تعود أكثر الناس لا سيما الرجال كلما وقع في الدنيا حادث جلل أو خطب فإدح ان يقولوا ويرددوا هذا القول " ففتش عن المرأة " فإذا رأو قتيلا او غريقا أو عرفوا شابا قد انتحر ، أو بيتا سرقه اللصوص أو زوجا شريدا هجر بيته وأسرته ليببت في الحانات أو خصومة قامت واحتدمت ، صرخوا جميعا بصوت واحد أو دارت بيتهم الهمسات والوشوشات بقولهم : فتش عن المرأة . .
هذا القول الغاشم البغيض يردده الشرقيون والغربيون في الويلات والنكبات ، ويجعله الصحفيون عنوانا لبعض الأخبار في صدور الجرائد لما فيه من إغراء وتنبيه ، على أن كثيرا من المتعلمين والمثقفين إذا اطلعوا عليه أو سمعوه حسبوه لحكيم من حكماء الغرب او نسبوه لنابوليون ، ولو رجعوا إلى ذخائر الأدب عند العرب لوجدوا ثمة شاعرا عربيا ومجهولا سبق بطل الفرنسيين إلي ذلك المعنى في بيتيه :
إذا رأيت أمورا منها الفؤاد تفتت
فنش عليها تجدها من النساء تأتت
ولعل قائلهما كان من أعداء المرأة علي نحو ما فعل بعض أدباء الغرب وشعراء العرب في الأيام الخالية ، أو على مثال ما يفعل في زماننا توفيق الحكيم الكاتب المصري المشهور بعداوته المصطنعة للمرأة التي لولاها لما ابدع في فنه ، ولما أوحيت إليه أشتات الفكر وأفانين الأدب ، ومثل هذا المعنى كثير في أشعار العرب القدامي والمحدثين ، وقد نظمه اديب من هؤلاء في قوله :
إن حادث يوما أهمك شأنه وجهلته فابحث عن النسوان
إني رأيت الشر إلا قله منهن مصدره على الإنسان
لو غاص أعداء المرأة الألداء أو المتظاهرون بالعداء إلي اعماق الحقيقة والواقع وتجردوا من كل ضغينة وبغضاء
لما جعلوا المرأة موضع همزهم ولزهم في كل حين ولآمنوا ببراءتها احيانا مما يصفونها به ظلما وعدوانا ، وحاشا ان أزعم أن المرأة معصومة من الشرك كاملة في سجاياها لا تصدر عنها نقيمة ولا دسيسة ، فأدعي انها ملاك من الملائكة ، فكم بين النساء من حية رقطاء وداهية شمطاء تحرك الفتنة وتصعي بالرزايا ، كامراة العزيز التي جنت على يوسف ، فلبث في السجن بضع سنين ، وهذه المرأة لو عصمها العزيز من جمال يوسف ، لكانت في نجوة من هواها الاثيم .
ومن العجب أن تتعالي أصوات الرجال من حماة الشريعة والقانون ، ورعاة الأسر والبيوت في بلاد الشرق والغرب بشكاية النساء وتحدر طائفة منهن في مهاوي الزلل والخطيئات ، وهم المسئولون عن خيرهن وشرهن ، غير أنهم يجهلون أو يتجاهلون انهم كانوا مذ كانت المرأة سببا في صلاحها أو فسادها ، في سعادتها أو شقاوتها ، ولو استنطقنا الحدثان لسمعنا أن أكتر فجائع الدهر التي حملت المرأة اثقالها ، وباءت بالملامة فيها كان سببها الرجل ، فهاتيك المرأة التي سلكها الزمان في الخبيثات الآثمات ، وهم يرجمها الراجمون لولا حكمة المسيح عليه السلام - من يدري انها لولا أحبولة البغي التي أوقعها فيها أحد الرجال ، لكانت إحدي الفاتنات الطيبات .
