قال لي صاحبى ليعلم ما بى . مالك كأن أمرا ذا بال استقل بك عن دنيا الناس ؟ قلت : صدقت فراستك ياصاحبى على ندرة ما تصدق ، فقد انفجرت الهوة بينى وبين دنيا الناس وأصبحت مشغولا بتوافه المخلوقات فى دنيا الصراصير .. وهذه الطائفة من هوام الأرض هينة ضئيلة الخطر ؛ لأنها تألف باملاءطبعها عليها ، ودفع تكوينها لها ( الجدار ) المتداعى من ( بيتك ) الذى يريد أن ينقض وتريد أنت أن تقيمه فلا تريد له هذه ( الصراصير ) بقاء أو سلامة ، هى جادة فى عبثها وأنت جاد فى حذرك منها والهزيمة على البائس منكما .
ومن فلسفة الحياة أحيانا أن تقذف ( السوس ) فى لفائف العود الباكر فاما أن يتقصف أو يستطيل على الريح
ومن فلسفتها كذلك أن تحزم عزمة الضارى الكاسر وتشد وثاقه وتطلق عليه ( الفيران ) تلتطم بجبهته وتتساقط حواليها . ولن تظفر بعد ذلك منه بغير تثاؤب طويل .
أعود بك ياصاحبى لقصة الصراصير . . . فهى فى
فلسفتها ليست بأقل شأنا من فلسفة ( السوس ) مع العود الباكر أو جماعة ( الفيران ) مع الضارى الكاسر . وما إخالك تستريح للاسترسال فى اكتناء اسرار هذا الفريق الآخر من فلاسفة المجتمع .
أعود فأقول لك إنك إن يئست من اتقاء شر هذه ( الحشرات ) فأنت مقدم بذلك كافة جدران بيتك هدية لفتكها وعملها الخبيث .
هى مولعة أن تأكل اللبنات الطيبة ، فان لم تجد جدارا تقوى عليه انقلبت بعدو بعضها على بعض فتتآ كل وتفنى ، والموقف منها ذو حيلتين : إما أن تقيم معها على الضيم الرخيص وفى ذلك اعتراف بها وتقويم لوجودها ، وفيه أخيرا تشجيع لها لتقضى على سنتها التى درجت عليها من الاختلاف إلى كل جدار تتكاثر فى قاعدته ثم تتسرب جماعاتها فى تجاليدها المظلمة تكد وتجهد ، حتى يتطامن الجدار ويصبح كله قاعدة . . . فاذا البيت لا يصلح إلا لهذه الصراصير . وحيلتك الثانية معها أن تنزح وتتركها فى الزوايا المظلمة تعبث وتلهو ، وتجنب نفسك بذلك فضل إحساسها بشعورك بها . فانتفض صاحبى قائلا : أو ترضى يا أخى أن تهزم وتنتصر الصراصير ؟ ؟ - قلت . . هى على كلتا الحالين منتصرة طالما تعوز رب البيت وسائل التطهير
ثم أنسيت أنت قول الرجل العربى : خير لنا أن تغلبنا قضاعة من أن نغلب قضاعة ؟ قال : وما قصة قضاعة هذه؟ قلت : هى قصة تلخص فلسفة مجتمع مضى كان صريحا واضحا ... تربى فى كنف فلاسفة الرجال ، ولم يتلق تعاليمه ونظمه الاجتماعية من فلاسفة الصراصير ، تلك الطائفة الحائرة المحيرة . . . فاطمأن صاحبى فى جلسته وأخذ بفرك جبهته بأنامله قائلا : بدأت أفهم يا أخى - فقلت : وأنا بدأت أفكر فى إدخارك لحديث آخر يكون كله مفهوما . أعرض لك فيه صورا ناصعة لطراز آخر من فلاسفة المجتمع الحديث .
