الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 575الرجوع إلى "الثقافة"

غلبتنى بعوضة

Share

حدثنى أحد العلماء قال

- فى إحدى ليالى الصيف كنت أجلس فى معملى مكبا على فحص عينات دقيقة من الحشرات النادرة ، محاولا جهد الطاقة أن أميز بينها وأتعرف على خواصها ، حتى أخذ منى الجهد والإعياء ، فتلفت حولى فى سأم وضيق ، ثم استلقيت على مقعدى فى تراخ شامل وأطبقت أجفانى . .

" ولم تكد عينى تكتحل بأول ومضة من ومضات الوسن حتى أقبلت بعوضة تهوم حول وجهى فى إلحاح . فذببتها عنى بيد متراخية ، فدارت فى سماء الغرفة دورة أو دورتين ، ثم استقرت على عدسة الميكروسكوب وسكنت لحظة كأنها تتأمل باهتمام ما تحته من تشريحات ، ثم رفعت رأسها عن المنظار وعادت إلى طنينها المتواصل . . وخيل إلى أن فى صوتها كثيرا من السخرية والرثاء ، وكأنها تهتف بى :

" ألا ما أتعسكم وأشقاكم بالعلم أيها العلماء ؛ بالله عليكم ماذا جنيتم من طول السهر والتحديق ، إلا ضمورا فى الخد ، وشحوبا فى الوجه ، وعوينات زجاجية تلبسونها طول الحياة ؟ .

" إن أقصى غاية لما تبذلونه من الجهد ، هى أن تصلوا إلى مأرب مادى أو مصلحة خاصة تنفع عشيرتكم التى سادت الكائنات فركبها الغرور فأفسدت كل شئ . .

" انظر ! لقد طغى عليكم غروركم فأردتم أن تتزينوا بلبس الديباج والحرير لتظهروا بالمظهر البراق الذى لا يستهوى سواكم ، فعمدتم إلى الفراشات المطمئنة فى شرانقها فقتلتموها قبل أن يتم نموها ، وقبل أن تخرج إلى النور والحياة . . لا لشىء إلا لتحفظوا لأنفسكم خيوطها الحريرية سليمة ، ولم تفكروا يوما ما كيف جاهدت دودة القز الضعيفة التى لا تزيد على خنصر أحدكم ، فأخرجته

خيطا دقيقا من رأسها ، حتى تم لها تكوين مأوى تسكن إليه . .

" ثم اشتهت أنفسكم العسل فهاجمتم مستعمرات النحل ، واستوليتم على كل ما جمعته طيلة العام بكدحها وكدها ، وادخرته لصغارها الغافلة فى خلاياها المختومة ، ناسين أنها هى التى قامت بتلقيح مزروعاتكم فساهمت بنصيب وافر فى إكثار البذور والثمار . .

" ثم استبد بكم الغرور فامتدت أيديكم إلى ما ليس لكم به صالح ولا نفع ، وبرحتم تأسرون الفراشات الجميلة وتحرمونها حرية التنقل بين الخمائل وامتصاص رحيق الأزهار ، لتحنطوها وتضعوها حبيسة فى الصناديق والعلب ، لا لشئ إلا لتعرفوا إن كانت ألوانها الزاهية الجميلة راجعة إلى أصباغ كيميائية أم أطياف ضوئية

ألا ما أسخفكم وأثقلكم أيها الآدميون !

" إنكم على غروركم وكبريائكم ضعفاء مساكين . . ألم تر محموما يغلى دمه فى عروقه وتهذى شفتاه بلا وعى ، يطويه الألم بالليل وينشره بالنهار ، وقد عافت نفسه الزاد والشراب ؟ ! إن ذلك بسبب بعوضة تافهة مثلى أنشبت خرطومها فى خده الأسيل فلم يستطع دفع الخطر عن نفسه وتحت يديه السيف والمدفع

" إنكم على علمكم تنقصكم الحكمة !

" ألم تنظروا إلى مملكة النمل أو مستعمرة النمل وفيها كل فرد يقوم برسالته التى خلق لها دون انتظار لجزاء أو خوف من عقاب . . ليس بينها عاطل أو خامل أو متكاسل أو متواكل . . وأنتم معاشر الآدميين تسنون القوانين وتضعون اللوائح والعقوبات وتنشئون السجون والمعتقلات ، ولا زال فيكم السارق والبلطجى والمفكر الهدام  . .

" ألم تنظروا كيف تتعاون أفراد الفصيلة الواحدة منا

على محمل العبء والمسئولية . .  . وأتم تتحاربون على أيكم يحمل العبء والمسئولية !

" اعذرونا إذا إذا اعتدى عليكم بعض سفهائنا وجهالنا فأكل الجراد محاصيلكم وأتلف المن زرعكم وضرعكم وأفسدت دودة القطن مجهودكم . . فإن هذا قليل عليكم فى باب الجزاء . "

وما وصلت تلك البعوضة الثرثارة إلى هذا الحد حتى

ثارت ثائرتى ، فجمعت قبضة يدى وسددت إليها لكمة قوية تحطمت لها أدوات المعمل الزجاجية المرصوصة أمامى . ورأيت البعوضة الفيلسوفة الماكرة تحلق جذلة منتصرة فى سماء الغرفة . . فلم يبق فى وسعى إلا أن أضع رأسى بين كفى لأعترف بينى وبين نفسى أن قد غلبتنى بعوضة  " .

اشترك في نشرتنا البريدية