الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 343الرجوع إلى "الثقافة"

على هامش السلم :، الفرد والجماعة

Share

لا يقل اهتمام الرأي العام في جميع البلاد حتى المحايدة منها بما ستكون عليه الحال بعد الحرب عن اهتمامه بأنباء الصراع الحالي .

فقد اثرت الحرب الحالية في حياة الفرد والجماعة وفي نظرة الانسان للحياة وتفهمه لها وزعزعت من إيمانه بالنظام الاقتصادي وبعدالته وقدرته على أن يكفل المساواة التي اشتملت عليها كل الدساتير .

ولقد بلغت هذه الحالة حدا من الخطورة جعلت الامم المحاربة منها والمحايدة تفكر باهتمام باحثة عن الوسيلة التى تجعل العدالة الاجتماعية حقيقة واقعة . وهي تعلم الا سبيل إلى ذلك إلا عن طريق الموازنة بين حقوق كل من الفرد

والجماعة ، سواء كان ذلك في دائرة الوطن او في دائرة الامم

فقد أوقعتنا الثورة الاقتصادية والاجتماعية التي نشبت منذ عشرين عاما في ذهول تام ومع كل فليس من العسير علينا أن نتبين سبب الحيرة التي وقعنا فيها .

فنحن جميعا بشر ونؤمن قبل كل شئ بقانون البقاء والدوام ونحن شديدو التمسك بنظام عصرنا الاقتصادي والاجتماعي على ما فيه من عيوب ليس السبيل إلي إصلاحها بالمستحيل . وقد ننسى ان العالم قد مرت به انظمة اجتماعية مختلفة ، فشاهد العالم ازدهار مدنية مصر القديمة ( على أساس الرق ) خلال عشرات القرون ثم شاهد من بعد ذلك المدنية الاغريقية تجمع بين الفردية والاشتراكية خلال مئات من السنين إلى اليوم الذي حلت فيه محلها الإدارة الرومانية البارعة ، ثم شاهدت بعد ذلك القرون الوسطى قيام النظام الإقطاعي المؤسس على الرق على بقايا واطلال الامبراطورية الرومانية ، ذلك النظام الذي تطور هو الآخر نحو نظام

النقابات المعقد . واخيرا شاهد القرن الثامن عشر مولد الراسمالية ونشأة النظام الآلي الذي قدر له النصر زهاء مائة وخمسين عاما .

ولقد ظن كل عصر من هذه العصور أن نظامه الأجتماعي سرمدى . غير ان العصر الذي كان يعتبر ان المناداة بتحريم الرق من الأسباب التي ستؤدي إلي اختلال التوازن الاقتصادي في العالم كله ، هذا العصر لم يدم  اكثر من قرنين.

أفلا يجدر بنا إذا أن نسلم بأننا نشاهد تطورا جديدا وانه من المستحب ان نسعى للتوفيق بينه وبيننا بدلا من أن ننكر وجوده ؟

فللدول المستعمرة والطبقات المالكة امتيازات يصعب عليها أن تألف فكرة التخلى عن كلها أو بعضها أو أن تسلم بأن للطبقات العاملة او للامم التي لها الغلبة العددية الحق في الاستحواذ على السلطة والسعي في ضمان جزء متزايد لها في تقسيم الثروة حتى ولو كانت جهودها نحو نظام المساواة لا تزيد فعلا في يسار الجماعة ورفاهيتها .

هذه وقائع من الواجب التسليم بها مهما آلمنا ذلك

والواقع أن الثورة الاجتماعية التي تسير في طريقها منذ عشرين عاما إما تشير إلى إحدي فترات صراع يتجدد على الدوام ، أو بتعبير ادق تشير إلى السعى في سبيل إيجاد توازن ثابت بين الحرية الفردية وبين حاجات الجماعة .

وقد كان الاعتقاد إلى عهد قريب أن الثورة الفرنسية قد حلت هذه المسألة حلا نهائيا لمصلحة الفرد بمنحه كل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية .

وأصبح الفرد طبقا لمبادئ الثورة الفرنسية سيد نفسه في دائرة العائلة تلك الوحدة التي تغني فيها شخصيته . أما الدولة فلا وجود ولا سلطة لها إلا بالقدر الذي يكفل للفرد استقلاله ويضمن له حقوقه ويسهل عليه استعمال حرياته في هذه الدائرة .

في مثل هذا الجو نمى نظام راسمالية القرن التاسع عشر

وازدهر . ولكننا نشاهد في فترة الأزدهار هذه تطورا اقتصاديا ينتقص كل يوم من سلطان المبدأ الفردي . وتري كل الجهود موجهة نحو تكوين الهيئات الاجتماعية وعقد الاتفاقات الاقتصادية وتقوية الدولة والزيادة من سلطانها ونفوذها على حساب الفرد .

