وقف الملاح على سلم الوردة بضفة نهر النيل ، وزورقه راس عند اسفل الدرج تؤرجحه الامواج في يوم ريح . ونزل الراغبون في عبور البهر واخذوا مقاعدهم في الزورق . ولما كادت المقاعد أن تمتلئ بهم صاحوا بالملاح لينزع المرساة ويقلع . فنزل الملاح متباطئا وعينه إلي أعلى يود المزيد من الراكبين ، وقضي في التأهب للإقلاع اطول وقت ، ثم اقلع .
وخفق الشراع مرتين أو ثلاثا في الريح الناشطة ، ثم شدت أطرافه وانبعج وجذب الزورق وانطلق به كجناح طائر . وجلس الملاح عند السكان ) ١ ( وجلس ابنه عند المجداف .
قالت الريح في صوتها : المدوي " ها هو الزورق غادر الشاطئ ، ومن للزورق سواي ؟ ! من يمضي به إلى غايته إلا أنا ؟ ! . . إلي ! . . إلي ! . . أيها الزورق اللطيف . إن وجهتك هي وجهتي ، أليس كذلك ؟ ! . نعم نعم وهل تخطر لك وجهة سواها ! وهل كائن مستقيم القصد والإدراك يتجه إلا وجهني ! ها هو ملاحك والذين معه ينظرون إلى الشراع في رجاء وثقة . اعتمدوا علي اعتمادا مطلقا فسأمضى بكم في الاتجاه السديد . . "
وقال التيار بصوته الهاديء في قوة : " ها هو الزورق غادر الشاطيء ، ومن يمضي به إلى غايته إلا أنا ؟ ! . تعال تعال ! . يازورقي العزيز إن وجهتك لاشك هي وجهتي ، فلا تخطرن لك وجهة اخري ببال . إن كل وجهة اخرى ضلال . هاهو ملاحك والذين معه ينظرون إلى الماء في رجاء وثقة ، اعتمدوا علي اعتمادا مطلقا فسأمضي بكم في الاتجاه السديد . "
وعصفت الريح دافعة بالزورق في اتجاهها ، وهدر التيار دافعا إياه في اتجاه اخر ، فاضطرب الزورق وأرتج في حيرة وخوف .
وسمع من مؤخر الزورق صرير ضعيف هو صوت السكان ، وتكلم في غير حماس قال : " ايها الزورق ! إن اتجاهك لاشك أمر يعنيني . وليس من عادتي ان اتكلم في هذا الشأن لولا رجفتك التي احسستها . لاموجب للحيرة ولا تلق كبير بال لما تقوله الريح او يقوله التيار . إن حركة صغيرة منى كافية لان تدور بك إلي هذه الجهة او تلك . لكني وايم الحق لا أعرف إلي أي جهة نحن ذاهبون . لاشك انك ستزدريني لاعترافي بجهلي ، ولن تراني أهلا لثقتك لقلة ثقني بنفسي ، لكن إرادة لا اعلم كنهها تحركني فأطيعها ، فان درت بك يمينا فاليمين هو الإتجاه السديد ، وإن درت بك شمالا ففي الشمال السداد ، لاني اثق بتلك الارادة ثقة مطلقة ، واستوحيها باخلاص ، واتبع وحيها في طاعة ، وأشعر بأني أؤدي واجبي وهذا حسبى !
وكان المجداف في ذلك الوقت مستلقيا علي ظهر الزورق فأرسل قهقهة وقال : " لا شك أن كلمتي في هذا الموضوع يجب أن تسمع ، فلست على هذا الزورق نكرة يعجبني من الريح وضوح قصدها وحماستها ، ويعجبني مثل ذلك من التيار ، لكن وجهتيهما مختلفتان ، ولست اعرف ايهما الصواب . ويعجبني من السكان تواضعه رغم انه على هذا الزورق عامل خطير ، لكن غموضه ينفرني وأضيق ذرعا بأسلوبه في التفكير . أما أنا فمبدئي لا غموض فيه ، وخطتي واضحة جلية إن طغت الريح وتغلبت فسأضرب في الماء للحد من طغيانها ، وإن تغلب التيار فسأضرب مكافحا إياه . لن أدع الريح تذهب بالزورق إلى وجهتها رأسا ، أو التيار يحمله في اتجاهه تماما . ستكون نتيجة جهودي ان يسير الزورق صوب الغرب على ما يظهر ، لكن اتجاه الزورق في الواقع لا يشغل بالي كثيرا ، وهو أمري يعييني التفكير فيه ، والمهم أن أقاوم الطغيان أيا كان ، وفي هذا لذتي الكبرى وكفي " .
