في زحمة الأخبار الحاضرة ، وفي اختلاط هذه الأنباء التي تملأ الأثير ، والتي كانت تأتينا من ناحية أو ناحيتين فصارت بامتداد الحرب تطبق علينا من جهاتنا الأربع ! وفي امتزاج العواطف وتباين النزعات ، وفي ثوران العقول وفوران القلوب ، وددت لو استطاع المرء أحيانا أن يستقل بنفسه عن الناس، ويحمل عقله بعيدا عن الحوادث ، ويلجأ بقلبه إلي ركن بعيد ساكن ، لا تصله الأصوات الصاخبة ، ولا تناله المؤثرات الحاضرة ، ثم يأخذ يجتر في هدوء وسلام على خضرة الحقل البعيد الوادع ، وفي شعاع الشمس المعصفر الصامت، ما كان وعاء واحتواه . وهو واحد لاشك في هذا لذه من ألم ، وسلاما من قلق ، وراحة من تعب واشتغال بال . على شريطة أن لا يأخذ معه إلي هذا الحقل البعيد الوادع شيئا مما حصله في حياته من حب أو بغض ، أو ميل إلي هذا الشئ وانحراف عن هذه الأشياء ، وأن ينسي نفسه ، فلا يكون إلا فكرا من غير جسم ، وإلا حاضرا لا ماضي له ولا مستقبل فان هو فعل - إن هو استطاع أن يفعل - لم يجد في كل هذه الحوادث التي تنتاب الأمم إلا ظواهر كالتي تعتري الأرض التي هم عليها : زلزال فانفجار ، فطوفان ماء واندلاع نار ، وحمم في الأرض ورجوم في السماء ، حتى يظن من فيها أن ليس ليومها غد ولا لليلها صباح ، ثم ينحسر كل هذا ، وتشرق الشمس ، بلهاء العين ، على سماء صافية ، وأمواج لينة ، وأرض في وجهها خدوش لا يراها إلا الناظر القريب . والحياة الإنسانية التي كادت تنطفي بتحطيم المشاعل ، بقي من مشاعلها وحدات تضمن
استمرار الحياة وتكاثرها من جديد ، والحياة كالنار تتكاثر من الشرر القليل هكذا يجد المتجرد الحياة ، وهكذا يجب أن يبصر احداثها ؛ ولكن من ذا الذي يستطيع ان يتجرد من نفسه ، وان يتجرد من حاضره ومستقبله ، بله أمسه
إن هذه الحرب القائمة ليست أول حرب وقعت على هذه الكرة ، وليس هؤلاء الذين يقتلون في الهواء ، وعلي اديم التري ، وفي أعماق الماء ، بأول ناس عرقوا طعم الموت في ساحات الوعي ؛ ولن تكون هذه الحرب آخر الحروب ، ولا هؤلاء الناس آخر من يموتون والناس يموتون فرادي في السلم فلا يأسي لهم إلا ذووهم فإذا ماتوا جماعات كان حربا ان يصم عليهم بعد ان تخصص ، ولكنه هو هو في مقداره ذلك الاسي الذي كان لا بد متفرقا على شتى البقاع وشتيت الأزمان . إن الإنسان في غبائه لا تكفيه هذه الأرض في كل هذا الخصب ومع كل هذا الثراء ، وهي تضيق به فيفيض فيها ، وكان لابد لهذا الفضل الزائد من فارض يفرضه ، فتأتي الحرب نقص الناس من أطرافهم ، حتى إذا سوت بين الأرض وما عليها ، ضم القارض ما انفرج من مقراضه ، وطواه حتى يكون طلب جديد ، وما موعد هذا بالوعد اليميد
في الحرب الماضية ، منذ ربع قرن ، مرت بالعالم أيام اقتم من ايامنا الحاضرة وأظلم ، اختلت فيها النظم المدنية ، وتعشقت فيها مجلات الحياة الانسانية فتعطلت آلاتها عن السير في أكثر المرافق وأكثر البلاد . وحيل النصر تجاذبته الاقوام ، فإننا مال إلى اليمين ، وانا مال إلى الشمال ، وانا يمن حتى حسب الحاسب ان لا يكون له شمال ، وأنا أشمل حتى حسب الحاسب أن لا يكون له يمين ؛ ثم انقلب الميزان فجأة وعلى غير حسبان ، وانكفأ انكفاءة لم يكن بعدها من رجوع . فإذا أمم
تفوز بالنصر وامم تبوء بالخسران. ورجع المنصور والخاسر كلاهما وفي جرابه ، وفي جدول حسابه ، ملايين من الانفس بين مقتول ومخنوق ومجروح . وكان القوم تواضعوا على شروط عشرة واربعة ، وضعها الفيلسوف أبو موسي أساسا لتفاهم الشعوب ؛ فكان كالأشعري سلامة نية وبياض طوية ، ومات فيها بحسرة ليست مثلها كل الحسرات.
إن الانسان ، وكل إنسان من أي جنس كان ، حيوان نكد جبار ، لا يعرف الصحة إلا في المرض ، ولا يذكر الله إلا في الغرق ، فإذا هو صح اكل الأرض وشرب البحار ، وإذا هو نجا كفر بالله ورسله الآبرار وملائكته الأطهار .
