الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 321الرجوع إلى "الثقافة"

على هامش الحوادث

Share

كثرة الاجتماعات:

تمتاز هذه المرحلة من مراحل الحياة الدولية باعتماد الساسة وقادة الأمم على الاتصال الشخصي المباشر في حل ما يعرض من المشاكل وتذليل ما يقوم من الصعاب . فلا يكاد يحدث في بلد حادث خطير يمس العلاقات الدولية أو تبدو في الأفق سحب يخشى أن تلبد الجو السياسي وتعكر الصلات بين الدول ، أو تسنح سانحة لتوثيق الروابط وتقوية الوشائح وتوحيد الخطط وتصفية وجوه الخلاف ، حتى يخف قادة الأمم وساستها وينتقلون إلى حيث يطيب الاجتماع الهادئ وتبادل الآراء وجها لوجه ، ولا تقف المسافات البعيدة التي تفصل بينهم والمشاغل الخاصة التي تقعد بكثير منهم عن ترك بلاده والتحلل من واجباته المحلية ، عقبة في سبيل تلاقيهم ؛ فقد ذللت وسائل الاتصال السريع كل عقبة ويسرت كل صعوبة.

وقد نجح هذا الأسلوب أكبر نجاح في قطع السبيل على الدسائس السياسية التي تعمل على التفريق بين المحبين وخلق جو من الشك بينهم . فقد كان  أكبر اعتماد سياسة الدس على تباعد الأطراف ، وقصور الاتصال البعيد غير المباشر عن إزالة أسباب الخلاف . أما اليوم فلا تبذر بذور تفرقة حتى يقتلعها لقاء سريع وتفاهم صريح يكشف مستورها ويزيل أثرها .

اجتماع الثلاثة الكبار

وقد كثر تنقل ساسة الدول العظمي المتحالفة ، بريطانيا وروسيا وأمريكا ، فرادى ومجتمعين ، إلى حيث تدعو الحاجة في كل طرف من أطراف المعمورة ، ولم يفتر لهم نشاط في هذا التنقل ، ولم يحل بعد الشقة وزحمة العمل وحاجة الأجسام إلى الراحة - وفيهم شيوخ ضعاف - دون احتمال متاعب السفر السريع وتجشم الصعاب الخطرة في

سبيل دراسة المشاكل عن قرب وتبادل الآراء مشافهة وجها لوجه . فكان لذلك من النتائج السريعة الحاسمة ما دل على أن الاتصال الشخصى يفعل ما لا يفعله التكاتب والتخاطب البعيد .

وكان اجتماع الثلاثة الكبار في كل مرة كفيلا بزيادة التقارب وجلاء الغامض من وجهات النظر وتوحيد الخطط وتقوية وسائل التعاون .

وقد تم اجتماعهم أخيرا في القرم . ولهذا الاجتماع الأخير أهمية خاصة ، فقد جاء عقب انتصارات بعيدة المدى أحرزها الروس في شرق ألمانيا ، وأحرزها الأمريكيون والبريطانيون في غربها . وانتقلت ميزة السبق في ميدان الحرب إلى أيدي الحلفاء ، فأصبحت ألمانيا تغزي في عقر دارها وأصبحت عاصمتها مهددة عن قرب ، وتوالت النوازل على مدنها ومراكزها الصناعية تمطرها الطائرات بما يدك قواعدها ويهدد بنيانها . وبهذا دخلت الحرب في مرحلتها الأخيرة . وكان من الطبيعي أن يتدبر هؤلاء القادة الموقف في هذا الدور الحاسم ، وأن ينسقوا جهودهم في هذه المرحلة الختامية ، ولا سيما بعد أن تبينوا أن ألمانيا لا مناص لها من بذل أقصى جهدها في الذب عن كيانها والدفاع عن كل شبر من أرضها ، وأنها مصممة على التفانى في حربها الدفاعية والاستماتة في هذه المعركة النهائية .

وكان من الطبيعي أيضا - والحرب قد أشرفت على النهاية - أن يفكروا فيما ينتظرهم من المشاكل السريعة بعد الحرب ، وأن يرسموا معالم الخطة التى سينهجونها في حلها وإن لم يدخلوا في تفاصيلها المعقدة ، حتي لا يقوم بينهم بعد ذلك خلاف على المسائل الرئيسية التي ستواجههم.

وقد أسفر الاجتماع عن اتفاق تام على الهدف الأول من اجتماعهم . وكان أبرز ما استقر عليه رأيهم إيجاد هيئة حربية مشتركة تنسق التعاون الحربي في الميادين المختلفة ، وتوفق بين الضربات التي ستكال لخصمهم العنيد حتى يتم

إجهازهم عليه . وأبوا إلا أن يخر أمامهم على قدميه مستسلما بلا قيد ولا شرط ، ليفرضوا عليه عقوبة قاسية تمزق أوصاله وتجرده من كل قواه .

وفي هدفهم الثاني عالجوا السياسة التي تتبع مع دول أوربا المحررة وتفاهموا على الحدود الجديدة لبولندا والنظام الذي تحل به مشكلة يوغوسلافيا والمهمة التي ستوكل لفرنسا والنظام الذي سيوضع لكفالة الأمن والسلامة في أوربا.

