نص الفتوى: (كتب إلينا من البلاد الهندية أن طوائف من أهلها الهندوكيين يريدون أن يتخذوا الإسلام ديناً لهم، ولكن عادتي حجاب النساء والختان تثبطانهم عنه بعض التثبيط. وقد طلب إلينا أن نبدي رأينا في هاتين العادتين وعن علاقتهما بالدين الإسلامي، فلم نر بد من تلبية هذا الطلب راجين أن يكون فيه هدى للمسترشدين وبيان للمتثبتين
شرع الله تعالى الدين الإسلامي ليكون ديناً عاماً للبشر كافة في كل زمان ومكان، فجاءت شريعته مراعية لجميع الحاجات المادية والمرافق العمرانية للأفراد والجماعات، وضامنة كل ضروب الحريات الضرورية لهم في حدود الناموس الأدبي العام، بحيث لا تتعاكس هذه الحريات ومصالح الاجتماع، ولا تتضارب والأخلاق التي هي أساس العمران. فليس يوجد بين النظم الدينية والاجتماعية ما يوفق بين مطالب الأرواح والأجساد ويربطها برباط وحدة وثيقة غير النظام الذي جاء به الإسلام
لست بصدد تفصيل هذا الإجمال، فلا أتعرض له إلاً لبيان أمرين فيه هما مسألتا الحجاب والختان، وهما اللتان طلب إلينا بيانهما
الحجاب إن حجاب النساء كان معروفاً ومعمولاً به قبل مجيء الإسلام بقرون كثيرة في جميع الأمم المعرقة في المدنية، وقد أخذه عنهم اليونانيون والرومانيون على أقصى ما يعرف عنه من التشديد قبل الإسلام بأكثر من ألف سنة، وكان الإسرائيليون جارين عليه أيضاً على عادة معاصريهم
فلما شرع الله الإسلام راعى في هذه المسألة ما راعاه في جميع المسائل الاجتماعية من الاعتداد بالمصلحة العامة في حدود الناموس الأدبي العام فأنزل قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهم ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلاً لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن
ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)
هذه الآية هي أطول آيات الحجاب، وهي تنص على وجوب إتباع الجنسين على السواء للآداب الواجبة لأحدهما حيال الآخر
ولما كان النساء محلاً للفتنة خصوا بالأمر لضرورة التصون في مخالطة الرجال وعدم أبداء زينتهن لهم إلا مالا يمكن إخفاءه منها أثناء مزاولتهن أعمالهن من خاتم وسوار
وقد اجمع الأئمة على أن الوجه والكفين ليسا بعورة، وأن ليس على المرأة من بأس أن تزاول أعمالها خارج بيتها، وأن تمارس مهناً لكسب قوتها على شرط أن لا تظهر ما يثير العاطفة من جسمها وجيدها وزينتها
وما حدا بالإسلام إلى وضع هذه القيود إلا المحافظة على النفوس أن تفسدها الشهوات. والمجتمعات أن تحل روابطها الموبقات. وليس بخاف ما جرته هذه الشهوات على الأمم الخالية من الانحلال والزوال
فالإسلام لم يفرض على المرأة أن تعيش كما تعيش الأنعام، أو أن تسجن كما يسجن المجرمون؛ ولكنه على العكس أمر أن تحضر الصلوات في المساجد في صفوف خلف الرجال، وأن تحضر اجتماعات المسلمين العامة في الأمور الهامة، ولم تمنع قط من إبداء رأيها فيها، ومن أن تتعلم كما يتعلم الرجال، وأن تتصرف في أموالها بكل وجوه التصرفات بدون توقف نفاذها على زوجها أو والدها أو أي أحد غيرها، وأن تتعاطى ما تشاء من الأعمال الحرة
هذه حقوق منحتها الديانة الإسلامية للمرأة منذ نحو أربعة عشر قرناً، فلم تصل إليها أية امرأة سواها في العالم إلى اليوم والإسلام إزاء هذا كله لم يشرط عليها إلا حفظ كرامتها كامرأة شريفة غير مبتذلة ولا متبرجة لتكون عضواً صالحاً في المجتمع بدل أن تكون عاملة فتنة فيه
هذه نزعة تقر الإسلام عليها كل نفس شريفة، ولا تصادف معارضة من أي فريق حتى أصحاب المذاهب المتطرفة
الختان أما مسألة الختان - فلا تصح أن تكون عقبة أمان الذين يريدون الإسلام، فإن الختان كان معروفاً عند بني إسرائيل قبل مجيء الإسلام، وقد اقتبسه عنهم العرب الجاهليون. فلما جاء
الإسلام أقره شأنه إزاء كل عادة نافعة أو عمل صالح
وقد قرر الأطباء أن الختان من انفع العادات واحفظها من الأمراض التناسلية، فإن القلفة بتغطيتها لرأس العضو تختزن في طيها الأقذار وتكون موطناً للجراثيم الضارة، وغسلها من باطنها مرات في اليوم من الأمور المتعذرة، فإزالة هذه القلفة مما يندب إليه قانون الصحة؛ وقد علم أن بقائها في الأمم لم تعتد إزالتها قد كان سبباً في انتشار الأمراض السرية، وهذه الأمراض لم تعرف في بلاد المسلمين إلا بعد اختلاطهم بجاليات الأمم من طرق العدوى
على إن الإسلام لم يوجب على أهله الاختتان إيجاباً كما هو مذهب الإمامين أبو حنيفة ومالك ولم يجعله شرطاً للإسلام، فهو في نظره سنة للرجال إن شاءوا أخذوا به تصوناً وتطهراً وإن شاءوا تركوه
أما النساء فلم يصل إلى درجة السنة في مذهب الإمامين السابقين، ولكنه عندهما كرامة لهن فقط. لذلك تجد أكثر المسلمين لا يختنون نساءهم؛ فالأتراك كافة والمغاربة والإيرانيون والهنود وغيرهم لا يعملون بهذه العادة فيما يتعلق بنسائهم
والعادة أن الاختتان يكون في السنين الأولى من الطفولة بين ثلاث وعشر غالباً، وليس فيه كبير مشقة ولا يتوقع من ورائه خطر إذ أنه لا يتعدى قطع الجلدة الزائدة المغطية للعضو مع عدم المساس بالعضو نفسه، ناهيك أنه يعمل بواسطة العارفين، واختتان الكبار كاختتان الصغار ليس فيه أقل ضرر
بقيت مسألة ربما تهم الذين يريدون الدخول في الإسلام جماعات غفيرة وهم كبار في السن، وهي أن يعرفوا ما حكم الإسلام فيهم، فإلى هؤلاء نوجه قول الحسن البصري رضي الله عنه، وهو إمام الأئمة المجتهدين، قال العلامة ابن قدامة الحنبلي في المجلد الأول من كتابه (المغنى) في الصفحة السبعين عن الختان ما يأتي:
(والحسن يرخص فيه ويقول: إذا أسلم لا يبالي أن لا يختتن. ويقول: أسلم الناس الأسود والأبيض لم يفتش أحد منهم ولم يختتنوا)
وهذا ما رأينا أن نأتي به من حكم الدين الإسلامي في أمر الختان والحجاب، وقد تبين أن واحداً منهما لا يتأتى أن يكون عقبة في سبيله
والله يهدي من يشاء إلى سراط مستقيم)
