الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 594الرجوع إلى "الثقافة"

على هامش " حياتى "

Share

خطفت نسختي من هذا الكتاب من يد الدكتور أحمد أمين بك قبل أن تمتد إليها يد غيري من بقية الأصدقاء الحاضرين . وكان الأمل أن أفرغ من قراءته في ليلة واحدة ، ولكنه لازمني عشرة أيام ، لأني لم أكن ( أزدرد ) قصصه وذكرياته ، بل كنت ( ألوكها وأتفظ ) من بعد قراءتها . فأضعت كثيرا من الوقت في هذه العملية . وعذري في هذا الأمر واضح ؟ فإني عشت في جيل أحمد أمين ، وكنت أقرأ في كتابه - في كثير من مواضعه - تاريخ حياتي لا تاريخ حياته

" فالبيت القديم وسلطان الأب فيه " - لا يزال يطبع خلقي . " والحارات ذات البيوت التي يمدها السقاءون بالماء " - من بعض تجاربي . ومعارك ( الفتوات ) في الأحياء الوطنية من الصور الخالدة التي انطبعت في نفسي والكتاب ، وحصيره البالي ، وزيره الأسود الأخضر ، وشيخه الكفوف عادة ، وعصاه الطويلة ، وذلك المسار اللعين والآلة الشيطانية التي يحملها - كل أولئك من ذكريات الطفولة التى دمغت أعصابنا الغضة بطابعها الذي لا ينسى . وطعم ما في تلك ( المواجير ) الأثرية الخضراء

ما يزال عالقا بفمي كما لا يزال طعم ( القلقة ) عالقا بأقدامي - وهذا اعتراف خطير كنت في غني عن أن أبوح به كما كان ( غيري ) في غنى كذلك عن أن يكتبه في كتاب ولكن أستاذنا انسجم مع حوادث ماضيه فسجلها في تلك الصراحة المحببة التي عرفناها فيه - ثم قرأناها فأثارت شجوننا :

وذو الشوق القديم وإن تعزي

مشوق حين يلقي العاشقينا !

أقول إني قضيت كل ذلك الوقت في كتاب كان من حقه أن يقرأ في جلسة واحدة لتسلسل أحداثه ولسلاسة روايته . وذلك لأن صوره الصادقة ألهتني عن حاضري ، وسحبني حبا إلى جو ذلك الماضي الذي لا يمكن أن يستوعب كل ما فيه من جمال إلا من عاش فيه . ونحن الذين عاصرنا أحمد أمين بك تلذنا مطالعة " حياته " أكثر مما تلذ غيرنا من أبناء الجيل الجديد .

وسبب آخر يجعلني اكثر ارتباطا من غيري بمحتويات هذا الكتاب . وذلك أبي كنت أرى نفسي في كثير من

لوحاته وصوره . فإني في الخمسة والعشرين سنة الأخيرة كنت على صلة مستمرة بأستاذنا لا يكاد ينقضي أسبوع تقريبا دون أن أراء . ولو كان هذا الكتاب ( فيلما ) سينمائيا لظهرت في كثير من مشاهده إلى جوار " الفتى الأول " . .

وعلى ذكر هذا الحديث توجد مناسبة هامة كان يصح أن يشير إليها الدكتور في كتابه ، ولكنه لم يفعل - ولئن لم تكن هذه المناسبة هامة بالقياس إليه ، فإنها كانت هامة جدا بالقياس إلي ، وها أنا أرويها له اليوم بكل تفصيلاتها ، فإني كنت آثرت أن لا أقص عليه تلك التفصيلات في حينها

في صيف سنة ١٩٢٧ على ما أذكر عرضت للأستاذ مشكلة العمامة واستبدال الطربوش بها ، لأنه كان قد ترك القضاء الشرعي ، وعاد إلى التدريس ليكون مدرسا في كلية الآداب بالجامعة ، فوجد نفسه في بيئة جديدة يقول عنها هو : " كأنها عصبة أمم . فهذا انجليزي وهذا بلجيكي وهذا ألماني وقليل من الأساتذة مصريون ، وليس فيهم معمم إلا أنا . . " ويستطرد الأستاذ في بيان الأسباب التي حملته أخيرا على لبس الطربوش فيقول :

