قال صاحبي : - أذكر أني في حداثة سني كنت أقضي بعض شهور الصيف في بلدتنا بالريف . وكان لنا هناك منزل ريفي يقوم على خدمتنا فيه بعض الريفيين . وكان من بين هؤلاء رجل عجيب إسمه " عم سالم " - وكان عم سالم هذا ( فلاحاً ) كباقي الفلاحين . أي أنه يعرف الشهور القبطية ، والدورة الزراعية ، فضلاً عن أنه يحسن العمل في الأرض بيديه : يحرثها ويخططها ويسقيها ويسمدها - كل ذلك في مواعيد محدودة ومواسم معينة ، لا يعرفها إلا الخبير بها .
ولكن إذا كان الفلاح العادي تنتهي رسالته عند هذا الحد ، فإن " عم سالم " كان رجلاً واسع الأفق يكن يعرف لرسالته في هذه الدنيا حدوداً . أذكر مرة أنه إنقض في منزلنا ذاك الذي في الريف جدار . فكان الذي تصدى له وأقامه هو " عم سالم ": أعد له الطوب ، وخلط له ( المونة ) ، وبناه ، ثم بيضه أيضاً .
وكنا في المواسم التي تذبح فيها الكباش والعجول لا نحتاج إلى إستدعاء أحد القصابين . فان " عم سالم " هناك دائماً . وكان هو الذي يتولى الذبح ، والسلخ ، بل " وتفصيل " اللحم - كما كانوا يقولون .
وكان " لعم سالم ، ولع خاص بالنخيل ، فهو يعرف تاريخ كل نخلة في البلدة : كم عمرها ، ومن أين جاءت فسيلتها ، وما لونها ، وكيف طعمها ، ولذلك كان يكل إليه معظم أهل البلدة عملية تقليم هذا النخل و " تطريحه " وكان بخبرته يعرف كيف يزاوج بين النخيل ، فيختار لشكل أنثى أصلح الذكور لها ، فيأخذ من طلعه ويلقحها
به. ولذلك كان بعض أهل القرية يتفكهون معه ، إذ يدعونه " مأذون النخل " ، لأنه هو الذي كان يخطب لعرائس النخل بعواتها ، ويتولى عقدها بنفسه .
قال صاحبي : - وماذا أقول أيضاً فى " عم سالم " لأصفه أتم وصف ، ولأعطى عنه أكمل صورة ؟ ذلك الفلاح ، القصاب ، الطراح ، الذي لم يكن يتهيب أي عمل ، ولا يعرف في الحياة تلك الحدود الضيقة التي وضعها أصحاب المهن المختلفة لأنفسهم . أجل إني لأذكر عنه أيضاً أننا في آخر أيامنا إضطررنا لشراء عربية يجرها جواد لتنقلنا من المحطة للمنزل ، وكانت المسافة بينهما طويلة ، فكانت تخض بطوننا ظهور الحمير في أسفارنا ، وكانت تقض عظامتا . فلما جاء الجواد وتهيأت العربة ، وثب " عم سالم " إلى مكان القيادة منها ، فكان حوذيها ، وكان هو الذي يستقبلنا ذاهبين إلى البلدة ، ويعود بنا منها في العربة راجعين !
وإستطرد صاحبي في حديثه فقال : - ولم يكن " عم سالم " في أول أمره يعرف الكتابة والقراءة ، وكان يشعر بأن هذا نقص لابد من تداركه فبدأ معي ذات يوم من أيام الصيف ، وقال إنه لن ينسى لي هذا الفضل إذا أنا ساعدته في تعلم (الخط) ، وسرني أنا أن أقدم له هذه المساعدة ، فإني كنت آنس إليه ، وأقضى معه معظم وقتي ، وأصطحبه في غدوي ورواحي ، لأني كنت أجد عنده لكل سؤال جواباً ، ولكل عقبة حلاً .
وبدأنا بالأبجدية فحفظها ، وقرأها ، ثم كتبها . فانتقلنا إلى الكلمات . ولكن إجازتي في ذلك العام لم تمتد بي معه إلى أبعد من ذلك ، فتركته لعناية ( سيدنا الشيخ عبد الرحمن ) ليتم معه طريقة تركيب الكلمات ، وتكوين الجمل - وكان الشيخ عبد الرحمن فقيه القرية ،
الذي يخطب الناس في المسجد يوم الجمعة ، ولكنه كان إلى جانب ذلك يرتل القرآن كل مساء في دارنا ، فهو يعرف " عم سالم " ولا يستطيع أن يرد له طلباً ، ومع ذلك فإني وعدت (سيدنا ) بمكافأة حسنة إذا أنا جئت في العام التالي فوجدت " عم سالم " متقدماً في القراءة والكتابة .
