يوم الاثنين :
في الساعة الواحدة بعد الظهر دق التليفون، فإذا به صديق يتكلم، يذكرني باجتماع يكون في الساعة الخامسة من ذلك اليوم.
الصديق: نعم أنا أعرف أنك لا تزال تذكر، ولكني خشيت ان تستبعد الرجوع إلى القاهرة بعد رواحك واستقرارك.
أنا: وأنا كذلك خشيت هذا واحتطت له، فلن أروح اليوم، وسأقضي ما بعد الظهر في المدينة. وعلي كل حال فاليوم يوم الاثنين، والفول والعدس لا يستأهلان هذا الرواح الطويل، ولا أظن عدس بيتنا خيرا من عدس المطاعم.
الصديق: أي عدس وأي فول؟ إلينا يا رجل إلينا، فلدينا من الدجاج نماذج كثر دهنها وطاب طهيها، وهي من تغذية أيدينا وتربية بيتنا.
أنا: ولكن الدجاج قد حرم اليوم كاللحم تماما صديقي: تعال أولا، ثم حدثني حديث الحرام والحلال على نفحتها الشهية في الأنف، ورخاوتها الحلوة تحت الأسنان. صدقني إنها شهية لذيذة.
أنا: وهي لا شك ألذ في يوم الحرمان. ولكنها خيانة عظمي تلك التي تستهوينا إليها يا صديقي. وتضاحكنا وانقطع الحديث.
وجاء المساء، وكان الاجتماع. وخرجت من بعده مع صديق آخر لم أكن رأيته من زمن. فقلت له : مل بنا إلى مكان من أمكنة الشاي، إلا أن تكون
تحس الجوع، فأميل معك إلي أحد المطاعم. فقال: ما في من جوع، ولكن بمعدتي ثقل. قلت: أنا عاذرك، وهل أثقل من العدس والفول؟ قال: قل وهل أثقل من البط والحمام؟ قلت وكيف كان ذلك؟ قال: أربع بطات وعشرة أزواج من الحمام بعث بها إلينا نسيبي من الريف لنستعين بها على اليوم الأول من امتناع اللحوم. قلت: وما تصنعان بالأربعة والعشرة وأنتما اثنان؟ قال: والله ما أدري. وقد رأيت أن أدعوكم إلى الغداء معنا، فقالت زوجتي إنها دعوة إلي استهلاك ما عجزنا عن استهلاكه، فهي ليست من الكرم في شئ، ولا من الأدب في شئ. قلت: وأين البقية التي قدر لها الله السلامة؟ قال: في التلاجة تنتظر حتفها يوم الخميس.
واليوم فقط ذكر لي صديق كريم ثالث، أن الجزار باغتهم بعد ظهر الأربعاء برجل خروف، ومعها رسالة: أنه إنما أرسلها لأنه لن يبيع اللحم غدا، ولأن دكاكين الجزارين ستكون كلها مغلقة.
ليس فيمن ذكرت من إخوان نقص في ثقافة، ولا قصور في ذكاء، ولا ريبة في وطنية. وليس فيهم نهم، وليس فيهم كلب، وليس فيهم تزاحم إذا مدت الموائد وصففت الصحاف، وأخذت مباهجها بالعيون ونوافحها بالأنوف. وليسوا هم فيما صنعوا إلا ككثير غيرهم ممن لم أذكر. وإن فيمن أغفلت لقوما كثيرين لو أن الفرص أتاحت لهم ما أتاحت لاخواننا الأولين لتركوا الخير القادم يمر إلي بيوتهم على إغماضة من عين تري وكأنها لا تري. حتى إذا جابهم في الصحون، فذاك الأمر الواقع الذي لا مفر منه ولا مندوحة عنه.
ليت شعري كيف جاءنا هذا الجمود الخلقي وقلة الاكتراث بالأوامر والنواهي إذا هي اتصلت بالنظام العام؟ في زمان مضي كان الجمهور يركب الترام وهو كاره لأربابه. وكان في الكمسارة تذمر من هؤلاء الأرباب،
أولا لأنهم كانوا ينتقصون أجورهم انتقاصا شائنا، وثانيا لأنهم كانوا يستعينون عليهم برؤساء ليسوا من أوطانهم فخلت قلوبهم من رحمة ذوي الأوطان وبلغ هذا التذمر فيهم حد الغضب، فشابعهم الناس. وزاد في تشبعهم علمهم أن القرش الذي يدفعونه يخرج أكثره وراء الحدود. فكان الرجل الراكب يتعمد أن ينقد الكمساري قرشه، ولا يأخذ تذكرته، وهو مطمئن لما يفعل، متيقظ تماما للذي يفعل، ويفعل هذا جهارا علي ابتسامة الجار الراكب، وهي ابتسامة التشجيع والرضا فإذا وقعت الواقعة وانكشف أمر هذا للمفتش فأراد أن يضبط المتلبس أثخنه الجمهور إثخانا يتعلم من بعده أن الحلم سيد الأخلاق. ثم كان أن نال العمال مطالبهم من الأجور، وأبدل رؤساؤهم برؤساء من أهلهم وعشيرتهم، فاستقامت الأمور، ورجع الجمهور عن تلك الوصمة التي اتصم بها الخلق العام زمانا، وأصبح الراكب يحس أنه يدفع القرش طوعا ويأخذ التذكرة فرضا، لعلمه أن المال صائر أكثره إلي غذاء هذا الذي يسوق وهذا الذي يزمر وإلي من فوقهم من رقباء هم مثلهم في السحنة واللسان.
