الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 309الرجوع إلى "الثقافة"

فشل ولسن، من كتاب (مد الحظ وجزره)

Share

ستيفان تسفايج مؤلف معاصر جنى عليه عصره في دينه ووطنه . فلقد ولد في النمسا وولد يهوديا ، وامتدت به الحياة إلى أن رأى سلطان النازية ينشأ حتى بلغ الأوج ، ويضعف ولكن ليس حتى يبلغ النهاية ، فلقد سبقت نهاية تسفايج نهاية النازية التى تحمّل من أجلها أشد أنواع العذاب ؛ إذ قضى سنواته الأخيرة مشرداً طريداً جوّاب آفاق ، يعيش من قلمه ويعتمد على مروءة الشعوب التي قرأت له فقدرته وانتهى به المطاف آخر الأمر إلى البرازيل فألف عنها كتاباً قيماً ، وظن نفسه يبدأ حياة جديدة في أرض جديدة ، ولكن اليأس لاحقه . وكان قد كتب كتاباً عن حياته سماه " عالم الأمس " ووقف عند نهاية الكتاب حائراً ، فلم يجد خير ما يختم به هذا الكتاب ، بل خير ما يختم به تلك الحياة التي يصورها كتابه من أن ينتحر . وطلع الكتاب على الناس بعد وفاته مذيلا بوثيقة بخطه يثبت فيها أنه انتحر مريداً كامل العقل .

ويقول في تعليل ذلك الانتحار : " إن المرء ليحتاج إلى قوى فوق الطاقة ليبدأ حياته من جديد بعد الستين من عمره ؛ أما قواي فقد أنهكتها سنين طويلة قضيتها مشرداً طريداً ، لذلك أرى من الأفضل أن أختم في الوقت المناسب وعلى النحو الموافق حياة كانت أرقى السعادات التي ذاقتها سعادة الجهد العقلي ، وأعظم الخير الذي أحسته الحرية الشخصية . حياكم الله أصدقائي . ألا فليمن الله عليكم برؤية الفجر بعد طول هذا الليل البهيم ، أما أنا ، وقد براني القلق وخانني العبر ، فإني أمضي قبلكم " .

ومن أمتع ما ألف تسفايج كتابه هذا عن " مد

الحظ وجزره ، أي إقبال الحظ وإدباره . يصف في أسطر قليلة موضوعه ، فيقول : " إن التاريخ كالطبيعة نفسها لأنه مرآتها الروحية ، يتخذ لنفسه صورا لا يحمي عددها ولا يحد شكلها . إنه ليهزأ من النظام ويحتقر القانون ،

فهو حينا كالماء المنساب يبدو كأنه يسير نحو غاية مرسومة ، وحينا يتبع الصدف التى تلهو بها الرياح . وإنك لتراه يبني عصراً من عصوره بالصبر المتواصل المتأني الذي يتجلى في تبلور البلور في الطبيعة ، ثم تراه وقد أتت ساعة من ساعاته العنيفة المزدحمة بالحياة ، فإذا الأجرام المتزاحمة كلها تتبلور في لمح البصر . لكنه خالق مبدع أبداً ، ولذلك كانت هذه اللحظات المفعمة بنشاط التكوين والتبلور والتركز هي التي تكشف عن الجانب الفني ، بل عن نواحي الإبداع في إنتاج التاريخ . حقاً إن عالمنا مشبع بتلك القوى اليبة ، ولكنه في هذه الساعات المركزة العنيفة وحدها تصبح حقيقة تلك القوي لا تحتمل شكاً . "

" ولقد انتقيت من القرون الطويلة اثنتي عشرة ساعة حاسمة من هذه الساعات ، لم أحاول أن أشوب حقيقتها بأي لون من عندي ؛ فالتاريخ عندما يخرج لنا أثراً ناضجاً كاملاً لا يحتاج إلى فن الكاتب لإبرازه . إن مجرد السرد الأمين للواقع ليكفي "

ويختم تسفايج كتابه بهذا الفصل " فشل ولسن " يصور فيه تصويراً رائعاً ما علّق الناس من آمال على مؤتمر الصلح عقب الحرب الماضية ، وكيف خابت تلك الآمال أملًا أملاً ، فكانت معاهدة قادت إلى حرب شر من سابقتها . ترى ماذا سيكون مصير آمالنا التي تعلق اليوم على مؤتمر الصلح القادم ؟ وهل نحظى بعد تسفايج بالكاتب الذي يصورها ويصور في هذه المرة تحقيقها إن شاء الله ؟

يقول تسفايج في هذا الفصل : في الثالث عشر من ديسمبر سنة ١٩١٨ وصلت

الباخرة العظيمة " جورج واشنجطون " إلى ميناء برست مقلَّة وودرو ولسن رئيس الولايات المتحدة . ولم يشهد التاريخ من قبل مثل هذه الملايين عدداً ولا مثل هذا الحماس حرارة في استقبال رجل او في استقبال باخرة . فلأربع سنوات طويلة ظلت دول العالم تتطاحن وتتشاجر ، وتقتل المئات بل الآلاف من خيرة أبنائها بالبنادق السريعة والحراب ، والقنابل والمدافع وقاذقات اللهب والغازات السامة ، بل إنها ظلت طوال هذه السنوات الأربع تتراشق بالحقد والبغضاء ؛ ومع هذا فلم تكن هذه الفورة الجنونية لتكتم الأصوات الخرساء التي كانت تتجاوب في نفوس الناس .

