سألت الاستاذ مصطفى الرافعي , لماذا لا يكتب فى القصة ولماذا يخلو أدبه منها ؟
- فاجاب :
(لم اكتب فى القصة إلا قليلا، إذا أنت أردت الطريقة الكتابية المصطلح على تسميتها بهذا الأسم، ولكني مع ذلك لا أراني وضعت كل كتبي ومقالاتي إلا فى قصة بعينها، هى قصة هذا العقل الذى فى رأسي، وهذا القلب الذى بين جنبي.
(شاع أدب القصة فى اوربا، وطغى عندهم على المقالة، والكتاب وديوان الشعر جميعا، فقام عندنا المتابعون فى الرأي، والمقلدون فى الهوى، والضعفاء بطبيعة التقليد والمتابعة - قاموا يدعون إلى هذا الفن من الكتابة، ولا يرون من لا يكتب فيه إلا مدبرا عن عصره وأدب عصره. ولا جرم إذا كانوا هم أنفسهم مدبرين عن الحقيقة ومعنى الحقيقة. وأنت متى كان وجهك إلى الباطل وظهرك إلى الحق، فمهما تتقدم فى رأي نفسك فإنما تتأخر فى رأي الحق، وكلما قطعت إلى غايتك رأيت الذى وراءك مختلفا متراجعا بمقدار ما أبعدت كأنه فى أمس، وكأنك فى عد، ولا يوم بينكما يجمع منكما ما تفرق.
(أنا لا اعبأ بالمظاهر والأعراض التي يأتي يوم وينسخها يوم آخر. والقبلة التي اتجه إليها الأدب إنما هى النفس الشرقية فى دينها وفضائلها، فلا اكتب ما يبعثها حية ويزيد فى حياتها وسمو غايتها، ويمكن لفضائلها وخصائصها فى الحياة، ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا - ثم انه يخيل إلى دائما أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه، فأنا أبدا فى موقف الجيش (تحت السلاح) له ما يعانيه وما يكلفه وما يحاوله ويفي به وما يتحاماه ويتحفظ فيه، وتاريخ نصره وهزيمته فى أعماله دون سواها. وكيف اعترضت الجيش رأيته فن نفسه، لا فنك أنت
ولا فن سواك، إذ هو لطريقته وغايته وما يتأدى به للحياة والتاريخ , وقد عابني مرة أحد الكتاب بأني (لا اكتب فى الدراما)
فلو أن هذا الكاتب وقف على شاطئ المحيط وجعل يتهكم بالأسطول الإنجليزي فيزري عليه انه ليس شيوعيا ولا بلشفيا، فما عسى أن يقول الأسطول إذا هو أجابه إلا أن يقول شيئا كهذا : تبارك من صنع هذا الإنسان مدفع لحم لإطلاق الكلام الفارغ.
( أنا من اجل ذلك لا أزال إلى الآن مع الأدب العربي فى فنه وبيانه اكثر مما أنا مع الحكاية ولغتها وعواطفها، فأكبر عملي إضافة إلى الصور الفكرية الجميلة إلى أدبنا وبياننا متحاشيا جهد الطاقة أن أنقل إلى كتابي دواب الأرض أو دواب الناس أو دواب الحوادث، فان الكتب ليست شيئا غير طبائع كتابها تعمل فيمن يقرؤها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها. والرواية إذا وضعها كاتب فاجر، فهي عندي ليست رواية بل هى عمل يجب أن يسمى فى قانون العقوبات (فجورا بالكتابة) .
(أن اكثر ما تراه من القصص، وبخاصة هذه التي غمرت الكتابة عندنا - إنما هى صناعة لهو، ومسلاة فراغ، وهذا قد يكون له وجه فى علاج الحياة العملية، وفي تخفيف حطمة الاجتماع فى أوربا وأمريكا، ولكن ما موضعه عندنا فى الشرق، والشرق إنما تعمل فى نهضته لمعالجة اللهو الذى جعل نصف وجوده السياسي عدما، ولملء الفراغ الذى جعل نصف الحياة الإنسانية موتا؟ هذا الضرب من القصة هو لرجالنا ونسائنا إذا قراؤه وتلهو به أشبه بإدخال أولئك الرجال والنساء - إدخالهم وإدخالهن على الكبر - فى مدارس رياض الأطفال..
(الأطفال يستلذون الحكاية بالفطرة لأنها تجيئهم بالدنيا التي يعسر أن يذهبوا إليها أو يغامروا فيها، وتهيئ لهم أن يشعروا خيالهم قوة الخلق فتكون لذتهم على مقدار من بعد هذه الدنيا عنهم وعلى مقدار مثله من طبيعة العجز فى خيالهم، وهذا الضعف فى الناحيتين هو بعينه الذى يجعل لأكثر القصص شأنا عند سخفاء الناس وفراغهم، وأهل الحمق فيهم، يسعرهم شهوات وخيالات وأوهاما من الباطل، فذلك أذن ليس أدبا يكتب ويقرأ، بل هو بلاء اجتماعي يطبع ويوزع فى الناس ...
ألا ترى أن تلك الروايات توضع قصما , ثم تقرأ فتبق قصصا ؟ وإن هى صنعت شيئا فى قراتها لم تزد على ما تفعل المخدرات
تكون مسكنات عصبة إلى حين : ثم تنقلب هي بنفسها بعد قليل إلى مهيجات عصبية !؟
وأنا لا أنكر أن فى القصة أدبا عاليا، ولكن هذا الأدب الغالي فى رأيي لا يكون إلا بأخذ الحوادث وتربيتها فى الرواية كما يربى الأطفال على أسلوب سواء فى العلم والفضيلة. فالقصة من هذه الناحية مدرسة لها قانون مسنون وطريق ممحصة، وغاية معينة، ولا ينبغي أن يتناولها غير الأفذاذ من فلاسفة الفكر الذين تنصبهم مواهبهم لإلقاء الكلمة الحاسمة فى المشكلة التي تثير الحياة أو تثيرها الحياة، والأعلام من فلاسفة البيان الذين رزقوا من أدبهم قوة الترجمة عما بين النفس الإنسانية والحياة، وما بين الحياة وموادها النفسية فى هؤلاء وهؤلاء، تتخيل الحياة فتبدع أجمل شعرها، وتتأمل فتخرج أسمى حكمتها، وتشرع فتضع اصح قوانينها.
(وأما من عداهم ممن يحترفون كتابة القصص فهم فى الأدب رعاع وهمج كان من اثر قصصهم ما يتخبط فيه العالم اليوم من فوضى الغرائز - هذه الفوضى الممقوتة التي لو حققتها فى النفوس لما رأيتها إلا عامية روحانية منحطة تتسكع فيها النفس مشردة فى طرق رذائلها
إذا قرأت الرواية الزائفة أحسست فى نفسك بأشياء بدأت تسفل، وإذا قرأت الرواية الصحيحة أدركت من نفسك أشياء بدأت تعلو. تنتهي الأولى فيك بأثرها السيئ، تبدأ الثانية منك بأثرها الطيب، وهذا عندي هو فرق ما بين فن القصة، وفن التلفيق القصصي!!
هذا هو رأي الأستاذ الرافعي ننشره على اصله، لينظر فيه الكثير من شبابنا الناشئين، الذين أقبلوا على كتابة القصة، لعل فيه ما ينفعهم ويفيدهم، ويمهد لهم سبيل الكمال فى إنتاجهم.

