الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 33الرجوع إلى "الثقافة"

على ذكر الحرب الكبرى :, بين الأمس واليوم، كيف يعيد التاريخ نفسه، لمحرر " الثقافة " السياسي

Share

في فاتحة أغسطس الحالي ، تقع الذكرى الخامسة والعشرون لنشوب الحرب الكبرى ؛ ومثل هذه الذكرى تثير في أيامنا هذه مشاعر وتعليقات من نوع خاص ، وتصور في كل من المعسكرين الأوربيين المتنازعين بصور

متباينة ؛ فترى فيها ألمانيا ذ كرى الحرب العدوانية التي أثارتها الدول الغربية على ألمانيا القوية الغنية لتحطيم قواها ، وتخريب صناعتها ، واستلاب ثرواتها ومستعمراتها ؛ وترى فيها الدول الغربية ذكرى المحاولة العمد التى دبرتها

ألمانيا لتفوز بسيادة أوربا ، وسيادة البحار والمستعمرات ، والتى تحمل ألمانيا أكبر تبعة فيما ترتب عليها من كوارث وفظائع وأهوال مروعة لم يشهدها التاريخ .

وقد أسندت تبعة الحرب الكبرى في معاهدة الصلح ( معاهدة فرساي) إلى ألمانيا ، وبذا قضي عليها بأن تحتمل أعظم الفروض والمغارم التي احتملتها أمة في التاريخ ؛ ولكن ألمانيا أنكرت هذه التبعة ، وما زالت تنكرها ؛ وهي اليوم تواجه خصومها بالأمس ، وقد تحررت من معظم فروض فرساي ، ومحت معظم أغلالها وآثارها . على أن التاريخ لا يستطيع الوقوف عند حكم الغالب أو إنكار المغلوب ، ويجب عليه أن يستند في إصدار قراراته وأحكامه على أسس وأسانيد أخرى غير دعاوي الفريقين المتخاصمين ؛ ونحن لا نقصد أن نشير في هذا الفصل هذه المسألة التي حفيت في معالجتها أقلام المؤرخين والساسة منذ عشرين عاما ؛ ولكنا تريد فقط أن نستعرض بهذه المناسبة بعض أوجه الشبه بين الأحوال والظروف التي انفجر فيها بركان الحرب الكبرى ، وبين الأحوال والظروف التي تجوزها أوربا اليوم ، والتى يخشى أيضا أن تكون مبعث انفجار جديد ، يغمر العالم بكوارثه وويلانه .

لقد انفجر بركان الحرب الكبرى على أثر عدة حوادث ووقائع توالت بسرعة البرق في صيف سنة ١٩١٤ ؛ مقتل الارشيدوق فرانز فرديناند ولي عهد النمسا وعقبته في سياجيفو بقنابل الارهابين السريين ، والانذار النمسوى لسربيا ، ثم التعبئة النمسوية ، وهجوم النمسا على السرب ، وتأييد المانيا للنمسا ، فالتعبئة الروسية ، فالألمانية ، ثم إنذار المانيا لبلجيكا ... الخ . تلك هي الحوادث والتطورات الظاهرة التي سبقت نشوب الحرب الكبرى ؛ بيد أن الحرب الكبرى ترجع في الواقع إلى عوامل وأسباب أقدم

وأبعد مدى ؛ وليس من المبالغة أن نقول إن أوربا كانت في العامين أو الثلاثة التي سبقت الحرب الكبرى تجوز ظروفا تشبه من وجوه كثيرة نفس الظروف التي تجوزها اليوم ، سواء من الناحية السياسية ، أو الاقتصادية ، أو المعنوية .

ومن الخطأ أن نعتقد أن الحالة التي تعاني أوربا اليوم آثارها المضنية ، إنما هي عملية تاريخية مستقلة ، ترتبت بالأخص على آثار معاهدة فرساي ، ثم على قيام الفاشتية والنازية ( الهتلرية) ؛ فهي في الواقع تكاد تكون تكرارا لنفس العملية التاريخية التي سبقت الحرب الكبرى ، وذلك مع فارق الظروف والأحوال ؛ وهي تقوم على كثير من العوامل التى مهدت إلى الأزمة الأوربية التى ترتب عليها نشوب الحرب الكبرى .