وبعد الزورق عن الشاطئ ، وصار في سواء اللجة ودوت الريح في ولولة حول الشراع ، وجرش التيار في
زلزلة تحت الزورق ، وصر السكان متذبذبا يمينا وشمالا واستوي المجداف على وتده وراح يضرب في الماء ضاحكا مرسلا الرشاش عاليا . .
وصرخت الريح في حنق قالت : " . . ماذا . . ابرغم كل جهودي لا يكاد الزورق ينبعث في اتجاهي ؟ ! . أيها التيار اكفف ألا تعقل ! ! وأنت أيها السكان كفي عبثا في الخفاء تحت الماء . ويامجداف إن الأمر جد لا هزل دعوا الزورق لي وحدي فأنا أهداكم سبيلا . إن فوضاكم تدفع به في اتجاه لا معنى له على الإطلاق ، وها هو الملاح والذين معه ينظرون زائغة ابصارهم من الأسى والإشفاق
وأرغي التيار وأزبد غضبا من أن الزورق لا يكاد ينبعث في اتجاهه متعجبا من سفه الريح وخبث السكان وطيش المجداف . وتبودلت عبارات يؤسف لها ، فقيل عن الريح " السليطة الرعناء وعن التيار " الطاغية الغشوم " وعن السكان " الذنب المذبذب " وعن المجداف " اللوح الآبله بل إن الريح صارت تهوي فتلطم تيار الماء ، والتيار يقذف بالموج إلي اعلي فينطح الريح ، مما لا يليق بمكانهما العظيمة بين قوي الكون .
وخلال ذلك كان الزورق يجري صوب الغرب كأن قوة واحدة تسير به في ذلك الاتجاه ، ولا يكاد رائيه يظن أن قوي شتي تحترب عليه ، إلي أن بلغ الشاطئ الآخر فخفت سرعته شيئا فشيئا ، وتهادى في اتزان ، ورسا في أمان ، ورمي ابن الملاح المرساة إلى البر ، ومد القنطرة
وعجبت الريح أن رأت راكبي الزورق ينهضون في انشراح ، ويخرج كل قرشه للملاح ، وعليه وعليهم علائم الارتياح ، ثم يخطون إلي البر وهم يتبادلون التحيات والنكات وطيب التمنيات .
ولم يكن التيار اقل تعجبا من الريح .
أما السكان فسكن في اغتباط من أدي واجبه ، وأما المجداف فاستلقي علي ظهر الزورق يتصبب الماء من عليه وهو يلهث ويقهقه في وقت معا قائلا : " لقد كانت جولة شائقة
وشوطا ممتعا حقا ، وقد فزت ولا جدال . .
وأرادت الريح ، وكذا التيار ، أن يعربا للملاح عما يخالحهما من الدهشة والندم ، لكن الملاح كان مشتغلا عنهما بعد نقوده .
وأشفق السكان عليهما ، وكان على قلة كلامه لا يستطيع السكوت إذا وجد أحد بحاجة إلي عزاء . قال لها : " لا تستغرقا في الندم ، فقد كان لكل منكما فضله في مسير الزورق إلي غايته ، وأدي كل ما عليه " . قالا : " كان لنا فضل وأدى كل ما عليه ؟ ! . لقد كنا حربا علي الزورق ومن فيه . .
قال : " صحيح أنكما أضعتما كثيرا من الجهد في الخصام ، لكن الريح هبت في اتجاهها على سجيتها ، والتيار جري في اتجاهه كطبيعته ، ولم يكن يراد منكما اكثر من هذا " وفي الوقت نفسه كانت زوارق اخري تغادر الموردة الواحد بعد الآخر ، ولا يلبث في كل منها ان ينشب الخصام بين العوامل المختلفة التي يسير بمجموع قواها ، ولا تتضح الحقيقة لتلك العوامل إلا عند الشاطئ الآخر .