ولنعد القهقري إلي تخوم الأزل حواء نتهادى في مقاصير الجنات ثم يوسوس لها الشيطان ان تأكل من شجرة الخلد لتحظي بمليك لا يبلي ، فإذا بها تطيعه وتغري آدم بهذا الطعام ، فيكتب الخالق على الخلق حياة الأرض ، ويسقيهم بعد نصب العيش كأس الفناء ، وينطوي البشر جيلا إثر جيل يلومون حواء حين تدهمهم الخطوب والهموم فيقولون لولا حواء . . وقد فاتهم جميعا انها لم تكن هي علة الشقاء وإما كان إبليس ، وضميره واسم إشارته في علم النحو يئمان على أنه من طائفة الرجال لا من طائفة النساء فهل من العدل ان توصم حواء بأيد البلاء ثم ترث بنائها
من بعدها تركه هذا التلوام أبد الأيام والاعوام ، فيقال في كل حين وفي كل محنة : فتش عن المرأة ؟
ما رأينا في قديم الدهر وحديثه امرأة اخترعت بندقية أو مدفعا ، ولا فتاة صنعت مدية أو سهما ، ففي الدنيا رجال سكبوا الحميم على الآمنين ، وصبوا سوط عذاب على الأبرياء ، لم تبلغ مبلغهم نساء في الجور والعدوان ، وإن اوزار الحروب وفوادح الخطوب مصدرها ابن ادم لا ابنته ، فهو الذي ابتدع وسائل الدمار ومتالف الحياة ، ومن بين الناس لم يبلغه حديث ابني آدم ، إذ قتل احدهما الآخر طمعا وحسدا ؟ فكانت أول يد تلطخت بالدماء هي يد الرجل ! سلوا خبابا المفاسد ، ففي مطاويها بقايا هن ضحايا رجال ، لعل الواحدة تقول :
كنت عنده خادما قسطا وبغي .
وتقول الثانية : اخرجوني فأخرجوني .
وتقول الثالثة : خطفوني وتركوني .
وسلوا محارب العبادة وصوامع التقديس ففي ! كفاقها عذاري زاهدت ، وكان بينهن من تقول :
خان حبي وسحق قلبي .
وتقول الثانية : سلبني مالي وسيطر على ميراثي . ألا أيها الرجال اللوامون فتشوا عن أنفسكم قبل أن تفتشوا عن المرأة ، هذه البهارج الغالية والخلاعات الطاغية لمن لوح وتبدو ؟ وقيم تروح وتغدو أليس لمرضاة الرجال
كيف ينشدون في المرأة عصمة وكمالا ، وهم لا يحبون فيها ما يرضي عقولهم دون قلوبهم ، وفيهم من ينهي عما يهوي بها إلي السوء ثم يأخذ بيدها إليه ويدلها عليه ، وفيهم من يؤثر التبرجة الخليعة على الحصان الرزان ، وفيهم من يستحي ان يماشي زوجه في الطريق إذا لم تكن كالدمية في زينتها .
إنها أبدا مرآة لميول الرجال وأهوائهم الظاهرة والباطنة وكيفما يكونوا يكن ، فهم إذا شاءوا جعلوها ملاكا أو مسخوها شيطانا لله در من قال :
فهي شيطان إذا أفسدتها وإذا اصلحتها فهي ملك
هي نبع فأشربوا منه سائغا طهورا ، ولا تعكروه بالقذي أو ترموه بالحجارة . .
هي قيثار فوقعوا على أوتاره الأنغام العذاب التي تهدهد الآلام وتنشر الوئام والسلام .
فتشوا عن المرأة في تضميد الجروح ومواساة المرضي وإسعاف المساكين .
فتشوا عنها في أطوار الأمومة الرحيمة ، فهناك أقصى غاية الجود والتقديرية ، تسهر لينام أولادكم وتجهد ليستريحوا وتفديهم بالروح مهما أساءوا .
فتشوا عنها وهي منار سعادتكم وحياتكم ومثار عزتكم وحميتكم
فتشوا عنها في العزاء والوفاء ، في الحنان والإحسان . فتشوا عنها وهي ام الرسل والأنبياء الذين كانوا الهدى لضلال الإنسان .
فتشوا عنها وهي والدة الأطباء والعلماء الذين خففوا مواجع البشر وتقفوا عقولهم ورفهوا دنياهم .
فتشوا عنها وهي منجبة العظماء الذين كتبوا لأمتهم سجل الخلود والأمجاد مدى الآباد .
) دمشق (
