-2-
هكذا وقف ولسن علي الباخرة يتأمل الشاطئ الأوروبي البعيد الذي بدا له من خلل الضباب مختلطا غامضا كحلمه بالتآخي المرتقب بين شعوب الأرض . هكذا وقف معتدل القامة طويلها ، صلب الملامح صارمها ، ذا عينين حادثين تملوحان رائقتين من خلل منظاره ، بارز الذقن بروزها عند الأمريكيين المعروفين بالنشاط والحركة ، غليظ الشفاء تنبىء غلظتها بالهيبة والوقار . لقد انحدر من سلالة رهبان ورث عنهم صلابة في التفكير وتحديداً وتزمتا كنزمت هؤلاء
الذين لا يرون الحق إلا واحداً وهم على يقين من أنهم يعرفونه ويؤمنون به . وورث عن أجداده أيضا حماس الاسكتلنديين والارلتديين وتعصبهم ؛ وألهب حماسه هذا أنه كان من هؤلاء الذين يؤمنون بأنهم إنما أتوا إلى العالم منقذين ، عليهم وحدهم - وخاصة إذا كانوا من القادة أو المعلمين - تقع مهمة إنقاذ البشرية من الخطيئة والإثم .
وكانت نفسه تغلى أبداً يعتاد الخوارج وصلابة الشهداء هؤلاء الذين يفضلون أن يذهبوا إلى الفصلة أو بحرقوا أحياء على أن ينزلوا عن حرف مما آمنوا أن الدين يمليه عليهم.
ولم يكن يري في ألفاظ كالديقراطي أو العالم أو الإنسانية أو الحرية أو التحرر أو حقوق الإنسان مدلولات جوفاء وإنما كانت هذه الألفاظ عنده مقومات الإيمان . ولقد أعد العدة لأن بدافع عنها حرفاً حرفاً ، ولأن يجاهد في سبيل هذا الدفاع كما جاهد أجداده من قبل في سبيل الدين .
ولكم خاض من معارك وحروب !
وها هي ذي الباخرة تدنو من شاطئ أوروبا رويداً رويداً فتتضح معالم هذا الشاطئ ، ويري نفسه وقد اقترب من الأرض التى سيواجه فيها القضية الفاصلة . وتقلصت عضلات وجهه دون وهي . لقد صمم أن يدافع عن النظام الجديد "في رفق إن أمكن وفي غاية العنف إذا كان لابد من ذلك " .
ولكن الصلابة فارقت هذا الوجه الذي سددت عيناه نحو الشاطئ البعيد . وبينما كانت الباخرة تدخل الميناء دوت المدافع ورفرفت الأعلام تحية له . ولم تكن تلك تحية رسمية لرئيس الولايات المتحدة باعتباره رئيس دولة خليفة ، كلا لقد انبعثت من الجماهير على الشاطئ هتافات داوية تعبر عن أكثر من مجرد استقبال مرسوم منظم وتصور أكثر من ابتهاج قد أعد إعداداً ، إن الذي حياء لم يكن إلا الحماس المتدفق من قلب الجماهير وروحها . ولما أخذ مكانه من القطار الذي انطلق به نحو العاصمة رفرفرت الأعلام على كل بلدة بل علي كل قرية بل على كل بيت وشعثت برفرفتها الآمال في كل مكان . ومدت الأيدي وإشرأبت الأعناق وانبعثت باسم ولسن الهتافات . ولما سارت سيارته في طريق الشانزيليزيه تدفق الحماس المتقد من الجانبين من الجدران التي أصبحت حية بما تكدس عليها من كتل بشرية ، إن أهل باريس ، إن أهل فرنسا - وهم يمثلون أهل أوروبا البعيدين - كلهم كانوا يصرخون ويهتفون صائحين مهللين فرحين نغمرهم عاصفة من التلهف والأمل . وتراخت عضلات وجه ولسن وهدأت ، وأفتر ثغره عن ابتسامة سمحة طلقة سعيدة . ولوح بقيمته يمنة ويسرة كأنما يريد أن يصافح الجماهير فرداً فرداً ، إنه يريد أن يحيي العالم . لقد أصلب بلا شك في أنه حضر إلي هنا بنفسه ، إن الإرادة
الحية هي وحدها التى تستطيع أن تقهر صرامة القانون وصلابته . كيف يمكن أن يفشل في أن يحقق لهذا البلد السعيد بل لهذه الجماهير المتهللة فرحا آمالها في الحاضر والمستقبل ، إنه أن يستريح أكثر الليل وفي غد سيذهب إلى العمل ليهيء للعالم السلم والأمن اللذين حلم بهما آلاف السنين . وهكذا سيتاح له أن يقوم بعمل لم يصل الإنسان بعد ما قام به من أعمال ، إلى أن يقوم بما بدانيه جلالا وعظمة .
