نظرية ظريفة تلك النظرية التى يتمسك بها المستر كادوجان مندوب بريطانيا أمام مجلس الأمن . إنه يقول باختصار : إن الواجب على مصر أن يخضع ، وان تطيع بل إن عليها أن تحب انجلترة حبا ابديا هكذا يقول المستر كادرجان ، وإن كان في أغلب الظن لايدري أنه يقول هذا .
ملخص حجته أن هناك معاهدة معقودة بين مصر وانجلترة . وان هذه المعاهدة يجب ان تبقى قائمة ما لم تحل محلها معاهدة أخرى . فإذا قامت محلها معاهدة جديدة كان بها وتمت . وإلا فالمعاهدة الأولى قائمة كما هى ، وكفى الله انجلترة القتال والنضال . حجة بسيطة لم تكلفه مشقة وليس فى ظاهرها ما يدعو إلى العجب ، لا سيما وهى حجة يقدمها مندوب بريطانيا أمام مجلس الأمن الذي فيه فرنسا وأمريكا وبلجيكا ، وكل الأمم المحترمة التى تعتقد فى المعاهدات إذا كانت فى مصلحتها.
والمماهدات حديث قديم نظن أنه يكون حديثا معادا إذا تحدثنا عنه هنا . فالتاريخ يدلنا على ان المعاهدات لم تخلق إلا لكي تنقض فى وقت من الأوقات .
ولو حاولنا أن نتعب أنفسنا قليلا لكى نبحث فى تاريخ المعاهدات فخرجنا من بحثنا على حقيقة ثابتة ، وهى أن الدول تنقد المعاهدات من أجل ظروف معينة ، وهى فى المادة تقسم ألفاظ الأيمان على احترامها ، وجعلها قاعدة تعاملها إلى الأبد ، ولكن هذه الدول إذا رات أن الظروف قد تغيرت ، فإنها تدرك فورا بسلامة ذوقها ، أنه لابد من نقض تلك المعاهدات . فإذا ما بدا جانب من الجانبين المتعاقدين بالخروج عليها ( صهين ) الطرف الآخر واصبحت المعاهدة كأن لم تكن .
هذا هو الحال بين الدول الأوربية . ولكن سلامة الذوق تفارق تلك الدول ، إذا هى بماملت إحدي الدول الشرقية ،
فإنها عند ذلك تتمسك بحرف المعاهدات تمسكا عجيبا بدل على ان تلك المعاهدات إنما هي ذريعة للسيطرة ، وليست مساعدات بالمعنى الصحيح . فلو فوضنا مثلا ان انجلترة كانت قد عقدت معاهدة مع فرنسا في سنة ١٩٣٧ لمقابلة الظروف الدولية فى عام ١٩٣٧ ، فإنه يثير شك يكون من السخف أن تتمسك إحدى الدولتين بتلك المعاهدة فى عام ١٩٤٧ .
ولو حاولت إحداهما أن تتمسك بها لضحكت منها كل الدول الآخرى ، لقد تغير كل شئ فى العالم حتى ورق الماهدة نفسه ، فانه بغير شك قد تغير وأكلته العثة فى اثناء سنوات الحرب ، لأن الدول لم تكن فارغة البال لوضع بعض النفتالين على ذلك الورق لاشتغال الجميع بشئون الحرب الطاحنة الماضية . لاشك ان مثل تلك العاهدة لو عقدت بين فرنسا وانجلترة قبل الحرب ، لما وجد أحد الطرفين جرأة على مطالبة الآخر بالتمسك بها بعد الانتهاء من الحرب ولو من باب الخجل . ولكن شتان بين أن تعقد انجلترة معاهدة مع فرنسا ، وبين أن تعقد معاهدة مع مصر ؟ فكل شئ نسى فى العالم ، وما يصح أن يطبق على فرنسا لا يصح
أن يطبق على مصر بالطبع . والأمثلة كثيرة على أن العلاقات الدولية نسبية ومختلف النظرة إليها باختلاف البلاد المتعاقدة ومن تلك الأمثلة ان مصر كانت فى القرن الماضي عقدت بعض فروض من بعض البلاد الأوربية ، حاولت أن تقوم بتعهداتها بكل ما امكنها . ولكن الدول الأوربية تشددت فى معاملة مصر إذ ذاك تشددا أدى إلى ان ترسل إليها اساطيلها وجيوشها لحماية حقوق الدائنين فى حين ان الديون التى لبعض الدول الأوربية والأمريكية على بعض تلغي بجرة قلم . بل إن الديون التى لمصر على انجلترة لم تسبب شيئا من القلق لا نجلترة ، لانها تعرف أن ( الموضة ) الأوربية هي ( الملحمة ) في مواجهة الديون .
