لاريب ان العالم كان مسكونا بكائنات على جانب عظيم من الضخامة , فالعلم يخبرنا عن "الدينوسور Dinosaur " العظيم الذى يوجد هيكله العظمى الهائل بالمتحف البريطانى مع هياكل أشباهه من عظائم الحيوان واغواله . وكذلك " العنقاء " ، أو الطير العظيم المسمى "بترو دا كتيلس" Petrodactyles " ولم يكن هذا الاخير طيرا بمعنى الكلمة أو وطواطا بل نوعا من العظايا الهائلة اكتسب خصوصية الطيران
دبت هذه الحيوانات المرعبة على ظهر الارض فى العهد "الميوسينى Miocene كما يسميه علماء طبقات الارض او عهد منتصف الحياة ، وذلك من ملايين السنين الخالية !! ويحتمل انها عاشت قبل الانسان بكثير .
ويظهر ان هذه الحيوانات انقرضت فجأة بفعل بتأثير بركان عنيف ابان معظم المخلوقات , ثم تبع ذلك العصر الجليدى فاتى على آخرها ولم يترك لنا من آثارها الا عظاما نخرة أقامها العلم هياكل هائلة ووقف الانسان مبهوتا فاغرا فأه , أما فى البحار فلا يزال بها من المخلوقات العظيمة ما لم تنقرض كأقربائها الدواب , فالحوت الهائل يمخر البحار ويشق عبابها , وأذكر انهم اقتنصوا وحشا منه فى المحيط الهادئ قرب شاطىء كاليفورنيا الجنوبى منذ سنتين وكان يزن سبعين طنا !!
كذلك كان الحال فى المملكة النباتية , كانت لها عمالقتها ، كانت هناك أشجار ضخمة تؤلف غابات شاسعة تشمل المناطق الشمالية من أوروبا وأمريكا , ولا ريب انها أظلت وحمت الكثير من تلك الوحوش , ومن هذه الاشجار شجرة "السيكويا" Sequoia - ملكة النباتات - التى قاست ولا ريب كل المحن التى ألمت بالكائنات الحية التي عاصرتها ولكنها نجحت من دونها وعاشت الى هذا الوقت تخبرنا فى صمت رهيب عن ماض بعيد ملىء بالكوارث والخطوب
وتنتمي شجرة السيكويا الى العائلة المخروطية أى عائلة الصنوبر ويوجد منها نوعان : "سيكوبا سمير فيرنس" Sequoia sempervirens
و "سيكويا جايجانتيا" sequoia gigantes ولا يوجدان فى مكان ما على ظهر البسيطة إلا فى ولاية كاليفورنيا. فيوجد النوع الأول ناميا على ساحل المحيط فى شمال الولاية حيث الطقس بارد صيفا وشتاء وحيث الرطوبة متوفرة طول السنة، وفي منطقة يبلغ طولها ٤٥٠ ميلا بموازاة الساحل، ويقل تدريجيا كلما ابتعد عن البحر وامتد شرقا إلى الجبال الساحلية. وأما خشبه فضارب إلى الحمرة ويعرف فى مصر بالجوز الأمريكاني الذى يصنع منه الأثاث، وأما النوع الثاني فيوجد بداخل الولاية ومنتصفها فى ثلاثة أحراج متقاربة فى قمة جبال السييرا على ارتفاع عظيم من سطح البحر. ومن العجب أنه لا توجد أشجار متفرقة من هذا النوع، فكأنها خافت على نفسها نوائب الحدثان وخشية الانقراض فتجمعت فى هذه الأحراج متقاربة كما تتقارب أفراد القطيع إذا أحست خطرا
