الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 217الرجوع إلى "الثقافة"

فنان

Share

كان بيتهوفن فناناً في عصر بزخر بالفنانين ، وجباراً في معترك الجبابرة العصاميين . لكن أي فنان ؟ وأي جبار كان ! من شاء أن يلتمسه فوق هذه الأرض فلن يجده ، فقد جل عما كان في زمانه فوق هذه الأرض ؛ كذلك لم يكن بينه وبين هذه الأرض من صلة إلا صلة الظاهر بالظاهر ، وصلة الطين بالطين . لكنه فرق بين طين وطين ، فقد خلق بيتهوفن من طينة لا تنسجم مع طبقة البشر ، ومع معظم ما ركب في الإنسان إن صح أن معظم ما ركب فيه من عناصر الشر .

موسيقى بتهوفن هي لسانه والجنان . كان في حماسته يرسل النغمة إلى كل ناحية ، ثم يتبعها ويتعقبها ويسترجعها في لهفة ؛ ثم إذا هي تولي وتختفي في غمرة من الانفعالات المختلفة ، فلا يزال وراءها حتى يقنصها من جديد ، في شغف جديد ؛ فلا يتخلى بعدئــذ عنها ، بل يضاعفها في فرح داهم ، ويموجها تمويجا شاملا ، ويظفر منها بالفكرة الموسيقية الأولى ، ويبني عليها السيمفوني .

هكذا قال بيتهوفن أو زعموا أنه قال ؛ فإذا ما سواها معزوفة كاملة كانت " سبيل الحواس إلي الحياة الروحية ، والمدخل الروحي الوحيد إلي دنيا من العلم أسمي من عوالمه . والموسيقي تحيط بالإنسان ، ويعجز الإنسان عن أن                                                                         يحيط بها . "

رأته بيتينا برنتاتو  Bettina Brentano   الكاتبة الرومانية الشهيرة وصديقة جوبته ؛ رأت هذا الذهن الجبار يقود فرقته ، فلم تر " لأمبراطور أو ملك مثل شعور بيتهوفن بسلطانه ، ومثل جماع القوة الصادرة عنه ؛ فقد كان يقف راسخ التصميم ، نطالع كمال معزوقته في حركاته وملامحه ، فلا سبيل لخطأ إلي شئ من تأليفه .

ولا لسوء الفهم ، فكل شئ يؤدي بفضل حضور ذهنه العجيب أكمل أداء . "

وجلس جوبته في نهار عيد من أعياد ميلاده وحده في ركن مظلم من قاعة في بيته ، جلس يستمع قبل الظهر إلي فنان يعزف له على البيان قطعاً مما لحن الملحون العظام ، عصرا عصرا ، فلما جاء درو بيتهوفن أبى أن يسمع له شيئا ، فاستكبرها الفنان ولم يحفل بمعارضته ، وعزف له القطعة الأولى من سيمفوني C.mo!! فأثرت فيه تأثيراً بالغاً . وفرغ الفنان من العزف ، ونهضا إلي المائدة ، وجوبته لا يفتأ من تأثره يقول . " هذا عظيم جدا ! هذا مذهل حقا ! ألا إنه ليعروني الخوف من أن يندك على البيت دكا ! "

فما هي هذه الموسيقي الرائعة المروعة التي عرا الخوف منها شيخ الشعراء الهادئ الرصين ؟ وما هي العوامل التي تخللتها ، وقررتها ، وكانت علما عليها ؟ وكيف كانت هذه الوسيقي في مبدئها هنيئة حنونا ، فعاصفة متدفقة ، فملهمة ، فمجلوة ، مجردة ، أثيرية ، زاهدة ؟ ! وكيف هي أحيانا جهمة ، مرعبة ، فكأنـها فولاذ يفل فولاذاً ، وكأنها شيطان يجالد الشيطان ؟ !

نفس بيتهوفن ؟ فنفسه هي هذا كله ؛ وموسيقاه كلها تعبير عما دار في نفسه ، ومرآة لما اختلج في صدره واعتلج وجاش . وقد عرف بيتهوفن الحب ، وكان يستلهم مصدرين فياضين هما الشقاء والسماء ، وكان بهذا نقيا نقيا ؛ عزف عن مشاكل العشق ، فوسيقاء تتنفس في الحب سموا خليقا ، وتبث حنينا علويا .

