الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1025الرجوع إلى "الرسالة"

غرارة ملقاة

Share

إليك عني، أيتها النفس، فإنا وأنت كما قال عبيد  ابن الأبرص :

إذا أنت حملت الخؤون أمانة       فإنك قد أسندتها شر مسند

وقد أبيت على أن أكتب ما كنت أريد، لأنك  أردت أن تكوني لي غير عهدي بك منذ ساعات

قلائل، فدعيني أحدث عنك بما أسررت من مضمر  أو مكنون.

ما كدت أجلس إلى مكتبي حتى تبعثرت خواطري،  وتهاربت مني أفكاري، وانتشرت على عزيمتي، وتفرقت  عني إرادتي، وتطايرت في الآفاق سوا كن نفسي،  وغادرتني همتي، وكأني غرارة ملقاة على مدب الحياة. وربما هجس في نفسي الهاجس، فما أكاد أقول: هذا  هو! حتى أجدني على جناح أمر آخر، وإذا بينهما مسيرة  ما بين مشرق الشمس ومغربها. فأين المفر! وكيف  القرار! لا أين ولا كيف! بل ألتمس مذهباً لا غاية له،  لعلي واجد فيه بعض ما أسري به حيرتي: أن أقيد ما يعن  لي - أم ينبغي أن أقول: أن أقيد ما أعن أنا له - على  عجل، وبلا ترتيب، وكما يتفق.

ولكن ما نفع هذا لك أنت أيها القارئ؟ هل  يعنيك شيئاً أن تطلع على حيرة نفس في ساعة من حياتها؛  أم هل يجدي عليك أن تطلع؟ بل مالي ولك! أتراني  أكتب لأنفعك؟ ما أسخف هذا! وماذا عندي مما تنتفع  به؟ كيف أستطيع أن أدعي أني أنفع بالذي أكتب آلافاً  من القراء مثلك؟ وأنى لي علم هذا السحر: أن أجمع في  أسطر معدودات حاجة كل نفس؟ أو ليس من السخف،  ومن الغرور أيضاً، أن يزعم امرؤ أنه يملك القدرة على  نفع أحد، فضلاً عن آلاف؟ وما أملك إلا أن أصارحك  بأني ما كتبت قط إلا لنفسي وحدها، ثم لا ألبث أن  أعرض عليك ما أكتب - لا لأعلمك أو أنفعك، بل  لتعرف كيف يفكر إنسان مثلك! وكيف يخطئ وكيف  يصيب! وكيف يصدق وكيف يخون؟ فإذا كان ذلك  كذلك فلا بأس عليك إذن، إذا تصفحتني في ساعة  من شتاتي وحيرتي، كما تتصفحني في ساعة هدأتي وسكينتي

كيف! هل يمكن هذا؟ هل يمكن أن يصبح الإنسان  غزارة ملقاة على مدب الحياة، ثم هي إنسان يحس بالحياة

وأحيائها يمرون عليه غادين أو رائحين. هذا واطئ يطؤه،  وهذا مقتحم يقتحمه، وهذا ذاهل عنه وفي عينيه نظرة  المتأمل، وهذا متلفت إليه يرمقه كالمتعجب! وكلهم  لا يبالي. وهو أيضاً لا يبالي أن يكون ما كان: غرارة  ملقاة على مدب الحياة والأحياء.

ومادامت الغرارة الملقاة تحس بالحياة وأحيائها يمرون  عليها غادين أو رائحين، أفليس هذا حسبها من الحياة  وأحيائها؟ وما الحياة؟ هل الحياة إلا إحساس محض؟  إحساس بالألم، وإحساس باللذة. إحساس بالرضى،  وإحساس بالسخط. إحساس بالجمال، وإحساس بالقبح.  إحساس بالنور، وإحساس بالظلام. إحساس بالشبع،  وإحساس بالجوع. إحساس بالحلو، وإحساس بالمر.  إحساس بالشذا الطيب، وإحساس باللخن الكريه.  إحساس مجرد مرهف نافذ لا يعوق نفاذه شيء. إحساس  حر كشعاع الشمس.

