الحياة الاجتماعية :
لاشك فى أن الزائر للمدن الكبرى الأمريكية يحس فيها حياة غير التي يعهدها فى عالمه القديم ؛ فهو ينظر إليها وكأنه امام آلة هائلة تدور دواليبها بأقصى سرعة ؛ فكل شئ هنا فى حركة معجلة ، حتى في المطاعم وفى الملاهي ، وفى ساعات الراحة وأيام الفراغ ، ولهذه الحركة المعجلة معقباتها . فتراهم لا يحسنون ما يحسنه أبناء الحضارات الأخرى من التطلع إلى ما حولهم فى غير مصلحة غير لذة التطلع ، والإلمام من شتى المعارف وألوان الثقافات بطرف ،
والحديث فى كل غرض ، والاسترسال فى الأحلام ، والتوغل فى متاهات النفس ، ونشدان لطائف الحس .
فالأمريكان قوم عمليون فى أخلاقهم ، كما أنهم فى عملهم يؤثرون التخصص ويلتزمونه ، وهم أقرب إلى أهل الفطرة البدائيين فى بساطتهم واحتفاظهم بروح الشباب .
والأمريكي مخشوشن بطبعه وإن تقلب فى أحضان النعمة . وحسبك حفلات الملاكمة ، فما زالت عندهم مثار الاهتمام الحق والحماسة الجنونية . وهم يكرهون كل ما يشم منه التأنث من بعيد أو قريب . فليس لهم أرب فى التظرف
والترقق ، ولا صبر لهم على فرط التلطف والتأدب . وإذا نحن صدقنا الشاعر الثائر المبدع هنرى هينى فى أنه مع طول مقامه فى فرنسا لم ينقض عجبه من أدب الباريزيين ، حتى زعم فى بعض كتاباته أنه كان يتعمد أن يطأ القوم فى الزحمة قدمه ، ليمتع عينيه بشهود ما يعروهم من ارتباك
جميل وخجل لطيف ، وليطرب أذنيه بسماع اعتذاراتهم الحلوة المؤثرة - نقول إذا صدقنا هينى فى شهادته للباريزيين ، وهينى مع كل إبداعه فى الفكاهة لا يفتأ أبدا من الجادين الصادقين ، فليس يسعنا إلا أن نحمد الله له أن كفاه زحام الأمريكين . فالقوم هنا فى شغل عن هذا الارتباك المستظرف ، وتلك الاعتذارات التى تذوب لطافة ورقة هنا الوقت من ذهب .
والأمريكى لا يعبأ بالساخرين . وإذا كانت السخرية سلاحا فى العالم القديم ، فإنها لم تقتل واحدا من الأمريكيين . ومن ثمة عرفت أمريكا بكل طريف جديد ، إذ ليس من عقبة فيها تعترض المجددين .
والشعور بما هو عظيم أقوى عند الأمريكى من الشعور بما هو جميل ؛ وهذا ظاهر فى كل شئ ظهوره فى بناياتهم الشاهقة وفى قناطرهم الممدودة الهائلة ، وسائر مشروعاتهم الضخمة وإذا أنت أردت أن تقع فى نفس الأمريكى موقعا جليلا ، فعليك أن تكون صاحب البطولة فى أمر من الأمور ، وليكن هذا الأمر أيا كان ، فالمهم هو
السبق والتميز على النظراء فتراهم يقيمون المباريات التى لا آخر لها : هذه لاختيار أجمل النساء ، وتلك للتنويه بأطول الرجال أو بأضخمهم، وهلم جرا فالتميز هنا على كل حال ضمين بالتفات الجمهور ، ولا شئ عند الأمريكي يعدل التفات الجمهور . وقد يكون أو لا يكون للأمر شأن بالتجارة ، إلا أن هذه هى عقلية الأمريكان من حيث هم أصحاب أعمال . ومن فضول القول أن نذكر أن
الأمريكان أبرع وأعجب أهل الأرض قاطبة فى ابتكار الوسائل لجلب الأنظار ، وأنه ليس مثلهم شعب فى الايمان بقوة الاعلان وإنفاق الأموال الطائلة عليه
ومعلوم أن المدن الأمريكية مترامية الأطراف متباعدة الأقطار ، وأن أحياء السكنى فيها نائية عن أحياء العمل وقد استتبع هذا ما لا بد أن يستتبعه ، وهو تعذر عودة العاملين إلى دورهم لتناول الطعام ، والنظر لضيق الوقت واضطرارهم إلى الأكل فى المطاعم أو الأندية ، أى أنهم
يتركون أهل بيتهم فى الصباح الباكر ولا يأوون إليهم إلا فى المساء . وإذا كان الزوج لا يأكل على مائدته ، فليس ما يربط الزوجة إلى هذه المائدة مفردة مستوحدة ، ولا سيما إذا خرجت تقضي بعض الحاجات من المتاجر ، فهى أيضا تؤثر الاكل فى أحد الفنادق حيث نجد الكثير من صديقاتها كذلك . فالاسرة كما رأينا لا تلتقى إلا فى المساء ،
وهى تلتقى للذهاب إلى الصور المتحركة أو للسماع إلى المذياع . وإذا كان اليوم يوم فراغ فهو مخصص للرحلات المعروفة عندهم بآخر الأسبوع . على أنه ليس من شك فى وجود الشعور العائلى فى الأسرة ، ولكن الشك كل الشك فى وجود الائتناس الفكرى ، وذلك لما رأينا من عدم اتساع وقت للخلوة فى البيت لتبادل التفكير وتجاذب أطراف
الحديث . ولا يجب أن يغيب عن بالنا أيضا أن ارتفاع أجور الخدم جعل الأمريكان يعمدون إلى الاستغناء قدر المستطاع عن حياة البيت بقضاء أوقاتهم خارجه ، ثم بالاعتماد على الطعام المحفوظ فى العلب كلما اقتضى الحال ، وهو منوع لا حد لتنويعه .