تهتف بهم أن ما كانوا يعملونه سخيف حقاً ، وأن ما كانوا يقولونه جنون مطبق ، بل إنه عار عظيم على هذا القرن الذي نعيش فيه ؟ وظل يذكي هذه الملايين من المحاربين ، شعرت أو لم تشعر ، إدراك خفي أن الإنسانية قد انزلقت إلى فوضى الهمجية .

وعندئد دوى صوت واضح وعبر المحيط من الدنيا الجديدة ، تتردد أصداؤه في ميادين القتال ، ولمَّا نزل أرضها مخضبة بالدماء ، ليقول : لا " حرب بعد اليوم " ! نعم لن يكون هذا العداء بين الشعوب ولا هذا التنافر بين الأمم ،

ولن تقوم قائمة لمثل هذه السياسة الغاشمة التي كانت تدور في الخفاء فقادت الأمم إلى المجزرة دون علمها أو رضاها ، ستتبدل الحال وسيُظل العالم نظام جديد أفضل من كل ما سبق من نظم - نظام يعود فيه القانون المؤسس على رضا المحكومين المدعم برأي الإنسانية الرشيد .

وإنه لمما يثير العجب أنه ما من أمة بل ما من لسان إلا استجاب أهله في الحال لهذا الصوت . إن الحرب التي كانت بالأمس نزاعا لا طائل تحته من أجل الأراضي والحدود ، ومن أجل الخامات والأسواق ، ومن أجل المعادن والبترول ، قد اكتسبت فجأة دلالة أسمى ، دلالة تكاد تكون قدسية إنها أصبحت مقدمة السلم الدانم - مقدمة العالم السماوي

المنشود - عالم الحق والإنسانية . وفجأة بدا للناس وكأنما دماء الملايين لم ترق سدى ، وكأنما جيل بأسره لم يعذب إلا لكي ينفي مثل هذا العذاب عن وجه الأرض إلى الأبد . واتجهت مئات الآلاف بل الملايين الذين تملكهم جنون الثقة نحو هذا الرجل الفرد وودرو ولسن آملة أنه يستطيع وحده أن يعقد الصلح الدائم بين الغالب والمغلوب ،

وأن هذا الصلح سيكون صلحا عادلا . إن ولسن سيأتي إلى هؤلاء الذين خبلتهم الحرب بألواح من الوصايا كألواح موسى عليه السلام ، تقام على أساسها رابطة جديدة بين أمم الأرض . وفي أسابيع قليلة أحيط ولسن بهالة قدسية ،

فأطلق اسمه على الشوارع والمؤسسات والمواليد ، وأرسلت كل أمة حائرة أو مغلوبة مندوبيها ، وغمره من كل قارة من القارات الخمس سيل من الرسائل والتلغرافات زخرت كلها بالأمل والرجاء والطلب والإلحاح ، وبلغ عددها آلافا وآلافا ، وملأت حقائب وحقائب ، أفرغت كلها على الباخرة التي أقلته إلى أوروبا ، إن العالم قد ارتضاه حكماً في المنازعات بين دوله ليصفي حسابها قبل أن يعقد هذا الصلح الذي طال التطلع إليه .

ولم يستطع ولسن أن يقاوم النداء . ونصحه أصدقاؤه في أمريكا ألا يحضر بنفسه مؤتمر الصلح . قالوا إنك رئيس الولايات المتحدة ، والواجب يحتم عليك ألا تترك وطنك ؛ ويكفي أن تُسيّر دفة الأمور أثناء المباحثات من بعيد .

ولكن ولسن لم يعبأ بالنصح . إن أقصى ما يمكن أن يقلده الوطن من مناصب ما هو إلارئاسة الجمهورية ، وما تلك إذا قورنت بما ينتظره هناك على الضفة الأخرى من المحيط من مهام جسام . إنه لن يقنع بأن يخدم قوماً بعينهم ولا قارة بالذات ، إنه يريد أن تخدم الإنسانية كلها ، وأن يكرس نفسه لا لهذه اللحظة من الزمن وحدها ، ولكن لما فيه الخير الدائم لمستقبل العالم . إنه لا يرضى أن يحد من آماله فيجعلها تتلخص في أن يرعى مصالح أمريكا ، لأن المصالح

تقطع أسباب المودة بين الناس ، ولا تقرب بينهم " . إنه سيعمل لخير الجميع ، ويجب أن يتحقق بنفسه من أن الفرصة لن تتاح بعد اليوم لرجال الجيش والساسة ليلهبوا الشعور القومي في الشعب . إن هؤلاء الساسة سيقرع ناقوس موتهم رجل يستطيع أن يضمن المستقبل للإنسانية .

إنه هو نفسه سيكفل تحقيق مدلول الجملة : " إرادة الشعب وليست إرادة حكامه هي التي ستتحكم في مصير الأمم" .

إن كل كلمة ستقال في مؤتمر الصلح (آخر مؤتمر من نوعه في تاريخ العال) . يجب أن تقال والنوافد والأبواب مفتحة على مصراعيها ، لا بل إنها يجب أن تدوي حول الكرة الأرضية كلها .

" يتبع "

اشترك في نشرتنا البريدية