كان حبه طاهراً ، هيابًا ، مكبوتاً ، وكان مكيناً مشهوبًا ، وكان نجماً هاديًا ونبعاً متفجراً . و "السنانا المقمرة " ، التي لحنها في فتوته ، مثال لهذا الحب ، وقصة لهذه النفس حالمة مترسلة حزينة ؛ مرغبة مزيدة منفعلة .

متقصدة ؛ تشيع فيها كآبة لا تعرف العزاء ولا يوانيها الرجاء .

كانت نفسه تشتجر بشعورين نحو أمرأتين ، إحداهما صنيعة الفن ، والأخري من صنع الله ؛ وانتصرت العروس الملهمة ، وانتصرت الحبيبة الخالدة ، فعاهدته على الوفاء والبقاء ، فلم تتزوج بل وهبت نفسها للسماء ، واندمج العروسان في شخص واحد ، لأنه لا مناص منهما في فنه متحدتين متفانيتين .

وقد كان بيتهوفن إلي قبيل الثلاثين ، وقبيل الصمم ، تشع من موسيقاه هناءة المرح البريء على قتام الحياة ، فلما جاوز الثلاثين ، واستبد به الصمم ، ضرب حول هذا المرح نطاقا ، وصفي الحساب مع ماضيه ، وانطلق إلي أجواء نائية تريد أن تكشف ، وانفرد بمأساته فجالد من أجلها القدر وكاد أن يكفر ؛ لكنه خرج من جلاده ثابت الجنان ، قوي الإيمان يمجد الديان . ومن كان يعيش على هدي الفضيلة لا يجالد القدر عبثاً ، ولو باء في نظر الناس بالخسران .

فقد حانت الساعة التي أدرك فيها المعلم أن في هذا التصرف الذي جري به القدر ولم يجد له معني - أن في هذا التصرف معنى أسمي مما ظن ، فإنه يتوجه به وجهة أخري ، وتتحول المأساة تحولا جديداً ، فما خاله لعنة يضحي بركة ، وما بذل فيه وضحي وتألم يبيت بهذا البذل أغلي وأعظم . وقد كان ساخطاً يتحدى الأقدار ، وكانت نفسه حالكة  كالحة ، فتجنب واحتجب ، لكنه أكمل في العزلة ذهنيته ، وشق الطريق إلي أعوص الفلسفات ، واهتدي إلي رحمة الله .

يريد هذا كله أن يكون موسيقى تتفجر بها نفسه ، فقد كان " القدر يطرق الباب ..." وكان المعلم يستأذن علي الموت حين كتب وصيته هيلجنشات في الثانية والثلاثين . كان الدق المتواصل ، والمقريت النازل بأذنيه ، والتصدع الملم بنفسه ، والروح التي اعتصرتها المأساة ، ثم فضل الله

الذي أناه بالرضي والأستسلام ، لاتني جميعها عن شغله ، لأنها تريد أن تدخل دنيا الأنغام ، بعد إذ ضاقت بها دنيا الآلام ، فكانت أغنية الحياة الكاملة التي سمع جوبته مطلعها في السيمفونية الخامسة فعراه الخوف ، وخال البيت يندك عليه دكا .

واتجه بعد ذاك إلي ربه وملاذه فوجد الفرج في الدين ، وكأنما وجد فيه فيض اللانـهائية ، فنهل منه نهلة مما وراء المادة فأغنته كل الغناء في مواصلة البناء ، وأخرج صلاة C.Dier

وريفيته Pastorale ! نـهض لها المعلم يوما في نومه ولما تكد السحب الوردية الأولى تظهر في سماء البكور ، نهض وخرج ، وقبل أن يخرج صب الماء علي جسمه كعادته صباً ، وجري الماء علي الأرض كمألوفه هدراً ، وكان يصاحب هذه الضوضاء بقدميه وطئاً ، وبصوته غناء كالعواء . خرج بعد أن أيقظ أهل البيت يحمل رايته : قلمه الرصاص وكراسته ؛ فذهب يصعد بهما ربوة ، ويهبط وادياً ، ويطن كالنحلة نشيطاً ، يدخل نفقاً ، ويركب من الربي أعناقاً ، ويبلغ ذري ؛ ويراه الناس علي هذه الحال فيرون فيه رجلهم المعروف ، في المظهر المألوف وغير المألوف . وقد كان ماقبسه في هذه الجولات علي هذا المنوال يؤلف صورة وأشخاصاً في سيمفونيته الريفية أو الباستورال .