أثر الاجتماع :

وقد كانت القرارات نجاحا ظاهرا لسياسة روسيا ، وقوبلت بارتياح في بريطانيا وأمريكا ، وإن كانت بعض الدوائر فيهما تعد القرارات قاسية بالنسبة لألمانيا .

أما ألمانيا فكانت القرارات مخيبة لآمالها وعدت الاجتماع مؤامرة إجرامية عليها ، وزادتها استمساكا بخطة المقاومة والاستماتة في الدفاع عن كيانها .

وأما فرنسا فلا تزال تحلم بمركزها السابق الذي فقدته ومكانتها الكبرى التى كانت لها بين الدول العظمي ، وعز عليها أن تقضي الأمور في غيبتها ولا تدعي لتقول كلمتها في مصاير الأمم والشعوب ، فهي لهذا ساخطة متبرمة ، لكنها لا تستطيع أن تفعل أكثر من السخط والتبرم ، ويدها قاصرة عن أن تمتد لأبعد من ذلك ، وقوتها أضعف من أن تعبر عن أنها بأكثر من ذلك ، فهي راضية بما ارتضوا لها مما يتفق مع ميولها ومطامعها ، متحفظة فيما عدا ذلك تترقب الفرص وتقلب الأيام

وإيطاليا واجمة حزينة لأن استسلامها للحلفاء وانضمامها لمعاونتهم لم يغيرا من نظرتهم لها ولم يبدلا من معاملتها ، فقد تجاهلها القادة ولم يقولوا عنها كلمة تحيي موات آمالها وتبعث الرجاء فيها

وسكنت الأمم المحايدة فلم تعلق بخبر أو شر وانتظرت

مع المنتظرين ما سيكون بعد ذلك ، وهل يمسها التغيير أو يدعها وشأنها ، ولكن القلق يساورها جميعا حتى يفصح القادة عن النظام العالمي الجديد ، وهل سيحقق العدالة التامة أو يرعي مصلحة من اشتركوا في الحرب وحدهم

والشرق أيضا :

وكان كل حديث القادة عن أوروبا وشعوبها ، كأن العالم هو أوروبا وحدها ، وكأن بقية سكان هذا الكوكب لا يعنيهم أمرهم ولا يستحقون التفكير في شأنهم

وقد لا يكون سكوتهم عن ذلك إغفالا لأمر الأمم غير الأوروبية ولكن تقديما للمشاكل العاجلة على الآجلة ولكن الأمم الشرقية كانت تود أن تسمع أن الروح التي تملي على القادة تحقيق الأمن والسلامة والحرية لشعوب أوروبا هي نفس الروح التي تهديهم في معاملتهم ومعاملة كل شعوب الأرض الأخرى ، وأن الإنسانية لن تنقسم إلى سادة يقطنون أوروبا وأمريكا ، وطبقة أخرى من الناس يتحكم فيهم هؤلاء السادة في آسيا وإفريقيا ، وأن المبادئ السامية ليست وقفا علي أجناس بعينها ويحرم منها الأجناس الأخري  نأمل ألا يكون هذا الاتجاه هو الذي غلب علي قادة الأمم العظمي حين اجتمعوا وأن يكون سكوتهم عن غير أوروبا سكوتا غير متعمد

اجتماع وزراء خارجية الأمم العربية

وآمل من محاسن الاتفاق أن يجتمع في نفس هذا الوقت بالقاهرة وزراء خارجية الأمم العربية لوضع نظام الجامعة العربية وتحديد خطط التعاون بين الشعوب العربية . إن الظروف الحاضرة والأحوال العالمية المرتقبة تجعل هذه الجامعة ضرورة قصوي لهذه الأمم .

ليست الجامعة العربية نظاما مفتعلا صناعيا ، فهي قائمة فعلا قبل أن تقوم شكلا ورسما . فهذه الأمم المتجاورة تربط بينها أوثق الصلات وتجمعها وحدة التاريخ واللغة والدين ،

ويجمعها أكثر من ذلك استهدافها جميعا لأخطار واحدة وكل منها على انفراد لا تقوي على مواجهة أعاصير السياسة الدولية ومقاومة أخطارها ، ولكنها مجتمعة تستطيع أن تكون قوة مرهوبة الجانب . وهي تستطيع بتعاونها أن تسير خطوات أسرع في سبيل التقدم الاقتصادي والثقافي والعمراني وأن تكون أداة قوية في خدمة السلام . وهذه الأمم متجمعة غنية الموارد زاخرة بالقوي الكامنة التي لا ينقصها إلا العلم والإرادة والتنظيم . فإذا كانت جادة في الأخذ بأسباب النهضة واستكمال وسائل العزة والقوة ، فلن ينقصها إلا العمل السريع المنظم الذي تتعاون فيه كل كفاياتها

وستكون الجامعة العربية وسيلة لتقوية الاستقلال الذاتي لكل شعب عربي لا سلطة عليا تحد من هذا الاستقلال . فلكل شعب الحرية التامة في إدارة شئونه الخاصة ، ولكنه سيجد من بقية الشعوب الأخري إخوانا يعاونونه ويغارون على كيانه غيرتهم على كيانهم ، ويبادلونه خيرات أرضهم وثمرات خبرتهم وتجاربهم ويبادلهم مثل ذلك فعلى بركة الله سيروا أيها الزعماء ، وادعموا أسس هذا البناء الذي تعلق عليه الشعوب العربية أكبر الآمال

اشترك في نشرتنا البريدية