والماركسية التي اثارت حماس الجماهير زهاء خمسين عاما ونالت تأييدهم لها في الانتخابات ، توجه نقدها لعدم المساولة وتنادي بظلم ذلك النظام الاقتصادي القائم على الحرية التامة للفرد ، ثم تدعو الماركسية الطبقات العاملة إلي الاستيلاء على السلطة ، وتناشدها تقسيم الثروات وجعل وسائل الانتاج ملكا للجماعة . ولكنها تطالبهم في الوقت ذاته بالقضاء على الدول والأمم لأنها تكون هيئات انانية تحول دون أي تقدم للجماعة ، فضررها لا يقل عن ضرر الفرد متمتعا بكامل حريته واستقلاله . فالماركسية ترمي إلي ان تشيد على أنقاض هذه الهيئات اكبر جماعة انسانية عرفت في تاريخ الانسانية وهي الدولية العالمية .

ولقد شاهدنا في الفترة التي لحقت حرب سنة ١٩١٤ أهم تجربتين عرفتا في التاريخ قصد بهما القضاء علي الأنانية الفردية والأنانية الوطنية بإحلال مبدأ الأخوة بين الشعوب مكانهما .

أما التجربة الأولى فهي الشيوعية . والتجربة الثانية هي عصبة الأمم . وكان الفشل نصيب كل منهما .

فكان من مبادئ الشيوعية تحرير الانسان من كل روابط المصلحة ومن العاطفة التي تؤلف بينه وبين الهيئات سواء كانت هذه الهيئة هي العائلة او الوطن ، كل ذلك يقصد به الوصول إلى فكرة اسمى وهي اتحاد جميع العمال في مختلف الدول على أساس الاخوة الإنسانية . ولكن الواقع كان أقوي من المبادئ ، فغيرت الشيوعية كثيرا من المبادىء التى اشتمل عليها برنامجها الأصلي فبعثت من جديد بوسائل العمل الخاصة بالمجتمع الرأسمالي ، كالتجارة والعملة والملكية المحدودة والميراث ، كما سلمت بقيام المميزات بين

الأفراد بأن سمحت بنظام العمل على أساس الكمية المنتجة وأباحت الادخار . كما استبعدت- وهذا مهم جدا- فكرة الإخاء الدولية تلك الفكرة التى كانت من اسس النظام الشيوعي واحلت محلها الإنانية بمظهرها المزدوج في دائرة العائلة والوطن . فتخلت - ولو لزمن ما - عن القضاء عليهما .

وكان الأمل كبيرا في عصبة الأمم التي أوجدها الرئيس ويلسون وتعهدها من بعده بريان ان تضع حدا للانانية الوطنية وأن نقضي على جبروت الدولة وطغيانها . كان الأمل في أن يعيش العالم بفضل هذه الهيأة مسالما وقد نزع سلاحه . وكان الأمل أن الدول وقد توطد السلام بينها ستعمل راضية مختارة - وقد زالت عن نفوسها كل الهموم الحربية ورفع عن كاهلها كل التكاليف المالية التي تقابلها - على إزالة الحدود والقضاء على نظام الجمارك وجوازات السفر بحيث يكون الفاصل بين الدول فاصلا إداريا وكان الأمل كبيرا في أن الفرد وقد استتبت له كل أسباب الطمأنينة والراحة في عالم يسوده السلام سيعمل حرا مختارا على إنماء شخصيته في دائرة الأخوة الإنسانية

ولكن صرح السلامة الإنسانية لم يلبث أن انهار بسبب فساد معاهدة فرساي من ناحية ولأختفاء كل من ويلسون وبريان من ناحية اخرى . وما هي إلا لحظة أمل تلاشت كالسراب فبعث من ورائها التعصب الوطني- الذي كان الأمل كبيرا في القضاء عليه - بعث من جديد أشد قسوة ووحشية من ذي قبل . ولم تعد عصبة الأمم التي لم تعرف كيف تكون قوية او سليمة سوى متحف شبه مقفر يبكي القائمون عليه بألم وحسرة على تلاشى حلم كبير وجميل.

والنتيجة التي يخرج بها الباحث من هاتين التجربتين الفاشلتين هي أن الإنسان لم يبلغ بعد الدرجة التي تهيئه لحياة اجتماعية تجمع بين الشعوب كلها .

