الغربيون يبحثون عن غد يشرق عليهم ضحاه وهم فى سلام وطمأنينة على ميراث العلم والمدنية وقد صار نفيساً عزيزاً على الذين بنوه بضياء العيون وحُرّ الدماء وحبس الأنفاس فى المعاهد والمعابد والمعامل، فهم لذلك
يخشون فى لهفة أن يهدمه البطر والجشع فى لحظة واحدة فتذهب مدخرات الإنسانية من العلم والمتاع... ولا ينفك آباء الحضارة وعلماء الاجتماع يرسلون روادهم للبحث عن غد يوحى إليهم فيه الواقع أن ينشدوا نشيد السلام الذى سمعه الرعاة من السماء ليلة ميلاد المسيح (وعلى الأرض السلام وللناس المسرة) لأنهم وجدوا أن الواقع يكذب هذا النشيد منذ ميلاد المسيح إلى اليوم كما يقول القس إبراهيم سعيد فى جريدة الأهرام عدد ٢٥ ديسمبر سنة ١٩٣٨
ونحن المسلمين الذين يتمثل فينا العقوق لأنفسنا وللمدنية، نرى الإنسانية جاهدة فى البحث عن ذلك الغد، تشقى أمام عيوننا وتشقينا معها ومع ذلك لا نحرك المفتاح فى باب الكنز المرصود العجيب الذى فيه لآلئ الصباح وذهب الضحى..
وأقسم للحق ولكل حر الفكر! أننى لا أتكلم كمسلم يقول تقليداً لقول أبيه وأمه وأمته، وإنما أقولها بعد أن أنضجتها حجج الأيام ونهض بها كل قائم فى الفكر والحياة والزمان!
ولست كاهناً ولا رجلاً يحترف الدين للعيش ينادى على بضاعته
فى الأسواق... وإنما أنا باحث كسر عنه كل قيد ليظفر بالحق خالصاً من غير تقليد ورجا أن يوفقه قيوم السموات...
ثم أقسم أننى لا أريد أن أتملق من يسمون أنفسهم مسلمين ولا أن أسير فى مواكب أناس لا يدرون لماذا هم فيها سائرون ولا يسألون لماذا يسيرون... وإنما أتكلم بقلب إنسانى خالص للإنسانية... للقطيع الشقى الذى ما ظفر إلى الآن براحته من حل تلك المشكلات الكبرى: الاعتقاد، والعيش، والعمل. ولم يتفرغ بعدُ للقبض على مفاتيح الطبيعة التى خوله الله إياها لأخذ أسرارها المخبوءة فيها حتى تصعد بها روحه إلى السماء فى سلام ورضا
إلى الآن لم يظفر ذلك المخلق التائه بنعمة الاستقرار وإتاحة الفرصة لعلمائه أن يجاهدوا فى الكشف عن عرائس أحلامه؛ لأن كباش القطيع لا تزال تتهارش وتتغنى بمجد الأنياب والأظفار. لا تزال خيلاء المجد مجد الديكة المنتفشة المزدهية تسوق الناس فى ضباب من الشعر إلى الجحيم.. حتى المسلمون قد أخذهم الهول من كل جانب وغشى ضباب الزمان وظلال الإنسان على عيونهم فنسوا ما بين أيدهم من العواصم... نسوا مضخات الحريق واندمجوا فى المحترقين...
ما الذى نملكه لإصلاح غدنا وغد الناس؟ سأجرد الأهم من التركة فاقرءوا الأسماء: نملك اعتقاداً صافياً ليس فيه شىء يفسد على العقل الإنسانى أُلْفَته؛ إذ أن إلهنا هو إله الطبيعة الذى يدرك العلماء والحكماء والفلاحون السائرون على الفطرة أسماءه وصفاته كما ندركها نحن.
ونملك سماحة فى النظر إلى القاصرين الذين لم يدركوا إدراكنا ولم يعتقدوا اعتقادنا ولا نحمل أحداً على ترك دينه إلى ديننا كرها. ونملك فهماً واسعاً وتقديراً جميلاً لمجهود المجاهدين من الرسل السابقين كتقديرنا لرسولنا
ونملك سلاماً عميقاً فى أرواحنا ننشد له فى صلواتنا نشيداً لم يترك جهة من جهات الحياة إلا ألقى عليها الأمان والدعاء: فسلام على النبى، وسلام على العباد الصالحين للحياتين، وسلام على النفس وإيحاء لها به فى هذا الموقف العظيم بين يدي رب الحياة ودخول فى السلم كافة وجنوح إليها مع الجانحين، وتحية بيننا سلام.