ولقد جرت هذه الأحوال بالإضافة إلي غيرها من غلاء المعيشة ، وتعود الاستمتاع بأسباب الرفاهة والمتعة والاستقلال ، مع كثرة التقلبات المالية وعدم الاستقرار ، فضلا عن علو ثقافة المرأة واشتراكها فى الحياة العملية
نقول إن هذه الأحوال وتلك كان مؤداها لا محالة الزهد فى النسل وقلة المواليد . ولم يفت الرسامين الهزليين أن يساهموا فى انتقاد ما وصلت إليه الاسرة ، فتري لهم صورا بالريشة أو القلم الرصاص تمثل سيدا وسيدة وكلبا صغيرا وقد جعلوا تحتها هذا العنوان " عائلة أمريكية " .
ولا شك فى أن وجود الطفل فى الأسرة من العوامل المؤثرة فى توثيق رباط الزوجية ، وأن الطلاق بين من لاولد لهم أكثر منه عند ذوى العيال والولد بيد أن وهن هذا الرباط مرجعه أحيانا إلى طريقة إبرامه . فالذي كان عليه أهل العالم القديم من استبداد الوالدين باختيار الزوجة
لابنهما انقلب إلى النقيض فى العالم الجديد ، فأصبح الأمر كله رهنا بما يبدو للفتيان والفتيات لماهم عليه من التربية الاستقلالية . فيتفق أن يجد الفتى للفتاة جلوة فى هينه، وأن تستلطف الفتاة مجلسا للفتي ، فإذا هما يحسبانه الحب المتين الأسباب الموثق العرى ، فإذا تزوجا لم يلبث الوهم عاجلا أو آجلا أن يزول - وياليته لايزول ! - وعنذئذ
تفسد العشرة ويحم الفراق ويقع الطلاق . ولا يخفى أن تعلم المرأة وشعورها بالمساواة للرجل وعدم اعتمادها عليه فى المعاش ، كلها أمور من شأنها مجتمعة أن يجعل الطلاق غير مرهوب عند المتزوجين .
بيد أنه من الانصاف أن نقول إن هذه ليست بالحالة الاجتماعية فى أمريكا وحدها ، بل هي عامة تتفاوت خفة وحدة على حسب المقتضيات المحلية والضرورات الاقتصادية وإذا طاب الانتقاد للنقاد الأخلاقيين فليذكروا أن ما قد يعيبونه ليس عيوب الامريكين ، بل عيوب الحضارة الحديثة
التى نحن جميعا إليها صائرون شئنا أو لم نشأ ، ولا غرو إن كانت العيوب أظهر فى البلاد الأمريكية ، فان البلاد الأمريكية فى طليعة الحضارة الحديثة والوقية على أمدها وصاحبة السبق فيها .