هذه كانت " دنيا " عم سالم . أما " دينه " فإنه كان شيئاً آخر غير دين الناس ، ولا غرو فإن دنياه أيضاً كانت تخالف دنياهم ! وكما أنه في دنياه لم يكن يقنع ما يقنع به الناس . فكذلك كان في دينه .
لم يكن يكفيه في دينه أن يصلي ويصوم . فإن هذا كان ما يفعله عامة الناس في الريف بغير إستثناء . ولكنه رأى بعض الشيوخ يطيلون الجلوس على السجاجيد وفي يدهم المسابح يتمتمون عليها كلاماً كثيراً . فتعلم منهم هذا الكلام وتمتم به مثلهم ، ورأى بعضهم يقوم الليل في ثلثه الأخير ، ويظل يقرأ الأوراد ويتلو الأدعية حتى يصلي الفجر . فإشترى كتب الأوراد والأدعية وإستكثر منها . وأصبح يقوم الليل مع القائمين يناحي كما يناجون ، ويسجد ويقترب كما يسجدون ويقتربون .
وكانت له في " الأذكار " صولات وجولات ، كان رخيم الصوت إلى حد ما ، فكان يقف بعض الوقت ينشد للذا كرين ، ولكنه كان أكثر الوقت يقف في صفوف الذا كرين أنفسهم يخلع وسطه وهو يطوح جذعه ذات اليمين مرة وذات الشمال أخرى ، ويطلق من أعماق صدره في كل مرة ذلك النداء الخالد الذي لا يزال يردده الذاكرون : هو . هو . الله !
وكنت أنا دائماً من وراء " عم سالم " هذا أراقبه وأتعجب له بقدر ما أعجب به - وأدهش لنشاط هذا الرجل ، المحيط بكل شئ ، الموغل في كل شئ !
وكنت أحسب أن قصاراه في دينه تلك الصلوات والأوراد والأذكار ، ولم يكن يخطر ببالي أن يكون للدين آفاق أوسع من هذه الآفاق حتى يطمع فيها طامع أو ترنو إليها عين ، ولكن " عم سالم " كانت له عينه الخاصة البعيدة المرمى و نفسه الخاصة التي لا تعرف الحدود والنهايات . إنه كان يريد أن يرى الله !
وكان يعرف مبلغ ثقتي فيه وتعلقي به . فأولاني ثقته هو الآخر . . وكان يقول لي مالا يقول لغيري . ويطلعني من دخيلة نفسه على ما يحجبه عن جميع الناس .
فجاءني ذات يوم ويده على جيبه كأن فيه عصفوراً يخاف عليه أن يطير وأخذني من يدي إلى عرفة داخلية من غرف الضيوف التي بحديقة الدار . وقال : - لي عندك اليوم خدمة لا قبلها ولا بعدها !
قلت في شيء من الرجوم : خيراً إن شاء الله ؟ قال : لقد حصلت عليها أخيراً ! قلت : ما هي ؟ قال : الجلجلونية قلت : وما الجلجلونية ؟ قال : قصيدة الأسرار ! قلت : أي أسرار ؟ قال : ألا تعرف الصوفية ؟ قلت : كلا من هم ؟ قال : القوم الذين يرون الله ! قلت : أين ؟ قال : في كل مكان يحلون فيه! قلت : كيف ؟ قال : لا تطل ! قم فأنقل لي هذه القصيدة بخطك الجميل
في ورقة من عندك وسأفسر لك كل شئ فيما بعد . أن من يثابر على تلاوة هذه القصيدة في خلوة طاهرة تتكشف
له أنوار لا قبل لأحد بمواجهتها . ومن خلصت نيته وأحبه الله لا يلبث أن يرى وجه الحق سبحانه كما يرى الرجل أخاه !
قلت : ولكن كيف حصلت على القصيدة ؟ قال : سرقتها من جيب قفطانه حين خلع ملابسه وذهب للوضوء .
وعرفت أنا أنه يتحدث عن ( الشيخ راضي ) ذلك الشيخ الجليل الذي نزل ضيفاً علينا منذ أيام على عادته معنا في كل عام . فإن بلدتنا والبلاد المجاورة جميعها كانت تحتفل في مثل هذا الموسم من كل سنة بمولد ولي مشهور من أولياء الله - فيحضرون إليه نساء ورجالاً،كباراً وصغاراً ، يملأون الدنيا حول ضريحه ، وينشئون مدينة عامرة بكامل أسواقها ومرافقها ، ولكنها كانت مدينة مؤقتة ، لاتكاد تأخذ زخرفها وتزين ويحسب الإنسان أنها لن تبيد أبداً حتى يفتح عينيه على مكانها بعد إنقضاء أسبوع المولد فلا يجد لخيامها أثراً من الآثار ، ولا يرى من أهلها دياراً ولا نافخ نار .
