الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 450الرجوع إلى "الثقافة"

على هامش السياسية الدولية :, حديث خرافة !

Share

كانت الخرافات منذ القدم معلمة للانسان . وأقصد بالخرافات تلك القصص التي تحكي حوادث لا يمكن أن تقع في عالم الحقيقة ، بل يخترعها الإنسان إختراعاً ويلفقها تلفيقاً محكماً يجعلها تنم عن تجربة إنسانية عامة .

وهاك إحدى هذه الخرافات : كان هناك أسد هائل ضخم الجسم قوي العضلات حاد الأنياب والأظفار ، وكان يسير في الليل بين السهوب يزأر قائلاً : ها أنذا أيتها الفرائس أطلب منك طعاماً فأسرعى إلى طوعاً أو كرهاً . فترتعد فرائص الغزلان في كناسها ، وتندفع هاربة تطلب النجاة من ذلك الصوت المروع الذي تتردد أصداؤه في أركان الآفق . فإذا بها تجد نفسها بعد حين صريعة تحت مخلب ضخم يحطم عظامها بضربة واحدة ، فتستسلم لقضائها وتذهب حيث ذهب ألوف وألوف من قبلها .

وأما الثيران البرية فكانت إذا سمعت زئير ذلك الأسد تجمعت في حلقة متراصة ووقفت الفحول في خارج الحلقة وطأطأت رؤوسها وقدحت أعينها شرراً تنتظر الهجوم في معركة دامية تبيع فيها أنفسها بالثمن الغالي .

وقضى ذلك الأسد أعواماً طويلة يفترس من الغلباء حيناً ومن الثيران البرية حيناً ، وكان في أثناء تلك الأعوام - والحق يقال - يستحق الإعجاب من كل حيوان السهوب . كان أحياناً يتعفف عن القتل وهو قادر عليه ، وأحياناً ينصر الضعفاء من الزراف على النمور الشرسة التي تريد أن تفتك بها في غير ضرورة من جوع يلجئها إلى الفتك ، وكان أحياناً يخوض المعارك العنيفة مع جموع كثيفة من الثيران فيخرج منها بالجراح والرضوض بغير أن يجزع أو يظهر ألماً . كان بالإجمال أسداً صريحاً عادلاً لا يرضى

بالخروج على قوانين الأسود ولا يخالف تقاليدها الأصيلة . ثم كبر ذلك الأسد وشاخ كما تشيخ الأسود جميعاً ، وتساقطت أنيابه وكلت أظفاره وأخذت آثار الجراح القديمة تظهر عليه ، فكان إذا أراد الوثوب خانته قواه ، وإذا أراد الجري عاقه العرج ، وإذا إتفق له أن ظفر بصيد لم يطعمه ظفره المتلوم وفمه الآترم . فضعف جسمه شيئاً فشيئاً وهزل حتى كان إذا سار سمع الوحش طقطقة عظامه بعضها في بعض ،

وكان في ضعفه يسمع صيحات السخرية من الوحوش التي تمر غير عابثة ، ويرى الذئاب وهي تكشر له عن أنابها في بسمة كالحة ملؤها الإزدراء والتحدي . ولكنه كان لا يستطيع أن يعاقب أحداً على جرأة أو وقاحة ، فكان يزمجر بصوت خانق مكتوم ويطوي الأيام والليالي على الجوع ، ويكظم كل ما في نفسه من الآلام صابراً في إنتظار الأجل المحتوم .

ثم مرت به غزالة مسكينة في ليلة من الليالي في ذهابها إلي مورد الماء فجفلت عند ما وقعت عينها عليه ، وشرعت تعدو في ذعر ، ثم عاد إليها الأطمئنان عندما رأته  ساكناً لا يتحرك ، فوقفت من بعيد تتأمله ، وعند ذلك بدا لها هزاله وخموده وبؤس منظره ، ورأته يرنو إليها بعينيه الخامدتين في ضعف وإستكانة ، فتحركت الرحمة في قلبها حتى كادت الدموع تسيل من عينيها ، وثار الشعر في قلبها فجعلت تتغني حزينة وتردد في أغانيها ما تفعله الأيام بالأسود العاتية وما يجره عليها الضعف والهزال وفناء الشيخوخة من الهوان ، ورأت الغزالة أنه من اللؤم وسوء الأدب أن تشارك الذئاب والنمور وسائر الوحوش في سخريتها من الأسد الصريع المسكين ، وعزمت على أن تسلك معه مسلكاً شريفاً يليق بغزالة مهذبة مثلها ، فذهبت نحوه وقد وطنت نفسها على أن تمد إليه يدها مصافحة وتقف إلى جانبه في محنته لترد عنه كيد العداة وتدفع سخريتهم وتشد أزره وتدخل العزاء إلى قلبه .

