" عدو الاشتراكية هو الذى ينادى طبقة واحدة ، أما الاشتراكى دعاؤه نداء اجتماعي " (رمزي في مكدونالد)
تكاثرت علينا في العهد الأخير دعوات يمكن وصفها - فى شيء من التسهل في التعبير ومجاوزة الدقة - بأنها دعوات اشتراكية . واتخذت هذه الدعوات أكثر من لون ، وجاوز بعضها حدود القول إلى العمل أو بدء التنفيذ ؛ فمقالات فى الصحف تبكى حال الفلاح ، وخطب فى البرلمان تستندي التشريع الممالك الصغير وتستعزل الدولة عن حقها فى ملكه ، ومشروعات قوانين للعمال ، واحتجاجات من موظفى الجهات غير الرسمية ، على أن مشروع مجلس الدولة جاء خاصا بموظفى الحكومة ، فلم يتح للمحتجين ما أتاحه لهؤلاء من مزايا وفرص جديدة للاستنصاف . ثم إلى جانب ذلك إضراب نفر من العمال والدعاة عن الطعام - أو إعلانهم هذا الاضراب - فلما نزلت الدولة عند إرادتهم وبادرت فشرعت لهم تشريعات ، لايهم أن تتثبت من تضجها وإنما يهم أن تكون لها أسماء معينة معجبة ، وإما استقبلوا الموت ليرووا بدمائهم شجرة العمالية المتعطشة إلى الدماء ، ويستنفروا الرأى العام للدفاع عن الفلاح المسكين .
أصفيت إلي هذه الأصوات كلها ، ورأيت الدعوة نهر ، فتستكثر من الأنصار والهاتفين والرددين من الهتاف ما يفقهون وما لا يفقهون ، وفتشت عن نغمة اخرى تعدل من ميزان تلك النفعة الطاغية وتطامن من غلوائها ، وتضع
الواجب إلى جوار الحق ، وتذكر الأمة قبل أن تذكر الطائفة ، فوجدها لكن حبيسة فى صدور أناس لا يفرجون عنها ، لأنهم كرهوا أن يوصموا برجعية ، أو يقال فيهم أعداء للانسانية ، أو يسخطوا على أنفسهم العامل والفلاح . وأنا ، أحيانا ، من الكسالى الذين يحبون أن يقوم غيرهم بالتعبير عما يعتقدون ، فإن استيأسوا من أن يؤدى هذا الفرض أحد ، نهضوا مرغمين إلى أدائه ، فأعلنوا الرأى ، ونافحوا عن العقيدة .
والرأى عندى أن فكرة التضامن الاجتماعى ووحدة الأمة والصالح العام ، هى التى يجب أن تهيمن على تفكير الطوائف والطبقات المختلفة ، وهى التى يجب أن تلهم الدعاة ، وتوحى إلى المشرع .
فاذا دعونا - مثلا - إلى الترفيه عن الفلاح ، وجب أن تصدر فى هذه الدعوة عن باعث مصرى قومى لا عن باعث طائفى أو طبقى . إن الفلاح يجب أن يكون قويا وأن يكون متعلما ، لا لأنه فلاح ، ولا لأنه ظلم وهرا وآن أن ينصف ، ولا لأنه وديع يثير الشفقة فى النفوس الرحيمة ، ولا لأنه يكون تسعة أعشار الأمة ؛ وإنما نريده صحيح الجسم والنفس والعقل ، لأنه لبنة من لبنات المجتمع ، لا يتأثر فى ذلك بغير هذا الاعتبار ، ولا يغير
من سلوكنا أن تتغير نسبته العددية ، فيصبح عشر الأمة وقد كان تسعة أعشارها ، فان الأمة بأقليتها كما هى بأكثريتها ؛ وقد تكون بأصغريها ، بمثقفيها ونخبتها قبل أن تكون بجماهيرها ، أو قل إن وجودها لا يتصور بغير تضامن العقل والجسم معا ، وإن انقضاء هذا التضامن معناه - كما قال ذلك الفيلسوف الدينى - انقضاء الحياة .
ليس للفلاح إذا ولا للعمال ولا لكبار الملاك ولا لأصحاب المصانع ولا للموظفين لدى الدولة أو لدى غيرها - ليس لطبقة من هذه الطبقات حق فى أن تتميز بأشياء بوصفها طبقة معينة ، وليس لها مصلحة فى هذا التميز إذا هى أبعدت فى النظر وعمقته ولم تكتف منه بالقريب الضحل ؛ وإنما حقها هو حق الأمة كلها لأن بقاء الجماعة يجب أن يكون غاية الغايات كما قال اهرنج ، ولأن مصلحة الأمة الحقيقية إن هى تحققت حققت مصلحة الطوائف والطبقات جميعا : فأصحاب رأس المال قد يرون مصلحتهم القريبة فى أن يرعقوا العمال ويبخسوهم أجورهم ، والعمال قد يرون مصلحتهم القريبة فى أن يذلوا أرباب العمل ويستأدونهم أكثر مما يعطونهم ؛ ولكن مصلحة الأمة تروح ضحية موقف أولئك وهؤلاء ، لأن الصناعة القومية يذيلها هذا التشاد ، فإذا ذبلت خسر أصحاب رأس المال وخسر العمال يوم لا يجدون عملا ، وخسر المفكرون الذين يستثمرون تفكيرهم فى الميدان الصناعى وعلى حواشيه ، وخسرت جميع هذه الحلقات التى تتسلسل في عمليات الصناعة ، ومنها حلقة الفلاح والمالك الزراعى ، وخسر المستهلك المحايد لأنه ذرة من ذرات الأمة ، ثم لأنه قد لا يعود قادرا على سد حاجاته بمثل ما كان يستطيع والصناعة الوطنية مزدهرة وقريبة منه .