ثم إن هذا الفتور فى حياة البيت تقابله قوة الحياة فى النوادى والجمعيات فليس من أمريكى أو أمريكية إلا وهو عضو فى واحد منها على الأقل . والعجيب أنه لا تكاد توجد بلاد يختلط فيها الجنسان فى المدارس والجامعات ومكاتب الأعمال وسائر مرافق الحياة اختلاطهما في أمريكا ؛
ومع هذا فانهما خارج الدراسة والعمل يفترقان من تلقاء أنفسهما كما ينفصل فى الاناء الواحد سائلان مختلفا الكثافة ساعة تكف عن رجه وتترك ما فيه لشأنه . فليس فى القطارات مثلا جناح للسيدات وآخر للسادة ، ولكنك تعجب إذ ترى الرجال منتحين ناحية والنساء ناحية اخرى ،
وكل فريق سعيد فى وسطه ، منطو على نفسه ، متألف فيما بينه . كذلك الحال فى النوادى فلكل من النساء والرجال منتديات خاصة ، وهى ضروب وألوان : فيها السياسية والأخلاقية والدينية والرياضية ؛ وثمة أيضا جمعيات لا تحصى لكل غرض ولغير غرض ، ولبعضهما حفلات عجيبة ومراسم غريبة ولا شك فى أن أجل ما
تعني به هذه الجماعات من الرجال أو من النساء خاصة هى الخدمة الاجتماعية ، فهى تعمل جيدا كل واحدة على طريقتها وبوسائلها لتخفيف الفاقة ، ومكافحة الجهل والرذيلة ، وتزويد الفرد بما يلزم للحياة من جهاز وعدة ، والملاءمة بينه وبين المجتمع ، وبالجملة جعله أفضل مما هو وأسعد .
الجامعات والحياة الجامعية :
والجامعات فى امريكا لا يراد بها مجرد الدراسات
العليا وإقرارها ومنح الدرجات أو الأجازات العلمية على أثر ما يعقد لها من امتحانات أو مسابقات ، كما يجرى عليه الحال فى فرنسا مثلا ، حيث الجامعة لا تعدو أنها دروس ومحاضرات ومعامل ومكتبات . بل الجامعات الامريكية تجري على غرار الجامعتين الانجلوسكسونيتين ا كسفورد
وكامبردج ، فى العناية بإيجاد حياة جامعية مشتركة تترك طابعها على ذهن الطلاب وخلقهم وشعورهم . وهذه التربية الجامعية هى الغرض الأول قبل الدرجات والشهادات . والجامعات هنا كنظائرها فى الدولة البريطانية ، هيئات مستقلة لها عميدها ، وهو الرئيس المتصرف ، ولها مجلس الأمناء ، أو بعبارة أخرى مجلس الإدارة ، ثم لها روحها
كما يقولون ، فيقال : " روح جامعة هرفرد ، وروح جامعة بل " الخ ؛ وهذه الروح يتناقلها الطلاب جيلا عن جيل ، ويلتف حول كل جامعة تلاميذها الأقدمون الأوفياء وأنصارها المحبون الخلصاء ، ورعاتها الأغنياء الكرماء .
وحسبنا فى بيان أثر هذه الحياة الجامعية وكفايتها وغنائها بنفسها ، أن الطلاب هنا يجتمع حولهم ويتهيأ لهم كل ما يحتاجون لمعرفته ، وكل ما تفيدهم مزاولته . فهنا متسع لكل شئ : للصحة والعمل واللعب . فعندهم خزائن الكتب للاطلاع والتحرى ، والمعامل للتحقيق والتجريب ، و عندهم اللعب لرياضة عضلاتهم ، والحوض
للسباحة ، والبحيرة للتجديف ، وثمة حفل للمناظرة ، ومسرح للتمثيل ، وصحيفة للتحرير ، ومنتدى يجتمع فيه الطلاب ويتألفون ؛ وعلي هذا الوجه تكمل التربية عقلا وجسما وخلقا . والتربية المشتركة أفضل ضروب التربية ، لأنها تكون الفرد تكوينا اجتماعيا ، وتكفل للبلاد مجتمعا متجانسا متضامنا .
خاتمة :
وبعد فلا يصح أن نختم هذا الوصف للحياة الأمريكية دون أن نحاول المقابلة بين موقف الأمريكان من الحياة وموقفنا نحن الشرقيين ، أو بعبارة أصح الموقف المأثور عن الشرقيين . فالحياة قاسية ولا ريب على الانسان ، تسلط عليه الأسقام والوحوش والهوام والمجاعات والأوبئة
والطواعين والزلازل والبراكين . فلا يجد الشرقى القديم حيال هذه الحياة الدنيا العظيمة الشر القصيرة الأجل إلا أن يرجع إلى نفسه يحيا فيها . بينما يعمد الأمريكى الناشئ الجديد إلى استصلاح الحياة الدنيا وطلب السعادة على الأرض .
ولسنا فى حاجة إلى القول بأننا باعدنا كل البعد ما بين الطرفين بغرض التوضيح والتمثيل . فان الطرفين يتقاربان كل يوم ، والخير كل الخير أن يلتقيا فى منتصف الطريق .