ولم تكن ثورة الناس على الترام وأربابه في ذلك الزمان الغابر إلا مظهرا من ثورة عامة مكظومة في قلوب الناس على كل شئ عام، استحلوا معها أمورا كثيرة ما كان ليستحلها رجل مدني في بيئة مدنية حياتها متصلة بالنظام ورخاؤها مربوط بالقوانين.
وإني لأحس خشية أن يكون المزاج العام الذي أوحى إلي الجمهور أن يتنكب الصواب في أمر الترام في ذلك الزمان، هو نفس المزاج الذي أورثه هذا التفريط في أمر اللحوم وأشياء اللحوم في هذا الزمن الحاضر، على اختلاف المثلين وتباين الظرفين. ولست أقول إن هناك ثورة، أو حتى إن هناك ميلا قليلا للثورة. ولكن هناك
سخط عام، وقرف عام، وفتور عام، يجعل الناس لا يفعلون ما فيه الصالح العام إلا بقانون يبرم، فان هو أبرم أطاعوه إطاعة المغصوب، وأطاعوه ما ظلت الرقابة قائمة، فان تراخت تراخي الناس. وأحسب أن كثيرا من الناس بلغ بهم السأم أنهم إذ يعصون الأوامر لا يعصونها عن عمد، بل هم يقعون في العصيان عن غفلة وقلة مبالاة، فإذا نبهتهم لم يعنوا أن يبينوا أين هم من القانون، فإذا ناقشتهم أعطوك ما تريد حسما للنزاع وكراهة للنقاش في موضوع كريه.
وقد تعاون على خلق هذا المزاج عوامل كثيرة ليست كلها من خلق هذه الحرب الحاضرة، بل إن أصول هذه العوامل يمتد أكثرها إلي ما قبل الحرب، إلي العقدين الماضيين، ففيها جربت مصر أول حياة عامة لها في عهد استقلالها. ومن المؤسف أن نقول إن ما جري في هاتين العثرتين من السنوات أورث الناس اليأس والقنوط.
مجلس الشيوخ:
ولسنا في سبيل تعداد هذه العوامل، ولكن يكفينا اليوم أن نذكر ما جري في مجلس الشيوخ في الأسبوع الماضي مثلا صغيرا لما نريد، لا يتسامي إلى كبائر الأمثال.
فالذي جري في هذا المجلس لا يمكن أن يزيد ما في قلوب الناس من حب، وإن زاد فهو لن يزيده كثيرا. مجلس كان مكونا من أغلبية وفدية كبرى، فعمل أولو الأمر على إنقاص هذه الأغلبية الوفدية، ونجحوا في ذلك نجاحا رائع النتيجة مشكوك الوسيلة. ولم يكفهم ذلك حتى عدوا ينتقصون الوفدية في مكتب المجلس كذلك ولسنا ندري ماذا جرى بالكمال والتمام، ولكنا ندري أن مناورات جرت لا تمت إلي الحياة الديمقراطية الصريحة في شيء، انسحب بسببها الوفديون فأرجيء اجتماع المجلس
أسبوعا. فأمثال هذه الحوادث تذاع في الأمة وتنتشر بين الناس، فلا تنشر بينهم إلا نوعا من السخط العابس، وإلا نوعا من الابتسام لا يحمده مثيروه. ومثل هذا الخصام لا يمكن أن يزيد في استقرار الحياة النيابية في قلوب الناس، لا سيما إذا هو صدر من مجلس تتمثل فيه عقول الأمة الراجحة وحنكتها التي صقلتها السنون.
إن الناس يعرفون، والحكومة تعرف، والنواب والشيوخ يعرفون، أن الأغلبية الكبرى في البلد الآن وفدية لا محالة، فما هذا النزاع في داخل مجلس الشيوخ على منصب أو منصبين للوفديين يتألف بقبولهما مكتب لا يمكن أن يؤثر في سير مجلس أكثريته لغير الوفدين؟ إن الحنكة السياسية تقضي بأن لا يثار هذا الخلاف، لأن في إثارته إثارة لمعني التمثيل كله، وهي إثارة تخسر فيها الأوضاع القائمة خسرانا مبينا.
