الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 234الرجوع إلى "الرسالة"

فلسفة التربية، كما يراها فلاسفة الغرب

Share

-  ٤ -

جولة في أغراض التربية

أوردت لك فيما سبق تفسير الفلسفة للتربية، وكشفت عما  بينهما من علاقة، وأبنت ضرورة الأولى للثانية، ثم تناولت الثانية  ذاتها ببعض الشرح والتحديد. وأحب اليوم أن أجول بك في  (أغراض)  هذه (العملية الكبرى) التي اصطلحنا على تسميتها  بالتربية والتعليم!

لِمَ يتعلم الناس؟ وفيم تقام لهم هذه المدارس وتلك الجامعات  التي تنفق فيها الجهود الطائلة والأموال الجسيمة؟ أظنك قد  أصبحت ترى معي أن من حق الفلسفة بل من واجبها أن تناقش  ما عسى أن يكون لهذه  (العملية الكبرى) من أغراض، علها  تستطيع أن تهدينا إلى  (الغرض الأسمى) !

والحق أنه إن لم يكن للتربية غرض واضح محدود صريح  فإن عمليتها لا تعدو أن تكون ضرباً في الهواء مصيره الفشل  المحتوم!؛ ولما كانت حياة  (الأفراد) على ظهر الأرض واحدة  لا رجعة لها ولا تكرار؛ ولما كانت (التربية)  هي الأداة التي  تعدنا لهذه الحياة الواحدة القصيرة، فإنه لا شك في ضرورة (إيجاد)  ذلك (الغرض الأسمى)  الذي نستطيع به - وبه  وحده - أن نستغل   (العمر)  إلى أبعد حدود الأستغلال، وأن  نتمتع به إلى أقصى وأرفع حدود التمتع

ولكنك تعلم أن الفلسفة حينما تعرض لمثل هذا  (المشكل)   لا تستطيع أن تنجو من ذلك (التباين) الهائل الذي يبدو في  أغلب مذاهبها

يقول الأستاذ بولزن paulsen في أسلوب عذب رشيق ( 1 )  (يريد المرء أن يلعب ويتعلم، وأن يعمل ويكتسب، وأن يملك وينعم،

وأن يكون ويخلق، وأن يحب ويعجب، وأن يطيع ويحكم،  وأن يجاهد ويفوز، وأن يردد الشعر ويحلم، وأن يفكر ويبحث  وأن يجرب علاقة الابن بأبيه، والتلميذ بأستاذه، والخادم بسيده،  وأن يعيش قنوعاً؛ أخا بين أخوة، وصديقاً بين أصدقاء، وزميلاً  بين زملاء، ومواطناً بين مواطنين، وحبيباً وعدواً، وزوجاً  ووالداً ومربياً؛ كل ذلك على نحو طبيعي خاص؛ فإذا ما تحقق  له ذلك شعر أن حياته قد كملت، وأنتظر النهاية الأخيرة برضا ( .وارتياح، لأنه سيلحق بعدها بآبائه وأجداده (1)

وأنت ترى أن ذلك الغرض طويل غير محمل وإن كان صحيحاً  في كل أجزائه، وأنه يرمي إلى تكوين الفرد الاجتماعي الناجح  السعيد.

ويقول فيخته fichite ( 2 )  (إن غرض التربية هو تكوين  الوطني العارف بحقوق الوطن وواجباته) . ولكن من ذا يستطيع  أن يحصر الحياة في دائرة الوطنية فحسب؟ أليست الوطنية إحدى  نواحي الحياة الشاملة الفسيحة؟

ويقول هربارت ( 3)  (إن غرض التربية هو تكوين إنسان  عارف بحقوق الإنسانية؛ وإن غايتها القصوى هي اكتساب  الفضائل والتحلي بمكارم الأخلاق) . ولكن ترى ما هي حقوق  الإنسانية التي يتركها لنا هربارت غامضة من غير ما تفسير؟  وإذا كانت الأخلاق هي غاية التربية القصوى، فأين يقع    (التفكير الخالص)  من هذه الغاية وقد وضعه (ارسطو)   فوق جميع الغايات عندما ينصب على أسمى موضوعات التفكير  وهو الله؟

ويقول ديوي  dewey (إن غرض التربية الأسمى هو  النمو ( 4 )  ولكن ما معنى النمو وما مقياسه المضبوط؟ يلمس    (ديوي)  بنفسه ذلك الغموض ويرسم لنا مثلاً أعلى   (للإنسان  النامي)  فإذا هو   (كائن ذو عادات بصيرة حساسة بعيدة النظر  خاضعة لمسئوليات أكثر) . وذلك قول جامع ولكنه لا يخلو  مع ذلك من غموض. . .