" وشجعني على هذا ما كنت آلاقيه في لبسي العمامة من عناء . فعامة الناس في مصر - وخاصة في المدن - مجلون العمامة ظاهرا ولا يجلونها باطنا ، ويوقرون الطربوش غالبا ويستخفون بالعمامة غالبا . ويتغلغل في نفوسهم مبدأ مقرر ، وهو أن صاحب الطربوش يحترم إلا إذا ظهر عكس ذلك ، وصاحب العمامة يحتقر إلا إذا ظهر عكس ذلك ، وكم حدث لي من فصول كرهت من أجلها العمامة . ذهبت إلى فندق مرة فقال لي صاحبه ليس عندي مكان خال ، وإذا بمطربش يأتي بعدي فيخلق المكان ، وأذهب مرة إلى مكتب البريد فأقف وأنا معم أمام الشباك وقد أتي المطربش بعدي .

فيقدمه رجل البريد على ، ويجيب طلبه فأثور عليه ، وأطالبه بالعمل بالترتيب . وأتهيأ مرة لركوب الدرجة الأولى في التام فيقول لي الكمساري : تعال هنا - مشيرا إلي الدرجة الثانية - فعندك الدرجة الأولى ؛ وأذهب مرة إلى كازينو في ضاحية من ضواحي الاسكندرية ومعي صديق مطريش فيسمح له بالدخول ويمنعني ، فأعود معه مكتئيا خجولا . وهكذا وهكذا .

. . فذهبت إلى الخياط ، وفصلت بدلتين ، وشريت طربوشا . وعدت إلى هذا النوع من اللباس بعد سبع وعشرين سنة منذ كنت تلميذا في مدرسة أم عباس . وقد كنت نسيت رباط الرقبة كيف يكون . فكنت ألجا إلى من يربطه لي إلى أن تعلمته . وانتهزت فرصة افتتاح الدراسة في العام الجديد ، فذهبت مطربشا . وكنت أتعثر في مشبتي في الشارع ، وفي الكلية خجلا من الناس . . " .

وهنا - وفي هذا الوضع من حياة الأستاذ - يأتي دور من أدواري البسيطة ؛ فقد كنت في ذلك الحين شابا أنيفا أحتفل بهندامي ، وأعني برونق ثيابي . ولم أكن تزوجت بعد ، ولكني كنت خطبت عروسي وعقدت عليها - دون أن أراها طبعا كعادة أهل ذلك الزمان - فلما زرتها بعد العقد ، وأمكنني أن أصافحها وأن أرى وجهها لأنها أصبحت زوجتي الشرعية ، رأت من باب الذوق والمجاملة أن ترد لي زيارتي في بيتي الذي كنت أسكنه وحدي إذ ذاك ، ويقوم على خدمتي فيه فتي نوبي اسمه " حسن "

كذلك . فحددت لي موعد الزيارة وأخطرتني أنها ستحضر إلي مع أختها في الساعة الخامسة من بعد ظهر ذلك اليوم . وتشاء المصادفات أن يكون نفس ذلك اليوم هو الذي حدده الأستاذ لاصطحابي إلى بائع القمصان الأفرنجية وأربطة الرقبة ليشتري منها ما يوائمه مستعينا في ذلك بذوقي الذي كان لا يزال يثق فيه حتى ذلك الحين . ولم أشأ أن أحدثه عن ظروفي الخاصة ، وعن ذلك " الموعد الرسمي " الذي حددته