لقد كان خيرا للروح الديمقراطية أن يقال للوفديين صراحة: أنتم تمثلون الأغلبية، ولكنا لا نريد الأغلبية لكيت وكيت. إذا لوقع هذا من الناس موقع الصراحة الأليمة، وهي أشفى لنفوسهم من المظاهر الزائفة والداورة المقيمة.
حزب الأحرار :
كذلك ليس مما يزيد في احترام الأحزاب هذا الذي نسمع أنه يجري اليوم في حزب الأحرار الدستوريين فرئيسهم رجل له مكانة غير مشكوك فيها، وله تاريخ مجيد لا ينسي. ولكنه مريض. وقد استقال لمرضه، واحتفظ به الحزب شهورا رغم إلحاحه في استقالته. والسبب الظاهر في هذا الالحاح أنهم يعتزون برئيسهم فلا يريدون أن يتركوه، ولكن السبب الباطن في هذا الالحاح أن الخلاف واقع بينهم على من يخلفه. ثم ظهرت استقالات واختلافات دلت على أن الأشخاص في الأحزاب هم كل
شئ، فلهؤلاء المكان الأول، وللمبادئ - إن تكن هناك مبادئ مرسومة - المكان الثاني.
إن المعروف أن الأشخاص في الأحزاب هم الذين يلدون المبادئ، ويفسرون المبادئ، ويطبقون المبادئ، ولا ينسون في كل هذا مصالحهم، ولا يفترون يربطون هذه المبادئ بمستقبلهم، فان أثقلته هذه المبادئ خففوا عنه بقطع الحبل الذي يربطه بها. كلنا يعرف هذا. وكل متصل بحزب يدرك هذا. ولكن ليس من الصالح العام نشر هذا في الناس. فالناس لابد ان يتعلموا أن السيطرة للمبادئ، وأن الحزب إذا تحرك فانما يتحرك للمبادئ وبالمبادئ، وأنه إذا قدمت أشخاص، فهي لا تقدم للحمها وشحمها، ولكن للمبادئ التي تقمصتها فبهرت بنورها الروحي ظلمة اللحم والعظام. هذا ما تقضي الحكمة السياسية أن يتلقنه الناس، فعندئذ يسلس قيادهم، ويسهل صعبهم، ويلين جامدهم، وتكثر ضحاياهم على مذابح الأوطان.
لقد كان لحزب الأحرار غناء عن كل هذا الذي جرى. كان في وسعهم أن يتدبروا أمرهم بالحكمة، فلا يتمهلوا، ولا يتريثوا، ولا يطاولوا فيه الزمن فيخرج حتى يصير مضغة في أفواه الناس. كان في وسعهم أن يواجهوا الأزمة منذ مات رئيسهم الأول، ويفرجوها في وقتها وعند إبانها، فما كان من تفريجها أن يلتجئوا إلي رجل جليل، ولكنه شيخ عليل، لا يمكن ان تضطلع أكتافه الضعيفة بأحمال السياسة في هذا العصر الحديث المنيف. ولقد رأي كل بصير بالسياسة عندئذ أن حزب الأحرار لم يرد بترئيسه هذا الشيخ النابه إلا تفاديا لاصطدام لم يكن عنه مندوحة. فهم كسبوا بهذا وقتا أحر به أن يكون خسارة؛ فالعقدة التي كانت غير محبوكة زادها الزمن انحباكا، وزادها الشد انعقادا، فلم يبق إلا قطعها. وسبيل القطع واضحة بينة إذا
خلصت النيات وذكر الوطن ساعة من الزمان. فليس بين الأحرار كثير يخال الناس فيهم مخايل الرآسة. والرآسة لا تكون بالسن. ولا تكون بهذا النظام الذي يتقدم الوزراء على مقتضاه إلى المآدب وفي الاحتفالات. والرئيس لا بد أن يكون ذا ثقافة عالية، وذا ماض نظيف، ورأي حصيف، وذا بديهة حاضرة، ولا بد أن يكون ذا خلق كريم، وله قسط من الحب عند الناس. وبهذا يضيق الخيار، فلا يكون إلا بين اثنين. فاذا قلنا إنه يشترط كذلك في الرئيس أن يكون ذا قلم سيال ولسان ذرب جوال، انتفي الشك ووضح اليقين. ثم للزمن بعد هذا أن ينسج حول رأس الرئيس العتيد تلك الهالة التي تتأطر بها رءوس الزعماء. (ز)

