الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 145الرجوع إلى "الثقافة"

على هامش الأسبوع

Share

مرتبات الموظفين :

قررت اللجنة الوزارية ، وأمتن على قرارها مجلس الوزراء ، أن يمنح صغار الموظفين والعمال علاوة مقدارها عشرة في المائة من المرتبات التي لا تريد على عشرة جنيهات . وقد اتضح للجنة أن هذه العلاوة ستكلف خزانة الدولة مليونا ومائة ألف من الجنيهات .

وبعملية حسابية بسيطة يتراءى لنا أن هذه المرتبات التي ستزاد تبلغ أحد عشر مليونا من الجنيهات . وميزانية الباب الأول كله ، وهي مرتبات الموظفين أجمعين ، تبلغ ستة عشر مليونا . وكان بودنا أن نعلم كم تكلف هذه العلاوة لو أنها امتدت إلي المرتبات التي لا تزيد على العشرين ، ثم التي لا تزيد على الثلاثين ، وهلم جرا ، لنستطيع أن نحسب منها كم مرتبات هذه الفئات ، إذا لتبين لنا ، كما تبين المرحوم أحمد عبد الوهاب باشا في زمان مضي ، أن صغار الموظفين والفئة الدنيا من متوسطيهم ، تستغرق الجانب العظيم الأعظم من مرتبات الوظائف . وأن الذين عالجوا ويعالجون الأزمات المالية فيما مضي وفيما يستقبل من الأيام ، إذا هم اعتمدوا في موازنائهم على إنقاص هذه المرتبات ، اعتمدوا على مورد لا يدر عليهم إلا قليلا ، وأقل جدا مما أملوا .

فهذه الأحد عشر مليونا كيف ممكن إنقاصها ؟ أبانتقاص مرتب ذي التسعة الجنيهات وذي الخمسة وذي الثلاثة ؛ وقد يكون رجلا فردا يعول أفرادا . أم بإقالة بعض هذا العدد الوفير ، فالقائهم ومن يعولونهم بغتة في الطريق العام ، ليجوعوا على جوانبه او يستجدوا

أكف الناس . ثم الملايين الأخرى التي تلي هذه ، والتي هي مرتبات ذوي العشرة والعشرين من الجنيهات والذين ببهما ، كيف يمكن انتقاصها ، وهذه العشرة والعشرون لا تكاد تفي لهؤلاء ومن يعولونهم إلا بالكفاف من عيشة الانسان المدني الذي لا يطلب إلى جانب القوت البسيط والملبس البسيط والسكن البسيط إلا شيئا من النظافة يسبغها على هذه الضرورات الثلاث ليست ليستطيع ان يتميز  بين نفسه وبعض البهائم ، وإلا شيئا من التعليم الأدنى يشتريه لبنيه ليدفع به عنهم أضرار الجهل المطبق ، وليكسهم ، آلة يرجو أن تنفعهم في صيد أرزاقهم من موارد عكرة زاد عكرها على الأيام لكثرة وارديها !

إن مسألة الموظفين ، أو على الأدق الأضبط مسألة مرتباتهم ، قد حلت ، حلتها الظروف الطارئة . فنفقة المعيشة زادت نحوا من ٥٠ % عما كانت ، فكانما أنقصت المرتبات جميعا ثلثا فصارت ثلثين ؛ فالذي مرتبه ٣٠ جنبها صار وكانما مرتبه ٢٠ جنيها ، والذي مرتبه عشرون صار وكما مرتبه في ٢/١ ١٣ جنيها . فالحديث في هذه المسألة حديث في غير أوانه .

إنما الذي نريده أنه إذا أثيرت هذه المسألة مرة أخرى ، يجب أن تثار ومعها أرقامها , إن المسألة اقتصادية بحتة ، والمسائل الاقتصادية لا تحل فيكون حلها موفقا إلا في جو الأرقام الباردة ، وهي لا يحل في جو ساخن من الصرخات والعواطف والشهوات . على أني أعد من يريد أن يهاجم الموظفين لحاجات في النفس ، أني كفيل بأن أدله على ثغرات عدة ، كلها قاتلة ، لا تتصل بمرتبات الأكثرية منهم بقدر ما تتصل بأعمالهم وواجباتهم . والفروض التي يجب عليهم أداؤها للأمة عوضا عن هذه المرتبات .