إن خيبة الإنسانية في انتصارها ، شر من خيبتها في اندحارها . وهؤلاء الساسة الذين ظنوا ان الذكاء خير من الصدق ، وهؤلاء الآخرون الذين قادوا الناس فلم يقووا على كبح جماحهم ، فاكتسحتهم الجموع ، فرضوا من الرأسة بأن يطفوا علي قمة السيل الجارف كل هؤلاء تبينوا الآن ان ذكاءهم كان ذكاء ، قصير الأمد ، وان الناس إن خدعوا سنوات فلن يخدعوا أحقابا ، وان الصاحي من خديعة كافر شديد الكفر ، جاحد شديد الجحود . كذلك هم تبينوا أن قادة الشعوب خيرها غير المساير ، وشرها المرتزقة الذين يتجرون في عواطف الأمم ، ويحرصون كل الحرص على إرضاء الشعوب بالحق حينا وبالباطل أحيانا
لقد سنحت للعالم في العام الثامن عشر من هذا القرن الحاضر فرصة ما كان أولاء بانتهازها ، فرصة ركع فيها المغلوب واستقام الغالب ، فكان للغالب ان يفعل بالمغلوب ما يشاء ، بل ان يفعل بالدنيا ما يشاء ، وكان في مقدور الغالب ان يستنير بنور الانسانية ، وهو نور رقيق لطيف
من نور الله ، وكان في مقدوره أن يستنصح حكمة القرون العشرين الماضية ، وهي من حكمة الله ، وكان في مقدوره ان ينسي حينا ما في القلوب عند ذلك من إحن ومرارات وان يسمو على ما بها من جروح داميات مؤلمات ، وان يذكر انه لم يكن وحده صاحب الجروح ، وانه لم يكون وحده صاحب الدم المسفوح . ولكنه لم يفعل . واذن للدم اللاتينيي ان يغلي ما وسعه الغليان ، وان يفور ما أمده الفوران ، وان يرغي ويزيد حتى تم تكد السلم ان تكون امنا ، ولا الهدنة ان تكون سلاما ، ولا العهد المقطوع أن يكون طاقة ، فصار طوقا . واراد الآحزمون حزم الأمور بالاحتكام ، فأنشأوا جمعية للأمم تعلقت بها آمال الأضعفين حينا ، فإذا بها صالة هائلة ، واسعة الفناء عالية البناء ، لا تسمع فيها الأصوات إلا على قدر الحناجر ؟ ثم صارت بعد ذلك نديا للاثراء والمقربين
إن الصدمة التي صدمت البشرية في خيبة هذه الجمعية كانت صدمة من تلك الصدمات التي لا يفوق منها المصدوم إلا وهو اشد انتباها وارهف حسا ؛ من أجل هذا صحا المصدومون فيها فتركوا أبوابها هائمين يطلبون النجاة حيث تكون ، واني تكون ، وحيث قد تكون أو لا تكون
إن هذه الحرب قامت قيامتها منذ عامين ، ولكن تاريخها كتب قبل ذلك بعشرين عاما . كتبت أول صفحة منه في قرساي ، وكان لكل لغة سطر فيها ، فكان للطليانية سطر ، وللانجليزية سطر ، ولليابانية سطر ، وكان لمن عدا هؤلاء من الامم كسور وانصاف سطور ، وكان للفرنسية فيها اسطر عدة . ثم كان لكل عام بعد ذلك من هذا التاريخ صفحة ، كتبت بمدادات مختلفة ، ذات ألوان شتى ، لأنها صنعت في عواصم شتى ، فظهرت الصفحات في غير انسجامها الاول وفي
غير لونها الواحد . وساح المداد السكسوني على المداد اللاتيني ، فارتطما ، فكان منهما مزيج لا هو بالاحمر الفاني ، ولا هو بالأزرق السماوي ؛ فضج السكسوتي من هذا الحال ، وكان في الشعوب المجتمعة افرتها إلي رحمة ، وارغبها ما سمح الزمان والمكان في نصفة ؛ ولكن مال عليه اخوه اللاتيني بكاسين اترعنا من خير ما انتجت البلاد وعتقت ، والسكسونى في قلبه ركن دافي تعود إليه الصداقات القديمة إذا عزها استدفاء . فلم تلبث أن ابنا الكاسين تتقارعان ، والكفين تتصافحان . وكان من ذلك " الانتانت l'entente ثم رأينا المدادين من بعد ذلك يلتقيان احيانا ويفترقان احيانا . وجرت السنون هكذا بغير خطة مرسومة ، ولغير غاية معلومة ؛ ولكنها غاية مقدورة محتومة .
إن فجيعة الدنيا في سلمها شر من فجيعتها في حربها فالحرب صراع بين قوات ، والسلم صراع بين عقول ، فان عجزت العقول عن تدارك الأمور ، تداركتها قوة - مهما بث فيها من علم ، وتخللها من حذق - ليست إلا من قوي البهائم . وما حال دنيا يحتكم في أمورها إلي أنياب ذئاب ومخالب آساد وسموم أساود؟
لقد أذع عاهل أمريكا منذ يومين على قومه خطابا إذاعة من حجرته وبجوار موقدة . وأعلن فيه قيام الحرب بين الولايات المتحدة وبين اليابان وقد تضمن هذا الخطاب كثيرا من الأنذار والتحذير ، وكثيرا من الحزم والعزم ، وكثيرا من الامال والاهداف ، ولكن لم يعجبني من هذا الخطاب شئ كما اعجبني ختامه ، قال : سنكسب الحرب ، وسنكسب السلم التي تجيء بعدها . وكسب الحرب رجاء خطير ، ولكن أخطر منه كسب السلم التي تجيء بعدها ، ولو لم يكن للحرب كاسب .
