الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 702الرجوع إلى "الثقافة"

فنجان قهوة مع :, الأستاذ عماد

Share

" مانحن ، ما الأيام ، وما الدنيا العريضة ما الأمل ؟ " لا شئ . . لكن هكذا بالعيش نغرى والعمل " " نبكى على الموتى كأنا قد خصصنا بالدوام " عماد

الأستاذ محمود عماد شاعر نابغة عرفه الأدب العربى منذ أربعين سنة ، وما زال يزود الأدب والشعر من حين إلى حين بقصائد ودرر . وقد رأيت أن أخرجه من عزلته وأن أقطع عليه صمته بحديث عن فنون الشعر ، لعله يفيد المتطلعين إلى أدبنا المعاصر والمقبلين على صناعة الشعر . وفى عصر يوم من

أيام الأسبوع الماضى توجهت إلى داره النائية وأقبلت عليه فإذا هو فى جلبابه الأبيض الفضفاض - وهو الرجل النحيل وإذا بصوته الهادىء المنقطع - وهو الرجل الصموت - يفضح ذاتا رقيقة شفافة كلها موسيقى ونغم منسكب .

سألته : إلى أى أحد راعيت فى صناعة الشعر أذواق طلابه وقرائه ؟ وهل كان للمجتمع أثر ما فى أعمالك الأدبية ؟

وهنا راغت عينه البراقة فى جنبات الحجرة كأنه يراها لأول مرة فى بيته وبدأ كلامه فقال : إنى إذا عمدت إلى نظم قصيدة

لا أراعى فى نظمها إلا التعبير الصادق عما يجيش بنفسى . وسواء لدى أفازت بعد ذلك برضا القراء أم لم تفز . وليس فى هذا تعال على المجتمع أو استهانة بأذواق الناس ، لأن الأصل فى الشعر أن يكون تنفيسا لشعور صاحبه . فهو ملك الشاعر وليس ملكا لسواه . على أن هذا لا يمنع أن يأتى شعور الشاعر فى بعض قصائده متفقا مع شعور المجتمع فتجئ معبرة عن رأيه أيضا ولكن بطريق غير مباشر

فقد نظمت فى أغراض قومية كثيرة كنت فيها متفقا مع المجتمع ، بينما تجنبت النظم فى أغراض قومية أخرى لم تهزنى كما هزت المجتمع ، وشغلت بنظم قصيدة فى وصف " ساقية جافة " مثلا أو استقبال " نجم جديد " .

قلت : هل راعيت أصولا نقدية معينة فى تعبيرك الفنى ! وهل كان لك اتجاه بالذات بين شعراء الفترة التى ظهرت فيها ! وما هى الصعوبات التى واجهتها ؟

قال : إنى لم أتعمد أن أراعى أصولا معينة فى أدبى عندما

انظم قصيدة ، لأنى أردت لفنى أن يكون متحررا من كل شرط وقيد . ولكنى إذا عرضته على ما قرأته من الآراء النقدية أراه متفقا مع القائلين بوحدة القصيدة " فالقصيدة فى شعرى موضوع له مقدمات وعلل ونتائج . وكل بيت فيها يتمم معناها ويكمل مبناها ولا تكاد تستغنى عنه بحال . وأخالف بذلك رأى العرب فى نظم الشعر . . فقد كانوا يرون استقلال كل بيت فى القصيدة بل كل شطر من بيت فيها عن سائر أبياتها حتى لتستطيع أن تقرأها طردا وعكسا دون أن تخطئ غرض ناظمها . وهذا يدل على

أنهم كانوا يقيدون بشعرهم معانى جزئية تؤديها جمل مستقل بعضها عن بعض ، لا حالات نفسية ملتحمة لا تؤديها سوى أبيات متساندات متعاقبات . . ولذلك قل بينهم الشعراء المتعمقون وكثر السطحيون هذا فيما يتعلق بغرض القصيدة . أما الأسلوب اللفظى فأرانى آخذا برأى القائلين بالسهولة والبساطة ولكن فى متانة واتساق .