ولما صارت الغزالة إلي جانب الأسد مدت يدها إلى رأسه آمنة وجعلت تمسحه في عطف وعرضت عليه كل ما في قلبها من مودة وكل ما يدور في نفسها من عواطف وعزائم وكان الأسد لا يقدر على الحركة فكن حيناً ينظر إليها متعجباً ، ولكنه مع ذلك أحس شيئاً يتحرك في أعماقه فتحامل على نفسه حتى قام وإستطاع أن يحرك يده فرفعها والغزالة وأقفة تنظر إليه لا تدري ماذا هو صانع ، ثم أهوى الأسد بيده الضخمة على رأسها تخبطها خبطة جعلتها تصيح من الألم المبرح ، وإنطلقت تعدو في ذعر شديد وهي تصيح : " إنه لا يزال أسداً مفترساً ! إنه لا يزال أسداً مفترساً !" .

هذه هي الخرافة كما وردت في الأثر القديم ، ولست أدري ماذا كان يقصد مؤلفها منها ، ولكنني عند ما قرأتها لأول مرة ثارت في نفسي صور شتي من صور البشر أفراداً وجماعات .

ومن عجائب الإتفاق أن هذه الأيام الحاضرة ملأى بالعبر التى تذكرني بهذه الخرافة ، فهناك أسد شيخ إسمه (هولندا) ، وقد كان هولندا هذا في الزمان القديم صاحب مخالب وأنياب وأظار حداد ، ثم أفنى عليه الدهر ، فلم يترك له إلا بقية من أنيابه وأظفاره ، فقنع بأن يعيش عيشة وادعة في كتف أبناء عمه من سباع الغابة الذين يساعدونه على الإفتراس .

وهناك غزالة مسكينة إسمها (اندونسيا) كانت من قبل فريسة له ثم تعلمت منه بعد أن تخلى عنه أبناء عمه ، وأرادت أن تعقد معه إتفاقاً شريفاً . فكان حظها منه أن رفع يده يريد أن يفتك بها .

وهناك أسود أخرى كثيرة غير هولندا ولها أسماء أخرى كثيرة لا يحضرني منها إلا عدد قليل . وهناك غزلان أخرى غير أندونسيا وإن كنت لا أذكر من أسمائها إلا عدداً محدوداً ؛ هناك مثلاً أسد شيخ إسمه فرنسا

وله قصة مع غزلان متعددة أذكر من بينها واحدة إسمها تونس وأخرى أسمها مرا كش وثالثة إسمها الجزائر . وبعض هذه الفرائس قد خرصر بها والبعض الآخر لا يزال يناضل في إستبسال اليائس . وقد كانت لهذا الأسد الفاني غزالة أخرى إستطاعت أن تفر منه بعد أن جربت منه ما جربت وبعد أن أصابها من أظفاره المتلومة جراح دامية .

وهناك غير الأسود الهرمة ذئاب وبنات آوى تشبه الأسود في قلوبها وضمائرها ، وإن كانت لا تستحق إلا أن تكون أسماؤها ذئاباً وبنات آري . ولكل من هذه غزلان عزيزة مسكينة تحاول أن تقترب منها ثم تراها ترفع مخالبها إليها تريد أن تبطش بها.

وإن أنس لا أنس أن أذكر أن هناك غزالة أخرى عزيزة على قلبي وإسمها مصر ، مسكينة هي ، لأن أسدها لا يزال محتفظاً بقوته ورونق شبابه ، وقد غرها هذا الأسد بمظهره المسالم في يوم من الأيام - أيام كان أبناء عمومته من الأسود الفاتكة يحاولون قطاع ذيله وجدع أنفه وبقر بطنه ، فتحركت الرحمة في قلبها ووهبت له كل شئ ، وعزمت على أن تخلص له كل الإخلاص وتذهب معه إلى أبعد مدى ، ولقد كلفها ذلك ما لا تطيق من جهد وأوقع بها ما لا حصر له من الجراح ، مع أنها كانت لا تطمع في شئ

من وراء ذلك النضال ، ثم ماذا ؟ هذا هو الأسد - وأظن أن إسمه هو بريطانيا - يرفع يده إليها يريد أن تحطم عظامها . إنه يكشر لها عن أنيابه في غل عجيب لا يتفق مع ما كانت الغزالة مصر تتغنى به من أنغام الصداقة والعطف . مسكينة تلك الغزالة ! إنها تكاد تدمي قلبي !

إنها حقاً لخرافة قديمة ، ولكنها تعيد إلى الذاكرة صوراً شتى من صور الآدميين أفراداً وجماعات - وصوراً أخرى من الأمم والدول .

اشترك في نشرتنا البريدية