليدها

وأعلنت الشكوي وجالت دموعها

                          على الخد لما التف بالجيد جيدها

فقلت لها والدمع شتي طريقه

                         ونار الهوي بالشوقي يذكي وقودها

إذا سلمت نفس الحبيب تشابهت

                        صروف الليالي سهلها وشديدها

فلا تجزعي إما رأيت قيوده

                        فإن خلاخيل الرجال قيودها

الخ . . الخ فنهنئ الأستاذ خليل مردم بك على حسن صقيعه ، والمجمع العربي بدمشق على حسن توفيقه

اشترك في نشرتنا البريدية