أو هؤلاء الغادون والرائحون أعرق في حس الحياة  من الغرارة الملقاة على مدبها؟ وما الحركة التي تسير بهم  غادين أو رائحين؟ أهي تزيد الإحساس وتضاعفه، أم  هي تنقص منه وتتحيفه؟ أو ليست الحركة شاغلاً يشغل  عن تجريد الإحساس وإمحاض للمحسوس؟ وأيهما أنفذ:  غرارة ملقاة يستغرق حسها نابض الحركات حتى تظل حية  هامدة، أم غاد ورائح، تتخون الحركة من حسه حتى  يكل مرهفه ويفل مضاؤه؟

بل كيف يستغرق الحس الحركة؟ يا عجباً كل  العجب! أنه أمر لا يكاد يدركه إلا من مارسه في سريرة  نفسه. لذة لا توصف، ولكنها تعقب أحياناً ألماً لا يستقر.  لذة تتملى بها وحدك، وإذا هي تنسرب بك إلى جنة  مونقة تدلت عليك بأثمارها. أما الألم، فهو الذي يلذعك  إذا روعك عن استغراق حسك طارق لم تكن تتوقعه.

أجدني أحياناً في أمر والناس معي، ثم يستغرقني

عنهم حس أنفرد به، وإذا أنا معهم ولست معهم. ثم  ينبري سائل فيسألني عن شيء غير الذي أنا فيه، فإنتبه  كالمذعور، ويختلط علي ما أنا فيه بما سئلت عنه. وعندئذ  أرى كل شيء يفر مني كأني ما عرفته من قبل، ويأخذني  ما قدم وما حدث، ويخرجني التنبه فسراً من استغراق  الحس إلى حركة لم تتهيأ لها، وتتضارب على لساني كلمات  لم أردها، وأقول ذاهلاً، ما لو تأنيت قليلاً حتى أستقر  لما قلته. أنه قول منزعج عن حقيقته، لو اطمأن لاستقام  على وجهه. فمن لي بمن يحس به، حتى يتفق  حسي وحسه، ثم يقظتي ويقظته!

أمن الممكن حقاً أن تجعل إنساناً يحس بما تحس به؟  باطل محض. الحس عمل متصل لا ينقطع، بعضه يأتي فى  أعقاب بعض. أجل، ليس من الممكن أن تفرغ نفس   إنسان من ماضي إحساسها، وتفرغ نفسك من سالف  إحساسها، كي تبتدئا معاً، وتسيرا معاً إلى النهاية. هذا  مستحيل. وإذا استحال، فيستحيل معه أيضاً أن تجعل  إنسانا يحس بما تحس به. نعم قد يستقيم في بعض الكلام  أن تقول لأخيك: (إني أحس بما تحس به)  ولكنك  تعني عندئذ أنك توجهت بإحساسك إلى شيء كان  إحساسه قد توجه إليه. أما لو ظننت أن إحساسك به مثل  إحساسه، فهذا باطل. وألفاظ اللغة تضلل من لا يتوقى  مجاهلها

كل امرئ منا عالم وحده، لأنه يحس إحساساً  واحداً لا يشركه فيه أحد من بني جلدته. وكل امرئ  منا هو في أصل طبيعته يعيش في خلوة تامة - في غرفة  مغلقة الأبواب. وإذا فسدت عليه هذه الخلوة، فسد  إحساسه بالحياة وأحيائها. وإذن، فمن الإثم والعدوان،  أن تحتال على أحد، متوهماً أنك قادر على أن تجعل إحساسه  بالأشياء كإحساسك. إنك آثم لا محالة. إنك تفسده

وتفسد عليه حياته. إنك تعنف به حتى يخرج من خلوة  الفطرة من حرية الحس. نعم، بل أنت تتلذذ باستلحاقه  في إحساسك، تتلذذ بخضوع سر حريته لسطوتك،  تتلذذ بشعاً باستعباده!

باطل الأباطيل أن يحس جماعة من البشر بإحساس  واحد. أنه خلط قبيح. أنه إذلال كل فرد لطاغوت  مكذوب يقال له الجماعة. كل امرئ منا له حس منفرد،  يجرد للإحساس لشيء واحد، هو ما انطوت عليه هذه  الحياة الدنيا، كما فطرها فاطر السموات والأرض ومن  فيهن. والذي يجمع البشر في هذه الحياة، هو هذه  القضية المركبة: حس ينفرد به كل امرئ منهم، يتجرد  للإحساس بعالم واحد يتعايشون فيه. العالم الواحد هو  الذي يربطهم، لا تطابق إحساسهم تطابقاً تاماً أو غير تام

والإنسان ليس مدنياً بالطبع، كما يزعمون، بل  هو مدني بالضرورة. والضرورة هي هذا العالم الواحد  الذي نعيش فيه، والذي لا فكاك منه إلا بحسام المنية.  هذا العالم الذي يأسرنا، هو وحده الذي يربط بيننا، وهو  وحده الذي يؤلف بين هذه الأحياء المحسة به، وكل حي  منها منفرد بإحساسه، مستقل به وحده