أما اتجاهى بالذات بين الشعراء الذين عاصرونى فهو

تمصير الشعر " أى جعله شعرا مصريا بحتا لا تقليد فيه للشعر العربى أو الشعر الإفرنجى . فأنظم مستقلا بتفكيرى وتعبيرى فى حدود بيئتى وزمنى ، حتى إذا قرىء شعرى فى أى صقع وأى زمن عرف أنه قيل فى " مصر " وفى " القرن العشرين ، ولا أعرف بالطبع مدى توفيقى أو إخفاقى فى هذا الاتجاه . ولكنى أعرف أن هذا هو اتجاهى ، أخلص فيه النية وأتخذ له العزم . أما الصعوبات التى صادفتنى فحسبى منها ما تعارف عليه الناس حولى من أن الشعر لا تقدر قيمته إلا بمقدار قربه أو بعده من شعر الأقدمين . فهو عندهم ألفاظ فخمة تحشد حشدا ولو كانت خلوا من تفكير عميق ورأى مبتدع . وكل من خالف الناس فى عرفهم لقى الكثير من عنتهم حتى الأنبياء .

ولم يكد ينتهى من هذه الكلمات حتى أثرته بسؤال آخر قلت فيه : ما رأيك - بصراحة تامة - فى شعراء الفترة التى سبقت ظهورك وفى شعراء اليوم !

وحينئذ أخذ نفسا عميقا وبدأ يقول : كان شعراء الفترة التى سبقت ظهورى - ومنهم من امتدت أيامه إلى أيامى - شعراء مقلدين . ليس لهم شخصيات خالقة أو أغراض محلقة وإن أصابوا من الشهرة ما أصابوا . ولكن تقليد أحدهم وهو البارودى يصح أن يسمى تجديدا ويجوز استثناؤه من بين الآخرين . فقد كان أسلوب الكتابة فى زمن البارودى أسلوبا عاميا سقيما . فإذا به يثب فجأة إلى الفصحى بفضل لغته التى تشبه لغة الأقدمين فى السلاسة والمتانة والوضوح . ولكنه مع الأسف لم يكن مجددا فى أفكاره ومعانيه . وقد تبعه فى ذلك شوقى وحافظ ومطران وغيرهم . وكانوا جميعا متفاوتين فى قواهم الشعرية وفى درجات حماسهم للجديد . على أن من الإنصاف أن نذكر مطرانا ضمن المجددين فى مرحلة من مراحل شعره . إذ أنه بدأ أعماله الشعرية كمجدد ثائر ولكن بمضى الأيام أحس بقلة الجدوى من التجديد الذى سار على نهجه فانتهى إلى أن يكون شأنه شأن بقية المقلدين وبذلك جرفه العرف المحيط به وأصبح كغيره شاعر حفلات ومناسبات .

أما رأيى فى شعراء اليوم فلا أعمد فيه إلى الصراحة التى تطلبها لأنى أقابل الكثيرين منهم كل يوم . . ولست لسوء

الحظ من قوة الساعد والقتال العضل بحيث أستطيع الدفاع عن نفسى فدعنى أجمل ولا أفصل : شعراء اليوم ثلاث فرق . فرقة المقلدين وهى كثرة غالبة . وفرقة المجددين وهى قلة لا تكاد تذكر . وفرقة تتذبذب بين هاتين الفرقتين . فلا هى إلى أولاء ولا هى إلى أولاء .

وهنا بدر لى أن أدرك مدى إيمان الأستاذ عماد بصناعته فسألته سؤالا يتصل بمشكلة نقدية معاصرة قلت فيه ؛ هل تعتقد أنه سيكون للشعر دور هام فى أداء الفترة القادمة من تاريخ العالم أم أنه سيترك المجال للنثر وينزوى كبقية الفنون  المأثورة

وعندئذ وجدت الدم يصعد إلى وجهه وأخذت الكلمات تفلت من بين أسنانه وهو يقول : ما دام الشعر مظهرا من مظاهر الحياة وتعبيرا صادقا عنها فهو باق ما بقيت الحياة ولا أدل على ذلك من أنه لم يفقد من عهد الجاهلية إلى هذا العهد مهما اختلفت لهجاته وأساليبه ، فلماذا يفقد فيما يقبل من العهود ؟

وإذا كان النثر معبرا هو الآخر عن الحياة فليس يتوفر له ما فى الشعر من موسيقية تحببه إلى الأذان وتغرى الشعراء بنظمه وتيسر للرواة حفظه وذكره . ولا يفوتنا فى هذا المقام أن نشير إلى أن فن المواليا وفن الزجل عند العامة ضرب من التعبير الشعرى : فالشعر لسان كل طبقة من طبقات الناس وهو باق ببقائها .