بين الموظف والعامل :

على أن المفكر لا يستطيع أن يذكر الموظف دون أن

يذكر معه الفلاح والصانع . وهما الفئتان الآخريان الكبريان اللتان تأكلان من سواعدهما . وهما لا شك المنتجان الأولان في اقتصاد هذه الأمة وفي اقتصاد كل أمة . فأجور هاتين الطائفتين في مصر هي دون كرامة الانسان المدني ، بل هي في أكثر الأحوال قد تنزل عن حاجات الانسان الفطري ، وهنا يهول المقارن فرق ما بين الموظفين في عمومهم والفلاحين والصناع في عمومهم ، فيثب سريعا إلى الحل السريع الآتي : أن لا علاج إلا بالأخذ من هذا وإعطاء هذا . وهو حل سهل أحسن ما به سهولته ، والسهولة لها إغراؤها لاسيما إذا استمدت سندها من قواعد الحساب الأولى . فالصانع والفلاح لديهما شئ ناقص ، فهما يمثلان عملية طرح ، والموظف عنده شئ زائد ، فهو يمثل عملية جمع . وقد علمنا الحساب أن الشئ الناقص إذا ضم إلي الزائد أنتج تعادلا . وننسي أن هذا التعادل أيضا في حاجة إلي أرقام ، فعشرة زائدة لا تعدل ألفا ناقصة أبدا .

وأكثر من يغري بهذا الحل ، وأكثر من يلهج به فئة الملاك الكبيرين . ومن هؤلاء ، صاحب دولة ، صار حديث الموظفين داء له في كل مناسبة ، يصرخ به كما يصرخ صاحب الدمل في المكان الحرج كلما جلس . ومن هؤلاء أيضا أستاذ في الجامعة نشر منذ حين دعوة في جريدة يطلب بها تخفيض مرتبات الموظفين ، وهو الموظف ، ثلاثين أو أربعين في المائة . فكانت تضحية منه كبيرة محل لها علما ضخما ، كتب على ظاهره أجل معاني الوطنية واحي المعاني الانسانية ، ولكنه على ضخامته لم يستطع ان يخفي وراءه ثروة شخصية هائلة تتضاءل إلي جانبها مرتبات الوزراء .

بين الفلاح والمالك:

فأكثر من يفزع إلي هذا الحل ممولون كثيرو المال إذا تبصر المتبصر في امرهم شق عليه ان لا يستنتج أنهم

إنما يريدون بهذا تحويل التيار عن ذواتهم وعن إخوانهم من الأثرياء ، فإن صح هذا فلا لوم عليهم ولا ملامة ، فإنما يدفعون عن أنفسهم في معترك لا تزال قوي الجهالة الغاشمة تتدافع فيه .

على أن حدب هذه الفئة على الفلاح والصانع كان مقبولا مستورا ، ما جري هذا الحدب في حدود طبيعية معتدلة . ولكن الظروف الأخيرة أتاحت لكثير من الممولين الأعاظم أن يصعدوا إلي خشبة المسرح التي نصبتها أزمة القطن الماضية ، فيمثلوا أدوارا ما كانت لتلبس إلا فلاحا فقيرا ، وأن يسكبوا في هذه الأدوار دموعا ما كانت لتسكبها إلا عين فلاح له في البؤس نسب قديم , فنادوا وصرخوا من أجل الفلاح . وأعولوا وولولوا من أجل الفلاح ، حتى علاقات البلد الكبرى نالها شرر من أنفاسهم المحترقة فشاطت أو كادت من أجل الفلاح , ولكن هذا الغلو أفسد الرواية على المتفرجين فشرب الشك إلي قلوبهم ، وزاد في تشككهم تلك الأيدي المقبوضة ، إذ خالوا ظلما أن بها ما لو قرب إلي عين تمساح لجري دمعه ، وفائهم أنها إنما قبضت بحكم العادة ، فهي كانت مقبوضة قبل الصعود إلي المسرح ، وهي ظلت مقبوضة بعد النزول عن المسرح , والفلاح الأجبر الفقير ظل برغم ارتفاع السعر هو الفلاح الأجير الذي يأخذ الثلاثة القروش عن عمل يومه الطويل - برغم رفع السعرين ، سعر القطن وسعر الذرة ، وذاك إنتاجه وهذا غذاؤه . ولم يفكر أحد من الممثلين ولا من المخرجين أن يذهب بالرواية إلي نتيجتها اللازمة ، فيضيف إليها فصلا يكون الخاتمة ، يأتلف وسائر فصولها ، فصلا يتضمن تشريعا لحد أدنى لأجر الفلاح , بجير الملاك علي أدائه له عن شقاء يومه

كلنا فقير :

ولا يظنن ظان أتى بهذا أريد أن تحتل معضلة الفلاح والصانع على قفنا الممول بعد أن أوحيت إلى القارئ بأن

قفا الموظف لا يتسع لها , فأنا في أمر الممول أطلب الأرقام كما طلبتها في أمر الموظف ، وأغلب الظن أن في هذه ، كما في تلك ، ستخيب الأرقام الرجاء .