لا يتطابق حسان بإحساس واحد أبداً، بل يتطابق  حسان على الإحساس بشيء واحد ولامفر. وهما قضيتان  مختلفتان في أصلهما، مختلفان في نتيجتهما

أنبل جهدك أن توقظ إنساناً حتى يحس، وسبيلك  أن تفطن إلى شيء واحد: هو أنك أحسست بهذا الشيء  أو ذاك. فإذا فطن له وتهيأ أن يحس به، فذلك حسبك  وناهيك. غايات الغايات: أن توقظ حسه لكي يحس.  والذي لا ريب فيه، أنه سيحس بغير الذي أحسست. هذا  غاية جهد أعلم العلماء وأبلغ الأنبياء، وهو الأمانة التي  كتب عليه أن يؤديها بما آتاه الله من علم وبيان. فإذا

جاوز هذا إلى أن يحتال عليك ويختلك ويماسحك، ثم  يتلصص إلى خلوتك ليضع فيك إحساسه، لكي تبلغا    (اتحاد الإحساس)  فاعلم أنه لم يزد على أن أفسدك  وشوهك. فأحذره. أنه يستعبدك! أنه يميت إحساسك!  أنه يتركك تقلد الحس وأنت لا تحس، كالببغاء تقلد  الكلام وهي لا تتكلم!

هذا إثم يرتكبه كثير من الجماعات ومن أصحاب  المذاهب. يزعمون إصلاح الناس، وحقيقة فعلهم تخريب  الناس، وإماتة الإحساس الحي، واستعباد الحس الحر  المنفرد في كل نفس. أنه تدمير الفطرة في سبيل الجماعة،  أو في سبيل المذهب، أو في سبيل الدولة! حذار من فتك  هؤلاء الفتاك، وإن جاءوك في ثياب النساك.

صورة الإنسان واحدة، مذ كان الناس على الأرض.  الآلاف بعد الآلاف منذ أقدم الدهر. بنية واحدة بها  يعرف الجنس أنه   (إنسان) ، ولكنهم متباينون، فلا يتشابه إنسانان أبداً. وكذلك الحس أصل واحد في كل  إنسان، ولكن يتباين الحس، فلا يتشابه حسان أبداً،  ولا يتطابق إحساسان البتة.

لا حيلة لأحد حتى يستطيع أن يدمج إنساناً في إنسان  ولو رام ذلك أحد لدمرهما جميعاً. أما الحس، فبالختل  يتطابق، وبالخداع يندمج. ختل هو القسر، وخداع هو  الاعتساف. ولا يتم ذلك إلا بتشويه الحس وتدميره.  والذي هون على الناس أمر هذا التشويه والتدمير، هو أن  من الممكن أن يعيش المرء حياته بحس مدمر خرب، وإن  كان مستحيلاً أن يعيش بصورة مدمرة خربة.

ومن هوانه على الناس، أن يفعله غير متحرج أكثر  الآباء والأمهات، وأكثر المعاهد والمدارس، وأكثر  الجماعات والمذاهب والدول. يدمرون حس الإنسان بالختل  والخديعة، حين يزعمون إصلاح الناس بتطابق إحساسهم  واندماجه. يدمرون الحس لأنه باطن، ولأنه لا قوام له

يحول بينهم وبينه، كما يحول قوام صورة الإنسان الظاهرة  بينهم وبين ما فعلوه في شقيقها وقرينها.

الحياة إحساس محض، والحس حر مطلق، فأيما  مذهب أو جماعة أو دولة، حاولت أن تدمج بالختل حساً  في حس، وأن تطابق بالخديعة إحساساً في إحساس، فلا  غاية لها إلا استعباد أحرار الحياة، وتدمير سر النشأة  وتخريب بنيان الله بأحسن الأسلحة: بالكذب والمكر  والتغرير والختل والخديعة والعبث. إنهم يريدون أن يجعلوا المذهب أو الجماعة أو الدولة، طاغوتاً يعبده المضللون  داعين متضرعين (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) .

أليس هذا بحسبك بعد الذي أفضت فيه. وقد  عرضت لك جانباً من خواطر نفس حائرة تتصفحها،  فتفكر وتدبر، وأحذر ما يقول القائل.

فبينما الأمر تزجيه أصاغره       إذ شمرت فحمة شهباء تستعر

تعي على من يداويها مكايدها      عمياء، ليس لها شمس ولا قمر

اشترك في نشرتنا البريدية