على الطبقات إذا ، وعلى الدعوات التى تثار دفاعا عنها واستكثارا لها من المزايا ، ألا تغلو فى الطلب ، وأن ترعى
الكل القومى لا ترعى الجزء الطائفى ، وأن تطلق النظر إلى بعيد وتحيط بالأمر كله من نواحيه المختلفة ، وأن تذكر تلك الخرافة المفيدة : خرافة الفيل الذى اصطدم به جماعة من العميان فتساءلوا : ماذا عساه أن يكون ؟ وتحسسوه فقال أحدهم وقد وقعت يده على ذيله : إنه لثعبان ، وقال آخر وقد صادفت يده من الفيل ((زلومته)) : بل حمار ، وقال ثالث إذ أمسك بموضع آخر من جسمه : بل ثور ، وهكذا حتى احتكموا إلى مبصر استطاع أن يحيط بأجزاء الحيوان جميعا ، فأنهى إليهم حقيقة أمره لم يضله عنها انحصار النظرة ولا جزئية الحكم .
إن الافراط فى ترديد تلك النغمات كما هى ، قد اشترك مع عوامل أخرى فى إشاعة ضرب من الفساد الاجتماعى قبيح المغبة ؛ لا لأن هذه النغمات ضارة فى ذاتها ، بل لأنها تساق أحيانا بغير حكمة وتؤذى فى أسلوب جزئى متطرف وتصب فى اذان متحيزة غير حكيمة ، دون أن تقرن بالنغمات التى تعدلها وتذهب الخطر من مسمومها إذ تمزج بمواد أخرى تتفاعل معها .
فقد تحدثنا كثيرا عن حقوق العامل وآلام الفلاح ونكبة الموظف الصغير . ولكن هل حدثنا هذه الطوائف عن واجباتها ؟ وهل بصرناها بما فى أعمالها من نقص ؟ هل طالبنا العمال بالتجويد أو آخذنا الدولة على أنها لا تكفل لهم التدريب الفنى السامى حين اخذناها على أنها لم تسرع فى إصدار تشريع يعترف بتقابات العمل ؟ هل دعونا الفلاح أن يخلص فى عمله حين ملأنا الفضاء نشيجا عليه ، وحين أفعمنا اذانه بأنه مظلوم مهتضم ، وأنه غزال مفترس وأنه شمعة تضئ لغيرها وتحترق ؟ .
أخشى أن أقول - بل لا أخشى أن أقول - إن لنفوس المهيئة للشر قد وجدت فى هذه الدعوات مغريات
مشجمة على مقارنة الانام أو أتخذت منها ذرائع تبرر بها أمام نفسها جرائم سلبية ، مثل إهمال العمل الموكول إليها ، وأخرى إيجابية مثل السطو الحرام على ما يقع فى يدها من أموال الناس . وإن الطبيعة البشرية لسريعة الابتكار لمبررات الاثم تعتذر بها لنفسها عن نفسها . فما بالنا وهذه المبررات تخلق لها خلقا وتقدم إليها بين مواكب من الفلسفة والشعر ؟
إنني لا أعتسف القول ولا أفترض الفروض ، إنما أقول عن معاناة وخبرة ؛ فان فريقا من الموظفين غير الحكوميين لينظرون إلى مال مستوظفيهم - لا نظرة الحسد والحسد قديم - وإنما نظرة صاحب الحق المغصوب ، فاذا استطاعوا الوصول إليه عن طريق لا يناله عقاب القانون ، هنئوا إلى ذلك فى فرحة من يستنقذ الحق مطمئن الضمير ، وقد كانوا من قبل يخونون الأمانة فى ذلة واتصاع ، لأنهم لم يكونوا يرون لأنفسهم فيما يتخونون حقا ، فلم يروا إلا أمهم فى فعلهم خونة سارقون .