ونملك كتاباً تنزل آياته دائماً من السماء... لأن صور الدنيا وحرب الخير والشر وتقلبات النفس فى الهدى والضلال ومظاهر.
المجتمع وظواهر الطبيعة هى مادة ألفاظه وهى مادة الحياة.
ونملك حلاً دائماً لمشكلة الفقر والغنى مشكلة المجتمع... مادة الدمع والدم، مادة الدعوات والأحزاب، مادة الثورات والحروب.
ولا ندين بعصبية جنسية ولا دموية ولا لونية. ولا نقدس الوطنية والمحلية هذا التقديس الوثنى الضيق.
ونملك الرحمة بكل حى ذى كبد رطبة إنساناً أو حيواناً، عدواً أو صديقاً.
ونملك تقديس حريات الحياة فلا يهدر حق نفس فى نظامنا إلا بحق الحياة.
مأمورون بصداقة الطبيعة لأنها باب ربنا ومصدر علومنا وأستاذ عقولنا...
أخلاقنا هى كل ما يرفع النفس ويسمو بالحياة. محرماتنا هى كل ما يفسد الجسم والنفس.
اللذات الطيبات وزينة الحياة هى عندنا أعمال دينية إذا ذكرنا فيها اسم رب الحياة، واستحللناها بكلمته وإذنه، ونظرنا إليه فى متاعنا بها كما ينظر الأطفال إلى أبيهم وهم يأكلون وينعمون!
العلم عندنا تعبد، لأنه يرينا يد الله فى كل شىء... ويجعل لنا الطبيعة محاريب دائمة لصلاة الفكر.
هذا هو ميراثنا مضغوطاً فى ألفاظ معدودة يضعها كل مسلم حقيقى فى عقله وقلبه. ثم يسير فى الحياة عاملاً ساعياً للمجد والحق إلى أن تخرجه من الدنيا اليد التى أدخلته إليها...
أفلا يرى كل عاشق للفكر والحق والسلام والصلاح أنه مضطر إلى أن يقف فى صف الحراس لهذا الميراث، وأن يجاهد فى سبيله ما وسعه الجهاد؟
أفلا يرى كل من يحس بنفسه، ويفكر فى وجوده ووجود دنياه أن راحته النفسية وألفته العقلية، ونوازعه الشريفة تتطلب منه أن يقدم جسده ليكون ثوباً لهذه المعانى تلبسه وتسعى به، وتبطش فى حرب الخير والشر؟
أيها الملحدون من أبناء المسلمين! هل آن لكم أن تعيدوا النظر بهدوء فى مفردات هذا الميراث لتروا أننا لسنا مخرفين ولا هارفين، وأننا لم نعشق خيالاً، ولم نَضع ضلالاً؟
ألا ترون إن الجهاد فى هذا السبيل إنما هو جهاد للإنسانية
لا لعصبية جنسية ولا لغايات اقتصادية، وأن خير ما تقدمونه للغرب الآن مكافأة له على جهوده فى سبيل العلم هو هذه المعانى الإسلامية التى يحتاجها بالذات، ويرسل من أجل مثلها رواده ويرصد أرصاده؟
إن الغرب كفر بالدين لأسباب تعلمونها... وليست هذه الأسباب فى الإسلام، حتى تكفروا به. وإن أفق الإسلام هو نفس الأفق الذى تتجه إليه حياة الفكر والحكمة والحرية.
وإن أصول الإسلام هى خلاصة الاتجاه الدينى فى نفس الإنسان منذ فجر التاريخ إلى الآن، هى أصول ثابتة فى الأرض فارعة فى السماء ثبات الحق والعقل.
كل ما فى الغرب جاءنا وعرفناه؛ فما كان فيه من خير وجدناه فى ميدان الإسلام، وما كان فيه من نقص وجدنا كماله فى الإسلام. فماذا يحملنا على خلعه وإهداره إلا الضعف والسفه؟ ما الذى يحملنا على السير وراء قافلة ضائعة فى بيداء ونحن فى الطريق الواضحة التى عليها صُوىً وأعلام؟
ربما يكون السبب فى تمرد بعض النفوس على الإسلام أن كثيراً ممن ينتسبون إليه الآن هم لعنات مجسمة تجمع القبح والجهل والسوء وتمشى فى الأرض مشى الطاعون...