إننا في هذا البلد ، في أوضاعه الحاضرة ، كانا فقير . وأخذ القليل من هذا لاعطائه لهذا يسكن لاشك آلاما واجب تسكينها ، ولكنه لا يزيد في ثروة الأمة شيئا .

إن أحاديث القوم عامة ، في البرلمانات وفي المقاهي والندوات كلها تدور حيث تدور فيما يسمونه بالسياسة على أحاديث عدة لو حللتها لرددتها إلي موضوع واحد ، هو  إعادة توزيع هذا القليل الذي للأمة على زيد وعمر وخالد ؛ فقوم يريدونه لزيد اولا ، ثم لعمرو وخالد ؛ وقوم يرون أن يكون لعمرو أولا ، ثم خالد ، ثم زيد , والمجموع هو هو ، لا زاد ولا نقص , ويحتج هذا لزيد وتكون حجته الدامغة , ويحتج هذا لعمرو وتكون حجته الدامغة ، ولا يكاد يفطن احد إلى ان العلة ليست في " كيف نقسم " ولكن في " قلة ما نقسم " إن الحصير الذي يتسع خمسة قد يتسع لستة إذا هم تقاصروا ، وقد يتسع لسبعة إذا هم تقاصروا وتكوروا ، ولكنه لا يتسع لعشرة مهما تقاصروا وتكوروا .

نريد انتاجا لا استهلاكا :

وكذلك الحكومات . اقرأوا برامجها يوم تتولي الأحكام : حفر ترع ، ردم مستنقعات ، بناء مستشفيات . ماء صالح للشرب . رقي بالتعليم . توسيع للجيش ، إلى آخر ما هنالك من أمور ألفها السمع طويلا حتى صارت كأنها بعض التعاويذ . وكل هذه أبواب للنفقة . واختلاف البرلمان فيها إنما هو اختلاف في التقسيم والتوزيع . ثم تنقري أبواب الانتاج ، أبواب جمع هذا الذي ينقسم ويتوزع ، فلا نجد إلا أبوابا قديمة كلاسيكية ، من ضريبة جمرك وضريبة إنتاج وضريبة عقار وما إليها , ثم إذا خرجت هذه الحكومات في برامجها إلى الكلام عن

ثروة الآمة ، وعدت وعودا عامة هائمة عن الأخذ في زيادة الثروة ، وبدور العام فالعام ، والثروة لا تزيد أبدا ، فان زادت قليلا فبغير أيدي الصميميين من أبناء الأمة ، ولغير أفواههم ، وبالأخص وفي الأكثر لغير مجهود مباشر من مجهودات الحكومات والبرلمانات .

الحزب الإشتراكي الجديد :

وتحدثوا عن تأسيس حزب جديد . ونشرت مجلة زميلة ما اقترحوا لهذا الحزب من مبادئ ،  وتحدثت هذه المبادئ عن أمور كثيرة ، إدارية وسياسية ، داخلية وخارجية ، أما الاقتصاد فلم تمسه إلا في موضعين : أحدهما " تعزيز الديمقراطية السياسية بديمقراطية اقتصادية " . وثانيهما " تقديم الخبز و العلم لكل فرد وتأمينه ضد التهلل والمرض والشيخوخة والاصابات " وكلاهما يتعلق بتقسيم الثروة ، كيف يكون ولمن تكون . وليس في هذه المبادئ مبدأ واحد يحدثنا عن هذه الثروة نفسها كيف تكون

إن الاشتراكية معني جميل في بلد ثراؤه عظيم ، وفقره عظيم . وهي في بلد هذا حاله عملية تقليم فتطعيم . أما في مصر ، وثروتها هي ما نعلم ، وترونها في الموضع الذي نعلم ، وسياستها العملية تتجه الوجهات ألفناها وعرفناها وأنف النظريات راغم ، لا تكون الاشتراكية فيه تقلما فتطعيما ، بل تقليما فتعقيما في كل ما يختص بنا نحن السادة المصريين .

ومع كل هذا فمرحبا بحزب الاشتراك إذا سبقه أو تتوأم له حزب إنتاج . ويكون لحزب الاشتراك أنقيات الأدمغة في مصر . ويكون لحزب الانتاج ذكورها . لأن الحزب الأول حزب نفقة والنفقة هيئة ، وهي من شأن النساء ، ولأن الحزب الثاني حزب كسب ،والكسب

عنت ومشقة ، وهما من شأن الرجال .

اشترك في نشرتنا البريدية