ويقول الأستاذ ريدجر Rudeiger (5) (تلائم التربية بين

الفرد وبين عناصر البيئة المعترف بها في الحياة الحديثة، وهي  تعمل على تنمية وترتيب وتدريب قواه حتى تصبح ذات   (فاعلية)   مشروعة النفع) وذلك أيضاً قول دقيق لولا ما قد ينتاب   (هذه  الملاءمة)  من القضاء على روح الثورة في الناشئ. تلك الثورة  التي نريدها منه كلما رأى ما هو جدير بها في حياة المجتمع

ويقول الأستاذ تورندايك (إن أقصى غايات التربية هو  غرس رغبة   (الخير)  وتكوين القدرة على الحياة السعيدة والمتعة  النبيلة البريئة) ولكن ترى ما هي الحياة السعيدة ذات المتعة  النبيلة البريئة؟ أما نحتاج هنا لتحديدهما؟

أما   (سبنسر)  فيلسوف التطور فيقول   (إن غاية التربية  هي أولا وقبل كل شيء حفظ الحياة) . ولكن من الثابت  الواضح أن   (حفظ الحياة)  وسيلة وليس بغاية؛ إذ في سبيل أي شيء نحفظها؟ يقول سبنسر نفسه:   (إن واجب التربية هو  الأعداد للحياة بأوسع معانيها. وأهم ما في الحياة هو الحكم  الصائب في كل الاتجاهات وجميع الظروف، ثم تربية الجسم  والعقل، ثم الإعداد للعائلة والسعادة والوطن وخدمة المجتمع)   وذلك كلام له وجاهته الخاصة دون ما شك. ولكن ألسنا نرى فيه  إغفالا أو شبه إغفال لناحية الشعور بما فيه الدين؟

ويبسط لنا الأستاذ ريدجر Rudeiger غرض الملاءمة  الآنف في فصل طريف فحواه الحياة بالعقل والروح ثم بالجسد  في جو خلقي دائب التجدد، يقوم فيه الدين إلى جانب الفن،  ويتسلط فيه الإنسان تسلطاً عاقلاً على البيئة، شاعراً أنها وطنه  الذي يجد فيه المتعة العقلية والفنية، منتفعاً في نفس الوقت بكل  ما فيها مما يفهمه ويقدره

أما الأستاذ angel فيقول إن غرض التربية   (هو النمو  المتشابه لقوى الفرد)  وذلك قول له طرافة من الناحية النفسية  التي تطالبنا بإيجاد التوازن بين قوانا بحيث لا يطغي فيها العقل  على العاطفة، أو العاطفة على العقل( 1 ) ، ولكنه لا يزال بعد مفتقراً  إلى (تشريع)  يوجه هذا النمو المتشابه به في نواحيه المنشودة

وأما أبناء العم سام فأغراض التربية عندهم هي: (١)  عضوية الأسرة الناجحة   (٢)  المهنة الموفقة   (٣)  الفراغ الممتع    (٤)  التمدن العاقل   (٥)  الصحة الحسنة   (٦)  المعاملات الطبية

ولكن واضح أن ذلك المستوى شعبي بحت لا يتناول   (الفكر  الراقي)  كما ينبغي أن يتناوله

وتلك كما ترى آراء كثيرة توسع من مدى فكرنا وإن كانت  لا تقف به عند رأي حازم جازم لأن طبيعة   (الغاية الأخيرة)   ذاتها تتطلب ذلك الخلاف مادام أن الأفراد أنفسهم هم الذين  يتناولونها بالبسط والتحديد لأنها غايتهم. ويشعر الأستاذ  ديوي نفسه بصعوبة الموقف فيقول:   (ليس للتربية غاية  أو غرض خاص، ولذلك يجب أن نأخذ في حسابنا نشاط من  يراد تعليمهم وحاجاتهم الطبيعية والاكتسابية عندما نحدد للتربية  والتعليم أغراضهما)