واحتشد رجال الصحافة ، وهم وحدهم جيش أي جيش ، في قلق وشوق أمام القصر الذي أعدته الحكومة الفرنسية لإقامة الرئيس ولسن وأمام فندق "كربون" حيث نزل ممثلو أمريكا في المؤتمر . وكان منهم مائة وخمسون صحفيا آتين من أمريكا وحدها ، وأرسلت كل مدينة هامة مندوبي صحفها حتى لم تبق مدينة على وجه الأرض لم تمثل صحافتها . وكان هؤلاء الفرسان ، فرسان القلم ، يلحون في طلب البطاقات التي تبيح لهم حضور كل جلسة من جلسات مؤتمر الصلح . نعم كل جلسة من جلساته . ألم يضمنوا للعالم بشرط العلانية في المؤتمر ؟ ألم يؤكدوا له أنه لن تكون في هذه المرة جلسات سرية ولا اجتماعات خفية ؟ إن أول شرط من شروط ولسن الأربعة عشر بنص صراحة علي هذه العلانية ، بنص على أن جلسات المؤتمر " جلسات يتفق فيها في صراحة مكشوفة على السلم ، ولن يكون بعد ذلك أي اتفاق تنفرد بعض الدول لعقده فيما بينها " . إن وباء المعاهدات السرية الذي قتل من البشر أكثر مما قتلت منهم كل أوبئة الأمراض مجتمعة لابد من إبادته نهائيا . وهذا مصل ولسن الواقي الجديد . مصل السياسة الصريحة الكشوفة.
ولكن أمل رجال الصحافة القلقون قد خاب . لقد
صادفهم من بشائر التحفظ والتكلم مالا يستطيعون قهره . نعم ستحضرون الجلسات الكبرى كلكم ، بل إن محاضر هذه الجلسات العلنية (التي ستكون قد طهرت من قبل من كل ما يمكن أن يكون هناك من توتر) ستعلن على العالم أجمع ، أما الآن فليس ثمت معلومات جديدة ، يمكن أن يدلي بها إليهم ، إن خطة سير المؤتمر لابد من أن ترسم أولا
لم يكن يد لرجال الصحافة المتحمسين من أن يدركوا أن شيئا ليس على ما يرام بدور خلف الستار . إن خطة السير كانت ترسم بلا شك . ولكن منذ الشروع حتى في هذا أدرك الرئيس ولسن مما بدأ به ممثلو الدول الكبرى كلامهم أن الخلفاء في الواقع عصبة عليه . إنهم لم يكونوا يريدون العمل الصريح المكشوف . ولهم الحق كل الحق . لقد كانت هناك في ملفات كل أمة من الأمم المتحاربة وفي خبايا سجلاتها معاهدات سرية تضمن لكل منها أنها ستحظى بنصيب عدل من غناثم الحرب . إن هناك بلا ريب كثيراً من الفضائح والمخازي يجب أن تطهر أولا ولا يجوز لهذا التطهير أن يكون معلوما ، بل إنه حرصا على سمعة المؤتمر نفسه لابد من البدء بمناقشة هذه الموضوعات أولا ليتم تطهير مبدئي خلف الستار ثم ظهرت إلي جانب ذلك خلافات أعنف من مجرد الاختلاف حول خطة السير وأعمق . إن كل فريق ، الأمريكيين من جهة والأوروبيين من جهة أخرى ، كان متجانسا متفاهما فيما بينه وبين نفسه على ما يريد فعلا ، إن المؤتمر سيعقد سلمين لا سلماً واحداً . سلماً عجلا مؤقتا لإنهاء الحرب مع الألمان ، وقد سلموا وألقوا السلاح؛