قال صاحبي : - أذكر أني في ذلك اليوم عكفت على تلك القصيدة فنسختها بخط جميل في ورقة كبيرة . ولكني لاحظت أن بعض أبياتها توجد أمامه إشارة تدل على فائدته التي تميز بها . وسره الخاص الذي إنطوى عليه . فقرأت أمام بعض الأبيات مثلا " لسلامة السفر " - وأمام بعضها " لشفاء المريض " - وأمام بعضها الآخر " لنجاح المسعى " وهكذا...
فعز على أن يستأثر بهذا الكنز الثمين وحده " عم سالم " ورأيت أن أخطف لنفسي منه خطفة أو خطفتين قبل أن يسترد مني القصيدة وصورتها . وتمكنت من تدوين
بعض الآبيات التي أعجبتني" أسرارها " لاستعمالي الخاص ، فقد كانت لا تزال أمامي إمتحانات عديدة في المدارس على أن أؤديها . وخيل إلي أن " نجاح المسعى ، من العنوانات التي يصح أن يندرج فيها أمر الإمتحانات وإجتيازها بسلام فنقلت لنفسي البيت الخاص " بنجاح المسعى " . ونقلت البيت الآخر الخاص " بشفاء المرضى " وأذكر أيضاً أني نقلت فيما نقلت أبياتاً أخرى خاصة " بالمحبة "... و " القبول عند الرؤساء" ... وغير ذلك .
قلت لصاحبي : - وهل جربت شيئاً من هذه الرقي السحرية ؟ قال : بكل تأكيد ! فقد كان لي صديق عزيز وكانت له أخت مريضة كبيرة حار في علاجها جميع أطباء القاهرة . فطلبت إليه أن لا يناقشني في أمر الدواء الذي سأصفه لها وألححت عليه في أن يستعمله كما سأرشده عنه . وأن يثابر على ذلك أسبوعاً واحداً ليرى آية من آيات الله لا يعلم سرها إلا الأقلون !
وكتبت له في ورقة صغيرة ذلك البيت الجلجلوني الخاص بشقاء المرضى . وأشرت عليه أن يكتبه بالحبر في صحن من الصحون ثم يضع عليه قليلاً من الماء ثم يسقيه لأخته على الريق لمدة سبعة أيام - فهكذا كان الدواء كما هو مسطور في كراسة (الشيخ راضي) التي نقلت عنها - ومن بواعث الحزن أني خسرت صديقي ذاك منذ ذلك اليوم !
قلت : لعل الدواء لم يجد مع أخته ؟ قال : ليت الأمر وقف عند هذا الحد . فإنه إستعمل في الكتابة على الصحن نوعاً من الحبر القوي لم تطقه معدة أخته المريضة . فظلت تتقايأ عقب الجرعة الأولى حتى كادت تزهق روحها . وضبطه أبوه في ذلك الصباح
" متلبساً " بصحنه الذي سقى أخته منه . فكان صباح له ما بعده على أصداغ ذلك الصديق : العزيز الذي راح ضحية تسرعي وجهلي بطريقة الإنتفاع من " أسرار " تلك القصيدة . فإني عرفت بعد ذلك من " عم سالم " أن هذه الأسرار لا تتجلى إلا على أيدى ( الواصلين ) . ولما سألته من يكون " الواصلون " هؤلاء . قال : إنهم أولئك الذين ثابروا على التلاوة حتى تكشفت لهم ( الأنوار ) ووصلوا إلى الدرجة الرفيعة التى تجاب فيها كل المطالب وتتحقق عندها كل الغايات .
قلت : لقد بت مشغوفاً بمعرفة ما جرى لعم سالم بعد حصوله على قصيدة الأسرار . فهل ( وصل ) بها ، أم تقطعت به الأسباب ؟
قال : كلا ! إنه اليوم في البلدة كعبة القصاد . فقد
تمكنت منه فكرة ( الوصول ) تمكناً كاد يذهب بعقله ... كثرت خلواته بنفسه وطال إعتكافه في الأماكن المهجورة ؛ وأخيراً أوى إلى غرفة خاصة كان يغلقها على نفسه ويظل يطلق البخور فيها وهو لا ينفك يدمدم ويتمتم حتى خرج أخيراً على الناس وهو يزعم أنه رأى ( النور ) . وقد ذاعت في الناس سيرته . وتناقلت الألسنة حديثه وروى الرواة عنه ما كان وما لم يكن ، ونسبوا إليه الكرامات ، وتدفقت عليه الخيرات من حيث يدري ولا يدري .
قلت : آمنت بالله ! إذا كان الدين نفسه قد صار في يد بعض رجاله إلى ما نراه عليه اليوم - فلا غرو أن تنقلب الصوفية مع " عم سالم " إلي شئ أوله سرقة وآخره دجل وشعوذة !