كانت أسباب الحرب الكبرى تجتمع تباعا منذ أواخر القرن الماضى وأوائل القرن الحالى في سلسلة من الأزمات السياسية ، والخصومات والأحقاد القومية ، والمنافسات التجارية والاستعمارية ؛ وكان التطرف في النظريات القومية ، وتوالي الاضطرابات الصناعية ، وقيام الحواجز الجمركية ، من ظواهر هذه الفترة ؛ وكانت ألمانيا كما هي اليوم محور هذه الثورة القومية والسياسية والاقتصادية التى ازعجت يومئذ أوربا باتجاها ومقاصدها ؛ وإنه لمن الدهش حقا أن نجد في ظروف ألمانيا الامبراطورية وفي الحركة التي كانت تضطرم بها يومئذ نحو السيادة والغلبة والفتح ، نفس العناصر والخواص التي تمتاز بهاثورةألمانيا الهتلرية ؛ فالنزعة العسكرية ، والتفاخر بالقوة المادية ، والتحدث عن " الدماء والحديد "، ثم عن تفوق الجبش والتنويه بأهمية " الرجل الأمثل " ( السوبرمان) الذى تصوره الفيلسوف نيتشه ، وجعل غايته المثلى إحراز القوة ، وتبرير أية وسيلة في سبيل إحرازها ، كانت من العناصر البارزة في وثبة ألمانيا الامبراطورية في

أوائل هذا القرن ؛ وما نشهده اليوم في وثبة المانيا الهتلرية من التعصب القوى والإغراق في نظرية الآرية والتفوق الجنسي ، وتمجيد القوة الغاشمة ، والتهديد باستخدامها لتحقيق المطامع القومية بصرف النظر عن اي اعتبار أو حق ، والتغني مثل الفتح القديمة ، ليس إلا صورة جديدة مما كانت تجيش به ألمانيا الامبراطورية ، وما ينادى به اليوم زعماء النازية من حق ألمانيا في " الفضاء الحيوى " إن هو إلا صيحة ألمانيا الامبراطورية للحصول على مركزها " تحت الشمس " ، وهكذا مما نجده درزا من أوجه الشبه بين الحركتين .

أضف إلى ما تقدم أن ألمانيا الهتلرية تعاني من جراء حركتها الجديدة نفس المتاعب التى كانت تعانيها ألمانيا الامبراطورية ؛ فالأضطراب الاقتصادي والإغراق فى النفقات العسكرية ، وفداحة الضرائب ، وانهيار التوازن المالى ، والحاجة الملحة إلى المواد الأولية ، كلها من وجوه الضعف التى تعانيها اليوم مثلما كانت تعانيها قبيل الحرب الكبرى .

وألمانيا الهتلرية تتجه في نزعتها الاستعمارية نحو شرقى أوربا والجنوب الشرقى ، كما كانت ألمانيا الامبراطورية ؛ وهي تتطلع بنوع خاص إلى موارد الغلال والبترول الواقعة فى هذا الاتجاه ، لتعتمد عليها ، متى نشبت الحرب ، وعرضت لضغط الحصار الاقتصادي .

وهكذا نجد أنفسنا فيما يتعلق بحركة ألمانيا الهتلرية أمام نفس المطامع والنزعات التي كانت تجيش بها ألمانيا الامبراطورية ، والتي كانت في مقدمة العوامل التي أدت إلى إضرام نار الحرب الكبرى .

ونجد من الناحية الأوربية العامة نفس العوامل تحدث اثرها ؛ فميزان القوي الأوربية الذي تحرص الدول

الكبرى على عدم الإخلال به ، قد اضطربت أوضاعه من جراء استيلاء ألمانيا وإيطاليا على النمسا وتشيكوسلوفاكيا وألبانيا ، ومن جراء بسط ألمانيا لنفوذها على أوربا الوسطى بصورة تهدد بعض الدول المستقلة الأخرى مثل المجر ورومانيا ويوجوسلافيا ؛ وفي البحر الابيض المتوسط ترى إيطاليا تحاول الإخلال بتوازنه القديم ، وتحاول تهديد مركز بريطانيا العظمى وفرنسا فيه ، سواء بتسليحاتها الخاصة أو بتحريض أسبانيا الوطنية بعد أن عاونتها على إحراز النصر ، على مناوأة انكلترا وفرنسا .