ويعقب الأستاذ يعقوب فام على هذا الرأي بقوله: (1 )     (ليس التعليم منفصلاً عن الحياة حتى يقال إنه وسيلة لها، بل  هو والحياة أمر واحد)  ومعنى ذلك أن غاية التربية هي هي غاية  الحياة. فترى ماذا عسى أن تكون تلك الغاية؟ أهي ذلك الثالوث  الأقدس الذي ينادي به الأستاذ فيكتور كوزن في كتابه الطريف ( 2 )  ثالوث الخير والحق والجمال؟ أم هي   (التفكير الخالص) في أسمى  موضوعات التفكير كما يقول أرسطو؟

ومهما يكن من شيء فإن الأستاذ   (ديوي)  يعطينا مقياساً  طريفاً نطبقه على الأغراض   (المطروحة)  لنختبرها به وهو:    (١)  قيام الغرض على الظروف الراهنة   (٢)  وقدرته على القيادة  والمرونة   (٣)  والاتفاق التام بينه وبين الوسيلة. ثم هو يعطينا  مقياساً آخر نقيس به مواد الدراسة هو   (درجة وطريقة ما تجلبه  على الطالب من شعور بيئته الاجتماعية، وما تمده من قدرة يفسر  بها قواه الخاصة من ناحية قابليتها لخدمة المجتمع)  ويفسر لنا  الأستاذ (باجلي)  مدى هذه (القابلية)  بقوله: (إنها تتضمن  أن يكون المرء فاعلاً في المجتمع منتجاً أو مرشداً الناس إلى  الإنتاج، متدخلاً في مجهودات الآخرين بأخلاقه الصالحة، عاملاً  على تكميل القوى الاجتماعية أي إنجاح الجماعة)  ويعزز الأستاذ  ديوي نفسه ذلك الرأي بقوله:   (أعتقد أن كل تربية يجب أن  ترمي إلى مشاركة الفرد في الوجدان الاجتماعي)

ولا بأس من أن نختم هذا الفصل بقول الأستاذ kerschensteiner ( 1 ) وهو:   (أننا لا نستطيع أن نحصر  أغراض التربية في غرض واحد، وكل ما هنالك أن التربية يجب  أن تشمل الإبقاء على الماضي إبقاء لا يستر عيوبه ولا يعمينا عن  خيرات الحاضر، ثم الوقوف على الأزمنة والبيئات والطبقات  المختلفة حتى نوسع من مدى اتصال الناس بعضهم ببعض، ثم تمدين  ومحو الوحشية من بينهم، أي انتشال العقول من الأدوية المظلمة،  والعواطف من الغرائز الحيوانية، ثم غربلة الناشئين وتوجيه كل  منهم إلى الطريق الذي يتفق وميوله الخاصة حتى يبلغ أقصى ما هو  كفء له، ثم غرس العادات الحسنة من غير استبعاد الناشئ لها)

وبعد، فماذا تريد أن أقول؟ وأي الأغراض تحب أن أزجيها  إليك؟

أليس من الخير أن نترك هذا الباب مفتوحاً لرجال التربية  في الشرق، كما يدلوا فيه بآرائهم السديدة، ويرسموا لنا تلك  (الغاية الأخيرة)  التي يجب أن ينشدها الشرق في تربيته على  الخصوص؟

ثم أنت ترى المعاهد في مصر كثيرة والخريجين أكثر،  فهل تستطيع أن تتبين وراء تلك المعاهد (غرضاً واضحاً محدوداً)   وهل تستطيع أن تتلمس (الطريقة)  التي يحقق بها هذا الغرض  وما عسى أن يكون فيها من ضعف وقوة؟ أحب أن تفكر في هذا قليلاً. لا، بل كثيراً

(شبرا)

اشترك في نشرتنا البريدية