وإن فريقا من العمال لم يستقر فى نفسه من صيحات العمالية إلا أن من حقه أن يتغطرس على الطبقات الأخرى ، أو يسخر منها كلما واتته الظروف وأمن نتائج فعله ؛ وهو حين يتشفى بتجريح أحد ركاب الدرجة الأولى فى عربة من عربات (الأمنبوس) مثلا ، لا يعطف على أفراد الطبقة الفقيرة التى ينتمى إليها ، بل إنه لا يؤدى واجبه إزاءها ؛ فإذا رأى عاملا مجهدا من عمال البناء قد حمل عدده ووقف ساعة أو بعض ساعة يرتقب مجىء العربة ، وكان سائقها قد تلكأ فى بعض الطريق ليتحدث إلى صديق أو ليساوم على بطيخة يدعدغها ويقلبها من جميع نقط الدائرة ، فان هذا السائق الذى استشفى بالسخرية من صاحب الدرجة الأولى لا يكترث بهذا العامل المسكين ، بل يسرع بعربته لأنه يريد أن يعتاض بالإسراع من الوقت الذى أضاع ، ذلك أنه يخشى رقابة الشركة لا يخشى رقابة ضميره ، فاذا
غلا فى السرعة ورأى أنه خليق أن يبلغ نهاية الدورة قبل موعدها المرسوم ، عاوده الخوف من الشركة فوقف فى الطريق بغير مقتض . إنه لم يسمع من الدعاة إلا أنه مغبون ، وأن العمال فى أوربا يشكلون الوزارات ، وأن الله جبله من الطينة التى جبل منها سائر الطبقات ، فليشمخ إذا بانفه كلما استطاع .
ومثل آخر : تحدثت الصحف عن مشروع مجلس الدولة ، وروت من أحكامه ما يكفل ضمانات جديدة للموظفين ، فاذا بعض موظفى المجال الأهلية والشركات يكتبون إلى الصحف غاضبين لأن المشروع لم يدخلهم فى زمرة المنتفعين به . لم ينظر هؤلاء الغاضبون إلى الفروق الأساسية القائمة بين مركزهم ومركز موظفى الدولة ، ومنها ما يعتبر مزايا لطائفة الغاضبين ، مثل عدم التقيد باللوائح فى الترقيات ، وجواز الجمع بين المرتب والعمولة ، وأن سلطان القضاء العادى فى إنصافهم إزاء أرباب الأعمال أوسع من سلطانه فى إنصاف موظفى الدولة ، وإن الغدر الذى يقع منهم على أموال مخدوميهم يقف عند حد الجنحة ، فى حين يرقى إلى درجة الجناية إذا هو وقع من موظفى الحكومة ، وأن الارتشاء حين يسقطون فيه لا يكون أية جريمة ، فإذا سقط فيه موظف الدولة كانت سقطته جناية غليظة العقاب .
لم ينظر هؤلاء الموظفون ((الأهليون)) إلى شئ من هذا ، ولكنهم سارعوا يطالبون لأنفسهم بامتيازات مجلس الدولة ، ووجدوا صحفا تصفى إلى أقوالهم وتنشرها لهم ، حين لم يجدوا من يبصرهم بالفروق وينبههم إلى أن من يذكر حقوقه يجمل به ألا ينسى واجباته ، ويقترح على المشرع المصرى أن يسوى بينهم وبين موظفى الدولة فى مبدأ العقاب على الارتشاء كما فعل المشرع الانجليزى فى قانون سنة ١٩٠٦
والمشرع القبرصى فى قانون سنة ١٩٢٠ .
لن تصلح أمورنا حتى نذكر واجباتنا ذكرنا لحقوقنا . ولن نأمن على ديمقراطيتنا وكياننا حتى نسحق الدعوات الطائفية والطبقية ، وننسى الطائفة والطبقة لنذكر الأمة والوطن .
ولن يقوم إصلاح صحيح حتى يصلح المصلحون أنفسهم ويأخذوها بشىء من الرقابة ، فلا يلقوا القول جزافا ، ولا يطلقوا الدعوة فجة ، ولا يحبسوا فى ضمائرهم كلمة الحق رغبا أو رهبا .
((الثقافة)) إن الكاتب الفاضل محق فى أن تشريع
المشرع يجب أن ينظر فيه إلى مصلحة الطوائف من طريق مصلحة الامة ، ومحق فى أن ينبه المطالب بالحق إلى أن عليه بإزاء الحقوق واجبات ؛ ولكنا نخالفه فى لومه الطوائف بالمطالبة بحقوقها ، وخاصة الفلاحين والعمال ، فقد يكون له الحق لو أنهم نالوا أكثر حقوقهم ولما يقوموا بواجباتهم ؛ أما وهم مهضومو الحقوق إلى درجة تدعو إلى الشفقة والرحمة ، فمن الظلم أن نقول لهم : لا تطالبوا بشىء من حقوقكم حتى تؤدوا جميع واجباتكم . بل يجب أن بتوازى الخطان ، وتسمع النغمتان . ثم إن من الحق لكل طائفة بل من الواجب عليها أن تدرس مشاكلها وتحدد مطالبها وتسعى كل السعى فى تحقيقها ، وعلى المشرع بعد أن يوفق بين مطالبها والمصلحة العامة للأمة .