لي عروسي لتزورتي فيه زورتها الأولى . ولكني قلت لنفسي إن شراء قميصين ورباطين سوف لا يستغرق كثير من وقتي ، فلا بأس على من أن أجمع بين الموعدين فأقضي مصلحة صديقي ثم أعود مسرعا إلى عروسي . ولكن المقادير غير المواتية لعبت دورها معنا في ذلك اليوم . فقد بعثرنا وقتنا في اختيار الألوان . . وفي شراء الأزرار الأمامية والخلفية . . وفي انتقاء الأربطة وتجربة ربطها . . ولما طرت راجعا إلى منزلي وأنا أدرك ما تورطت فيه من سوء التدبير وجدت قرينتي العزيزة فيه تنتظر مضيفها فاسد الذوق ، وتواجه أول فصل من فصولي الباردة التى ظلت تحتملها مني منذ ذلك الزمان في صبر جميل أسأل الله أن يجزل ثوابها عنه . وقد مر ذلك اليوم في ظاهره بسلام ، ولكني لا أبرئه من إحداث أسوأ الآثار في نفس تلك الأنسة المهذبة التي أصبحت فما بعد أم أولادي ، ومن تلك النظرة الصامتة الشزراء التى تلقيها على كلما سقطت معها سقطة جديدة ، كأنما تريد بها أن تذكرني بما مضي وتقول :

- ومع ذلك ألست أنت من تركني وحيدة في أول زيارة لي إلى منزله ليشتري قميصا لبعض أصدقائه ؟ !

إني لأرجو أن يكون لهذا الحديث نصيبه عند إعادة طبع الكتاب . كما أرجو أن تتناول الطبعة الجديدة قصة " غادة السوارس " بتعديل طفيف في أمر " المخالفة " " والجنحة " وسلطة النيابة في حفظهما " ثم " عريضة الدعوى " وورقة الاتهام " مما يقتضيه المقال في مثل هذا المقام .

وبعد . . فقد أكثر الأستاذ من وصف نفسه في شبابه " بالصبي المتشايخ " وبأنه صاحب النفس الحزينة التي لا تعرف المرح والابتهاج ، وهو يمعن في تفسير هذه الظاهرة وتحليلها .

وأنا أريد هنا أن أطمئنه على نفسه وأقول له إنه كان دائما صاحب أصفي نفس فينا ، كما كان أكثرنا استمتاعا بالفكاهة ، وأكثرنا استعدادا لإلقائها . وهذا وصفه لحياته تزخر مشاهده بالدعابة الرقيقة والفكاهات الطريفة التي يزيدها حسنا ذلك الأسلوب الساذج السمح الذي اصطنعه لنفسه فأصبح من خواصه ومميزاته . وأنا إن اخترت النادرة التالية لأختم بها كلمتي هذه فإنما أسوقها على سبيل المثال للتدليل على صحة ما أذهب إليه من نظر في هذا الشأن . فهو يروي في كتابه أنه انتخب ليكون عضوا في مؤتمر المتسشرفين الذي تقرر انعقاده في بروكسل في سنة ١٩٣٨ .

وأنه حدثت له هناك حادثة طريقة رأي أن يشير إليها في مذكراته فقال : " ذهبت إلى حلاق في تلك المدينة لا يعرف كلمة انجليزية وأنا لا أعرف كلمة فرنسية ، فكان كلما حدثني بالفرنسية قلت له : yes ، وإذا حدثته بالانجليزية قال لي Oui ، وأنا لا أفهم ما يقول ، وهو لا يفهم ما أقول ، حتى رأيت آخر الأمر رأسي وليس به إلا شعر خفيف جدا قصير جدا والدنيا برد ، وأنا مضطر عند دخولى قاعة المؤتمر أن أخلع قبعني ، فلا أجد بها شعرا يقاوم بردا ولا يجمل منظرا ، وقصصت القصة على زميلي الدكتور طه حسين والدكتور عبد الوهاب عزام فضحكا وأغرقا في الضحك ، وقال الدكتور طه : إني سأضع رواية أسمها " حلاق بروكسل " على وزن " حلاق إشبيلية " ونظم الدكتور عزام قصيدة أذكر منها :

ونظر الأستاذ في ( المراية )

              فلم يجد في رأسه ( شعراية )

جزى الله إخوان الصفاء خيرا عن كل ما امتعونا به من أحاديثهم المؤنسة وبما يدخلونه دائما على نفوسنا من سرور

اشترك في نشرتنا البريدية