لا تحاول أن تصف لك موسيقى " الريفية " فهذا شيء لا يغني فيه الوصف غناء السماع ، ففيها فكاهته الخشنة ، وفيها غرام القرويين بالموسيقى النحاسية ، وفيها نشاز الزمارة وهذر المزمار ، وفيها رقص رقيق على نغمات الفالس لا يلبث أن يتحول إلي وطء وشديد للأرض بالأقدام ، وهتاف تتفتق منه الرئتان ، والفزع الذي يدب بعد ذلك إلي النفوس من دنو العاصفة ، والعاصفة التي تهب ، والرعد القاصف ، والبرق الخاطف ، واختلاط الأصوات ، وخلل الضربات ، وأخذ الضجة في الاستقرار ، والهبوب

في السكون ، والهدوء في الشمول ، وإفراخ الروع ، وحلول الصفو ، والتوجه إلي الله بالشكر ، والتأمل في صنيع الخلاق !

صورة أخاذة هزازة ، ليس ما يسمع فيها محاكاة ظاهرة للأصوات ، بل تصويراً نفسياً ، وفناً في التعبير عن المشاعر والإحساس بحالات الانبساط والانقباض في حياة الطبيعة وحياة الريف !

والمعلم يحب الطبيعة ويهنأ بها ، وهذا الحب وهذا الهناء بتبديان في معزوفته ويتجليان .

ويمجد بيتهوفن البطولة والحرية . قيل له لمح على الأصح إلي أن بونابرت ، وكان إذ ذاك قنصلا ، خليق أن يمجد في ألحانه ، فصادف الإيحاء هوي في نفسه ؛ وبونابرت قد سحر جويته فلم لا يسحر بيتهوفن ! ونترك أن يمجد وطني صميم غازي بلاده ، ومذل شعبه ، فلهذا حديث لاحق عن بواعث الفنان ؛ لكن بيتهوفن بضع سيمفونيته في سكون الريف ويتوجها باسم بونابرت و يمهرها بتوقيعة .

ويعلن البوق ظهور البطل ، وتعزف الموسيقي عزفا عاصفايعلن عزمه الذي لايهن ، وينشب صراع رهيب يتمثل في التفزز الهائل المنبعث من ضربات موسيقية قاسية ؛ ثم تخور قوي الجبار فتفتأ به التخيلات وتستغرقه التأملات والأحلام ، ثم يتنبه على صوت البوق ويستأنف النضال.

والبطل هنا يموت ، فتري في أناشيد الحداد صورته رائعة جليلة ، صاعدة إلي طباق الأبدية ، وتعزف الموسيقي " مارشا "مهيبا وئيدا ، وتقرع الطبول وتلعلع الأبواق ، ويدانيك عن كثب ندب وشهيق يتلاشي مع توقيع  "المارش " رويداً رويدا ، وتتخلله التنهدات ثم يسود

صمت رهيب ، فالأرض الآن خاوية بعد أوبة البطل إلي دار الخلود .

يطول بنا الكلام إذا نحن حاولنا أن نتقصى موسيقى بيتهوفن ويضيق المقام ، ولعله من الأنسب أن نجتزئ بهذا القدر ، وأن نختمه بكلمة للشاعر الروماني هوفمان ، الذي كتب عن سيمفوني المعلم وموسيقاه ما تعز فيه المداناة :

" تفتح لنا موسيقى بيتهوفن رهبوت الهول والغور . فتشع على هذا الرهبوت ساطعةً باهرةً ، تكشف عن أطياف هائلة تغدو وتروح ، وتفضح أشباحا مفزعة باطشة ، لكنها لا تذهب بتلك اللوعة المنبعثة من الحنين الفياض الذي تخبو فيه كل لذة مشبوبة صاخبة وتبيد ، وفي هذه اللوعة التي تلتهم الحب والرجاء والمسرة ولا تفنيها ، والتي تفجر الصدور بجماع الأصوات الكاملة المعبرة عن كافة الانفعالات ، في هذه اللوعة وهذا الألم نعيش على مرأي من الأشباح جد مغتبطين .

إن موسيقى بيتهوفن تحرك الخوف والرعدة والرعب والألم ، وتوقظ ذلك الحنين اللانـهائي الذي هو لب الرومانتيك ، فهو بذلك ملحن رومانتي صميم " .

اشترك في نشرتنا البريدية