وسلما عويصا معقداً يراد له أن يكون أبديا ، سليما يراد به أن تصبح الحرب بين الأمم مستحيلة إلى الأبد . أما السلم المؤقت فلم يكن بد من أن يكون قاسياً حازما لا هوادة فيه كسائر ما عرف التاريخ من سلم في مثل هذه الظروف وأما السلم الأبدي فإنه يدع ليس للتاريخ به عهد . ولكن بأيهما يبدأ ؛
هنا اختلف الفريقان اختلافاً حاراً واضحاً . فالرئيس ولسن لم يكن معنيا بالسلم المؤقت . إن إقامة الحدود الجديدة بين الأمم وفرض غرامات الحرب وتقدير نفقات التعمير الجديد ، إن هذه كلها أمور ، فيما يري ، من شأن اللجان والفنيين أن يبعثوا في أمرها بشرط أن يكون ذلك وفقا للأسس التي وضعها ونص عليها في الشروط الأربعة عشر .
ولكنها أمور تافهة لا شأن له بها وهي من اختصاص المختصين وحدهم . أما قادة الأمم وساستها فقد كان عليهم عبء من نوع آخر - عبء الخلق والبعث والتعمير ومحو الحدود بين الأمم جميعا لا تحديدها وجعل العالم وحدة متماسكة تكون الأساس لتشييد السلم الدائم .
واقتنع كل فريق اقتناعا تاما بالحاجة الماسة إلي الإسراع في عقد السلم الذي يريده أن يكون أولا . وصمم الخلفاء الأوروبيون ، وهم على حق في أن يصمموا ، على أنه من المستحيل أن يظل العالم ينتظر شهوراً أخري ليعرف شروط الصلح وقد أنهكته أربع سنوات من الحرب واستنزفت دمه . إن انتظاراً كهذا يقود إلي الخراب والفوضي في أوروبا كلها . ولابد من أن تحل الأمور المستعجلة أولا . فالحدود يجب أن تحدد والإصلاحات يجب أن تبين وتوضح ، والمجندون الذين مازالوا تحت السلاح يجب أن يسرحوا ليعودوا إلي أهلهم ووطنهم ، والعملة يجب أن تثبت ، والتجارة والمواصلات وكل مرافق الحياة يجب أن تعود سيرتها الأولى . وبعد هذا بعد أن ينصلح شأن العالم يمكن للسراب - سراب المشاريع الوسامية - أن يشع نوره على العالم في اطمئنان وهدوء . وكما كان ولسن لا يحفل في الواقع بالسلم المؤقت المعجل فكذلك كان كليمنصو ولو بدجورج وسونينو وهم المحنكون المجربون والساسة البارعون لا يحفلون كثيرا هم أيضا بما كان يصبو إليه ولسن . لقد وزنوا وجهات النظر السياسية وقدروها من جهة ، وأحسوا بما أحس به العالم من تطلع وشوق إلي تحقيق هذه المطالب الإنسانية من جهة
أخري فلم يسمعهم إلا أن يعلنوا انهم موافقون إجمالا على مشروع عصبة الأمم . وهل كانوا يستطيعون غير ذلك بعد أن هزتهم - أدركوا ذلك أم لم يدركوه - قوة الإيمان بالمبادئ الإنسانية التي انفجر جا قلب الشعب في أممهم المختلفة . لذلك قالوا إنهم على استعداد لأن يناقشوا المشروع ولكن بشرط أن يلطفوا منه قليلا ويعدلوا فيه بعض تعديلات معينة ، أما الآن فإنهاء شروط الصلح مع ألمانيا واجب أولا لإنها ، هذه الحرب . وبعد ذلك ، وليس قبله بحال من الأحوال ، يصبح الكلام في الميثاق ممكنا معقولا .