وعندما اكتشف النوع الثانى الذى هو أضخم من الأول فى سنة ١٨٥٥، أرسلت منه نماذج إلى إنجلترا فأسماه النباتى لندلى "وللنجتونيا" تمجيدا لاسم الجنرال ولنجتون الذى قهر نابليون والذى كان فى ذروة المجد وقمة الشهرة إذ ذاك، فأخذت الأمريكان النعرة الوطنية إذ عز عليهم أن تسمى شجرة أمريكية بإسم رجل إنجليزى فأسموها "واشنجطونيا" نسبة إلى جورج واشنجطن أبى الأمريكيين. وأخيرا قر الرأي على جعل اسمها الجنسي سيكويا نسبة إلى رجل من متوحشى الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين ، لم يصب مجدا بالفتح وإراقة الدماء، بل بعقلية جبارة وعبقرية نادرة. ينتمى هذا الهندي إلى قبائل "الشيروكى" التى كانت ضاربة فى تخوم ولاية جورجيا الجنوبية، تزوج أبوه الأبيض من أمه الهندية ثم لم يلبث أن هجرها فاعتزلت وابنها ركنا فى غابة ونشأ نشأة هادئة تغاير نشأة أترابه الهنود الذين يتلقنون فنون الصيد والقنص والحرب وغيرها من أعمال الفروسية فى سن مبكرة ، فكان يساعد أمه على أعمال المنزل أو فلاحة الأرض وقطع الأخشاب، فلما شب وترعرع احترف الصياغة ونبغ فيها نبوغا عظيما وذاع صيته ذيوعا كبيرا ثم وجد أن البيض يغيرون على وطنه ويقتطعون أراضيه ويجلون أهله وعشيرته عن مساقط رؤوسهم فأحزنه ذلك وأخذ يفكر فى الأمر وخرج من تفكيره بضرورة مقاومة المدنية بالمدنية.
ولما أدرك بثاقب فكره ان السر فى تفوق البيض وتمدينهم ينحصر فى مقدرتهم على التفاهم قراءة وكتابة قرر أن يخترع لغة
لقومه فنبذ الصياغة وعكف على الدرس فى الغاب وأخذ يكد ذهنه ويحفر فى قشور الأشجار إلى أن وصل بعد ثلاث سنين إلى اختراع رموز تمثل كل كلمة أو فكرة فى لغة قومه، ولكن هذه تكاثرت لدرجة يصعب على الأذهان استيعابها ففكر مرة أخرى واهتدى أخيرا إلى أن الصوت هو مفتاح اللغة فكد واجتهد إلى أن خلق حروفا أبجدية فاستطاع أن يكتب لغة أغنى بمفرداتها من لغاتنا!! بعد ذلك علمها قومه فتهافت عليها صغيرهم وكبيرهم إلى أن حذقوها، ومن ثم تحسنت أحوالهم العمرانية وازدادت ثروتهم وخطوا فى سبيل المدنية خطوة واسعة، ولكن جشع الأبيض وظلمه كانا دائبين. فما زال بأراضيهم يغتصبها بقوة السلاح إلى أن تشردت قبائل الشيروكي وتقلصت حدودهم. لم يقف سيكويا عند هذا الحد بل خرج وهو فى الثانية والثمانين من عمره فى صحبة صبى صغير ليدرس لهجات الهنود المختلفة ويضع بعد ذلك لغة عامة للهندى الأحمر. فعبر السهول والجبال ولكن مات رفيقه الصبي من مشاق الرحلة فسار وحده ضاربا فى الفيافى المقفرة والغابات الموحشة والجبال الشامخة المكسوة بالجليد، إلى أن وقفه الضعف والإعياء فحط رحله قرب حدود المكسيك لآخر مرة. ودفن حيث مات فى حفرة عادية، ولم تلبث الذئاب أن نبشت قبره وبعثرت عظامه ...
هذا رجل من عظماء العالم قل من يعرفه، حتى قبره امتهن ولم تكن عليه أقل إشارة تدل على عقله الراجح ونفسه العظيمة ولكن العبقرية لا تفنى فقدر لأسمه أن يقترن بهذه الأشجار الخالدة ، وسوف يخلد معها إلى أبد الآبدين. وأشعر بعد طول هذه المقدمة أن أقصر كلامى على حرج واحد من الأحراج الثلاثة، لا لأنه أهمها فقط بل ولأنه أعجبها ... (يتبع)