لقد يمد بنا الكلام عن المعاهدة المصرية الانجليزية فلتعد إليها : عقدت تلك المعاهدة فى سنة ١٩٣٦ ، وكان العالم فى ذلك الوقت لا يعرف ما يخبئه له الغد . وكنا نحن فى مصر ننظر إلى الغرب فنجد إيطاليا منتفخة الأوداج
تهدد وتبرطم ، وننظر إلى الشمال فنرى المانيا مشمرة عن الذراعين . تزمجر وتحرجم ، ولم يكن احد فى العالم يدرى إلى متى تستمر البرطمة والزنجرة ؛ ولهذا كان من الطبيعى ان تستمد للقاء الواقعة إذا وقعت ، سواء ا كان ذلك بعد عامين أم بعد عشرين عاما . هذا ما اقتضته ظروف سنة ١٩٣٦ ، وهذا ما فعلته مصر فى معاهدتها مع انجلترة ، فإنها قد تعاهدت معها على ان تحبها وتوسع لها صدرها ، وتهب لها كل ما تملك فى وقت الأزمة المتوقعة ، وجملت مدة التعاقد عشرين عاما قابلة للتجديد واشترطت أنه يجوز تعديل تلك المعاهدة بعد عشر سنوات إذا رضى الطرفان . والذي دعاها إلى كل هذا هو تقدير الظروف ثم تعهدها بالمحبة والمودة .
ونحن معاشر الشرقيين نضحى فى سبيل الحب بالشئ الكثير ونتكل على أن الأحباب بينهم تعاقد آخر ضمنى وهو ان كلا من طرفي الحب يسابق الآخر إلى فعل الجيل . هذا ما كنا نقدره وما كنا نتوقعه ، وكان عذرنا فى كل هذا أن الغيب كان محجوبا عنا ، فلم نعرف على وجه الدقة متى تقع الواقعة المنتظرة . على انه يجب الاينتمي أحد أننا قد غامرنا فى سبيل حب بريطانيا الجميلة مغامرة كبرى .
غامرنا بوجودنا مع أننا فى الواقع لم نكن نتوقع أن تعود علينا الحرب بنفع ما غامرنا وضحينا من أجل الحب ، ولكن ويل لنا من ذلك الحب ! لقد ذقنا منه الامرين كما هى عادة المحبين .
ومع ذلك فقد انتهت الحرب والحمد لله بعد أن إذاقتنا ما أذاقتنا ، وكنا ننتظر أن يرد لنا الحبيب الجميل . كنا تنتظر من انجلترة العزيزة أن تتقدم محونا فى تواضع وعرفان ، قائلة : كفى ما قدمت لى ياعزيزنى مصر من صادق المودة وقد ذهب العذول بحمد الله عنا ، فلنجمل رباطنا هو الحب وحده بعد ان جرب كل منا الاخر ، فليثق كل منا بالآخر ، ونسأل الله أن يلطف بكل منا .
ولكن انجلترة لم تفعل ذلك ، بل تقدمت إلى مصر مهددة تقول لها : " لازم محبينى " . ومعنى هذا ان انجلترة
العزيز تريد منا ان تستمر فى علاقتنا بها على مقتضى حرف معاهدة لم يكن لها من سبب سوى توقع الحرب ، كانها تريد منا أن أضحي لها دائما وأن تتذل لها دائما . كأنها قد استعذبت ذل الغرام الذي قدمناه لها ؛ فهى لا تريد منا أبدا أن نفيق منه يوما من الأيام . فأى غرام هذا ؟
أى غرام هذا الذي يقوم على قاعدة لازم تحبينى " ؟ وإنه لمن المجيب ان تقول انجلترة على لسان ممثلها في مجلس الأمن إننا مادمنا لم نعقد معها معاهدة جديدة فان معاهدة سنة ١٩٣٦ لا تزال باقية .
فما معنى هذا ؟ معنى هذا أننا ملزمون بأن نرضى بأية شروط تجود بها علينا بريطانيا ، خوفا من هذا السلاح المشهور فوق رقابنا ، وهو المعاهدة القديمة التى أملتها المخاوف من توقع الحرب الماضية .
معنى هذا أننا لا بد أن تقنع بما يرضى انجلترة ، لا بما يحقق آماننا . معنى هذا اننا مخيرون بين قيد قديم وقيد جديد . ولكنا لا تقبل قيودا بأيتها الحبيبة بريطانيا !
لقد برهنا على اننا نستطيع أن نكون أصدقاء أوفياء ، ولو وثقت بريطانيا بنا وتركتنا احرارا واتاحت لنا الفرصة لتقوية أنفسنا لكان فى إمكاننا ان نبرهن مرة اخري على أننا نستطيع أن نكون أصدقاء اوفياء وأقوياء عند اللزوم .
ولو ارادت بريطانيا ان تعقد معنا معاهدة حقا لكانت قد احرقت السفن وراءها ابتداء وخرجت من مصر ووضعت أوراقها مكشوفة على المائدة ، وقنعت بأن تتفق معنا على ما يرضينا حقا بغير ضغط ولا تهديد بقيود قديمة
ولو فعلت ذلك لكان من المتيسر الوصول إلى اتفاق ، أن التعادل والعدالة والثقة أول شروط المعاهدات الصحيحة . ولكن انجلترة لا تزال سائرة على طريقتها القديمة فى خطبة المودة . فهى تشبه القرصان الذي يتقدم إلى الحسناء التى أسرها قائلا : " لازم تحبيني " ! ياساتر يارب