لا نزاع في أن اطراد نمو الشعور الاجتماعي في كل البلاد حقيقة واقعة منذ عشرين عاما شملت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وكيفية تنظيم العمل والانتفاع بأوقات الفراغ . ولكن إذا كانت الغاية ابلاغ الكائن البشري نهاية هذا الطريق في أقل وقت ممكن ولو كان ذلك بالضغط عليه فانه مطلب مستحيل التحقق . إذ الواقع ان الفرد لا يجود ولا يحسن إلا لأولئك الذين تربطهم وإياه رابطة قوية . ولذلك فان الجيل الحالي بالرغم من تحبيذه للتعاليم الشيوعية عاجز كل العجز عن تطبيقها والانتفاع بها . وقد عبر عن هذه الحالة أحد المفكرين بقوله . " إن ثوارا كثوار الكرميلين يمكن أن يكونوا خطرين على الرأسماليين لا على الرأسمالية ، فالرأسمالية نظام لا سبيل إلي النيل منه إلا بحركة تهذيبية كبيرة تتغلغل في نفوس الجماهير وتبرئها من العيوب والنقائص التي قد ألفتها منذ قرن . إذا قدر هذا حينئذ تصغر وجوه الرأسماليين حقيقة في قصورهم الذهبية لأن ثرواتهم تكون قد أصيبت مما يصيب الكرة إذا اخترقتها آلة حادة.

فالسبيل إذا للسلامة التي ينشدها الجميع ليس في التجرد المطلق عن كل شئ من متاع هذه الحياة الدنيا ، ذلك التجرد الذي يسمو بصاحبه إلى مصاق القديسين . والذي وحده يسمح بقيام الشيوعية المقبولة من الإنسان عن حرية واختيار . ولا هو بسيطرة المصلحة الشخصية المؤسسة على الأنانية . وإنما السبيل هو في قيام نظام وسط لا هو بالخير كله ولا بالشر كله . وإنما هو نظام يعترف بأن الإنسان مزيج من هذا وذاك ، فلن يكون الدافع المحرك اللانسان غريزة الأنانية فيه وحب الاستئثار بالشئ لنفسه ، وإنما للغرائز الاجتماعية محل يشعر الفرد دائما بأن الحياة شركة بينه وبين غيره وان ما يتمتع به هو وغيره في دائرة الفكر والمادة هو تراث مشترك بينهما .

ففي كل عصر يتوقف تركيب المجتمع ونظامه على مبلغ

تفهم الفرد العادي للعلاقة الواجبة بين شعوره كفرد قائم بذاته وشعوره كفرد في الجماعة . فإذا كانت الغلبة في عصر للغرائز الفردية اتصف هذا العصر بنشاطا أكبر في العمل واختلاف واضح بين الطبقات وازدياد مطرد في الانتاج. وأما إذا كانت الغلبة للشعور الجماعى اتصف هذا العصر بالعدالة في التوزيع بين الأفراد يقابلها تخفيض في الانتاج.

وليست الثورات الاقتصادية والسياسية نفسها هما سبب هذه الانقلابات التي تأتي من حين إلى حين بمدنيات جديدة . وإنما هما المظهر والنتيجة . وكلتاهما تخضعان لنوع من القضاء والقدر ولعوامل تطور الفكر الإنساني واطراد التقدم العلمي الذي يكفل إشباع حاجات البشر بطريقة تتفاوت في السرعة والمدى مع العصور .

فكل مرحلة من مراحل الفلسفة البشرية والتقدم العلمي تقابلها حالة سياسية أو اجتماعية خاصة قد يصل اليها المجتمع بسلام أو بعنف ، بسرعة أو ببطء .

لذلك فان الطريق الذي يسير فيه العالم هو طريق واحد علي الدوام وان اختلفت التسميات وتباينت الوسائل التي يأخذ بها رجال الدول علي اعتقاد منهم في انهم هم الذين يوجهون الحوادث وجهتها.

ولا شك في أن المبدأ القائل بتفضيل الفرد على الجماعة فقد كثيرا من قوته وأهميته إن لم يكن قد قضى عليه نهائيا . ولا شك في أن مبدأ الأخوة بين الشعوب والسمو بالفرد حتى يفني في الجماعة مبدأ لم يستتب له الآمر بعد إن لم يكن قد باء بالفشل . ولكن الأمل لم يفقد بعد في إقرار نظام يكفل للفرد في دائرة الحرية والمساواة المستوي الذي يتناسب للعضو يحيي في جماعة متمدينة

إذا كانت الدول المتحكمة في غيرها تبغي سلاما . والطبقات المالكة تنشد لنفسها الطمأنينة . والطبقات العاملة تأمل في المساواة الحقيقية في التوزيع فالسبيل الوحيد إلى ذلك هو التشبع بالتعاليم القائلة بان الغاية من كل نظام إسعاد البشر افرادا وجماعات لا استغلالهم لمصلحة فئة قليلة .

اشترك في نشرتنا البريدية