ولكن لأجل هذا يجب أن نجاهد... لأجل إنقاذ الإسلام من هذه الأجساد التى تلتصق به كما تلتصق القاذورات بمحراب جميل يجب أن نجاهد...
نريد أن نخلصه من المنتسبين إليه زوراً ونعرضه على الجاهِلية كأنه حقيقة تاريخية ضائعة قد عثر عليها باحث منقب فى بطون الكتب والأسفار أو طبقات الأرض.. أجل، من مصلحة الإسلام أن يدرس على أنه نظرية ليس لها أناس يتبعونها وأن محمداً صاحب الإسلام قد ظلم فى الماضى أكبر ظلم وقع على رجل فى التاريخ! فلقد شوه الجهلة والمتعصبون والمجرمون اسمه فى أوربا كتشويه اسم الشيطان... كل هذا لأنه نبى رسول من الله! والمسلمون الآن يشوهون اسمه بالجهل والذل...
وأقسم بالعدالة! أن محمداً لو لم يكن رجلاً إلهياً ممدوداً بوحى الله، وكان رجلاً بشرياً من أبطال التاريخ كالاسكندر أو سولون أو نابليون أو هولاكو... إذاً لحضى من تقدير الأوربيين بما لم يحظ به بطل...
إن ذكريات ابن سينا والفارابى والزهراوى وابن رشد والبتَّانى
وغيرهم يحتفل بها فى مجامع أوربا ويدرس تاريخها بنزاهة مع أنها ثمرات ضئيلة من ثمرات محمد... ولكن محمداً رجل الخير المطلق والحق المطلق لا تقام لذكرياته حفلات وجمعيات، وإنما تلصق به كل شنيعة وعضيهة...
بل لقد ظلم من كثير من أتباعه أيضاً؛ لأنهم صاروا يحسبونه رجلاً من رجال الآخرة فقط... يعد النفوس للموت وما بعده ولا يعدها للحياة هنا، فاتخذوا القرآن أوراداً وتسابيح وتعاويذ وتمائم، وتركوا التفكير والعمل بما فيه من آيات القوة والمجد والعزة والإعداد لهذه الحياة الدنيا... وافتتنوا ببضائع الفكر المجلوبة من الغرب كما افتتنوا ببضائعه المادية كالأحذية والخمور...
ولكن روح الحق لا تموت، وعين العدالة الإلهية لا تنام، وما كان الله ليضيع إيمان الناس وهو الذى تعهدهم بالرسالات كلما ضللتهم قوى الشر عن طريقه. ولذلك ابتدأ يزلزل عناوين النظم الأوربية ويضرب بعضها ببعض أمام أعين المسلمين حتى يعود لهم يقينهم بثبات عناوين الإسلام
ولا يزال روح الحق الذى تمثل فى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجذب إليه الأفكار الحائرة والقلوب الضالة التى تبحث عن الحق والسلام. فتقيم له موازين الإنصاف بعد الإجحاف. ويخطئ من يضن أن الإسلام قد انقضى عهد عزته فى القلوب والعقول، فإن عزة الإسلام لا تكون إلا فى أيام العلم والحرية، ولا يذل إلا فى أيام الجهل والاستبداد
هانحن أولاء نرى من سير التاريخ الحاضر أنه كلما تقدم الزمان بالمسلمين خطوة إلى العلم والحرية، تقدم بالإسلام إلى الحسنى
إن رسالة محمد ليست تبنة تذهب فى الريح أو ورقة جافة تحرق فى موقد، أو بدعاً من بدع الزمان يذهب بذهاب جيل وفناء قبيل وإنما هى مَرَدُّ الحق والخير وخلاصة جهاد الذين جاءوا بهما إلى الناس من عهد آدم إلى يومهم هذا
وإن الذين يعرفون ما فى الإسلام من سعة وعمق واستيعاب يدركون تماماً أنه إنما يليق لمثل هذه الأزمنة التى نعيش فيها وما بعدها أكثر مما كان يليق بالأزمنة الماضية
وإن ما فيه من الحرية والمساواة والأخوة والتسامح والسلام والفكر لا يمكن مطلقاً أن يفهم فهماً صحيحاً إلا على ما فى عصرنا الحاضر من تجارب. فعلينا أن نفهم ونؤمن به ونعمل له عمل المتقدمين
(بغداد - الرستمية)