ومن جهة أخرى فإن الدبلوماسية السرية التي انساقت إليها الدول الأوربية قبل الحرب تعود اليوم فتلقي حجابا على اتجاهات بعض الدول ونياتها الحقيقية ؛ وألمانيا الهتلرية تغرق بالأخص في هذا النوع من الدبلوماسية ؛ وقد ظهر من الضربات الفجائية التي قامت بها المانيا وإيطاليا فى أوربا في العامين الأخيرين ، انهما تضمران معا طائفة من المشاريع السياسية والعسكرية السرية التي يقصد بها إلى القضاء علي توازن أوربا القديم ؛ ثم إنه يبدو من جهة أخري ان اليابان قد تشترك معهما في تنفيذ هذه المشاريع السرية ، بالقيام بدورها في الضغط على الدول الديمقراطية في الشرق الأقصى .

هذا من ناحية التمائل في العوامل والظروف بين الفترة التي سبقت الحرب الكبرى ، وبين الفترة التي تعانيها أوربا اليوم وتتوجس شرا من آثارها .

والواقع أن أوربا قد شعرت في العهد الأخير غير مرة انها تنحدر إلى شفا الهاوية ، وانها توشك ان تكتوى ينيران الحرب مرة أخرى ، وما زال هذا الشعور يحاصرها ويسيطر عليها .

ولكن توجد ثمة فوارق في الظروف والأحوال يجب ان يحسب حسابها فى تقدير الموقف .

لقد دخلت ألمانيا الحرب الكبرى ، بعد أن استمدت لدخولها زهاء ربع قرن ، وأنشأت أسطولها العظيم ليقيها شر الحصار البحري ، وكانت منذ خروجها ظافرة من الحرب السبعينية ، أقوى دول القارة ، وكانت تتمتع بموارد أفضل ، ولها امبراطورية استعمارية ؛ أما اليوم فإنها بالرغم مما بلغته من التفوق العسكري في البر والهواء ، لا يمكن أن تعتبر في مثل قوتها ومنعتها قبيل الحرب الكبرى ؛ فقواها العسكرية الضخمة يشوبها نوع من الارتجال ؛ وقوسها البحرية لا يعتد بها ؟ ومع أنها استولت على معظم أراضى الامبراطورية النمسوية القديمة ، فإنها تعاني من نقص شديد في الموارد ، وليست لها اليوم مستعمرات.

ويلاحظ أن إيطاليا كانت ترتبط مع ألمانيا والنمسا برابطة التحالف حينها نشبت الحرب الكبرى ؛ والتاريخ اليوم يعيد نفسه ، فإيطاليا تقف اليوم إلى جانب ألمانيا ، لكن ماذا تنوي أن تفعل غدا ؟ هل تنوي أن تعيد لعبتها في الحرب الكبرى ، فتترك حليفتها لتنضم إلى جانب أعدائها ؟ هذا ما لا يمكن التكهن به ؛ وإيطاليا على أي حال أقوى اليوم بكثير مما كانت عليه في الحرب الكبرى ، غير أنها تعانى مثل حليفتها من نقص الموارد ؛ والدور الذي ينتظر أن تقوم به في البحر الأبيض وهو مناوأة انكلترا وفرنسا يعرضها لأعظم الأخطار .

وألمانيا تواجه اليوم نفس أعدائها بالأمس ؛ غير أنها تواجههم اليوم ، وهم على قدم الأهبة والاستعداد، ولا سبيل إلى أخذهم على غرة كما حدث في الحرب الكبرى ؛ والاتفاق الودى أشد ما يكون اليوم توثقا بين فرنسا وبريطانيا العظمى ؛ والسياسة البريطانية لا تعرف اليوم شيئا من ذلك التردد الذي أبدته قبيل نشوب الحرب

الكبرى ، وكان من عوامل تشجيع ألمانيا على إضرام نارها. والخلاصة أننا نشهد نفس المقدمات التي سبقت مأساة سنة ١٩١٤ ، وقد نشهد المأساة نفسها بين آونة وأخرى.

فهل نستطيع أن نتطلع فى هذا الليل إلى بارقة أمل ؟ وهل يمكن ان تمثل عبرة الحرب الكبرى أمام أوربا المضطرمة بكل روعتها ، فتعمل بكل ما وسعت على اتقاء كارثة جديدة ؟ وهل يقدر أولئك الذين يلعبون بالنار ، ويعبئون بطمأنينة الأمم وبلوحون بالحرب لأحلام عظمة وسيادة وأمبراطوريات يهجسون بها ، روعة المنحدر الذى يزلقون إليه ، وينزلق إليه العالم كله فيجنحوا إلى شئ من الروية والاتزان ، ويعملوا مع العاملين لصون السلام والمدنية ؟ .

هذا ما نرجو ، لطف الله وهدى وعصم .

اشترك في نشرتنا البريدية