وخشيت أن أكون قد أثقلت عليه فقلت : لم يبق غير سؤال واحد وهو سؤال حيوى جسدا لا تصاله المباشر بحياة الفنان ذاته . إذ كانت مشكلة أغلب الأدباء والشعراء هى مقدار التوافق الحاصل بين أمزجتهم الفنية وحياتهم المعيشية . والآن نجد هذه الظاهرة أوضح ما تكون خصوصا إذا كانت للأديب أفكار معينة ومبادئ مغايرة وطريقة مختلفة ، فهل ساعدتك ظروف حياتك على أن تؤدى مهمة الشاعر على الوجه الأكمل أم أنها وقفت فى سبيلك وكانت معاكسة لك وتعارضت مع مواهبك وميولك ؟ . أو بمعنى آخر : هل كانت الظروف المعاشية موافقة لعملك الأدبى أم عاملة على تعطيله ؟ وهل كانت الوظيفة " وأكل العيش " عقبة فى حياتك الفنية أم أنها جارت ميولك وعاونتك على

أداء مهمتك ورسالتك على نحو ما أردت لفسك وحسب مثلك المحتذى وهدفك المأمول فى الأدب ؟

وهنا كانت ثورة الأستاذ عماد التى تسبب فيها سؤالى السابق قد انتهت وعاد إلى نفسه مرتكنا بجسمه إلى الخلف قليلا . وبدا كما لو كان يبحث فى داخلية روحه عن إجابة هذا السؤال ، وبدأ كلامه هامسا ثم أخذ صوته يتصاعد شيئا فشيئا

قال : كلا مع الأسف . فإنى لا أحب الأرقام الحسابية بفطرتى ولا فرق عندى بين رؤية مجموعة أرقام أو مجموعة من العقارب والثعابين ؛ ومع ذلك فقد كانت الأعمال التى زاولتها طوال مدة خدمتى - وهى تربى على الأربعين عاما - أعمالا حسابية ، اللهم إلا سنتين اثنتين كنت فيهما سكرتيرا للوزير . وهى وظيفة كانت تقتضى التنازل عن شئ من كرامتى واستقلالى . . وكنت آبى عليها ذلك كل الإباء . وهذا هو سبب أننى لم أعمر فيها وقتا طويلا والطريف أننى نقلت منها فى عهد وزير أديب .

هذا نوع العمل . أما الأجر عليه فهو أقل من أجر المثل " كما يقولون . لأن الوزارة كانت تجد من دائما موظفا يحسن الاضطلاع بالعمل ولكنه لا يجيد المطالبة بالأجر . وهى فى الوقت نفسه حسن الانتفاع بهذه الفرصة كل الإحسان . ولا شك فى أننى كنت أحس من ذلك مضاضة فى نفسى تمنعنى من التفكير فى الأدب تفكيرا حرا هادئا

ولا بأس من أن نختتم هذا الحديث بفكاهة مؤرخ بها الكتابة فى الدواوين . أملى على رئيسى يوما - فى أول عهدى بالوظيفة - كتابا رسميا عن ناظر وقف اسمه ( ضرغام ) فكتبته بالضاد كما ترى . ولكن ما كاد الرئيس يراه حتى صاح بى ساخرا ؛ " أهذا ما تعلمتموه فى المدارس ؟ أشطب الضاد " واكتبها دالا يا افندى فدهشت وقلت : بل إنها " ضاد ، لأن كلة ضرغام معناها أسد أما " درغام ، فلا معنى لها . . فانفجر ضاحكا وقال " ما لنا وما للأسد يا بنى . . إنها ليست آتية من هنا ولكنها آتية من قولهم مدرغم "

وكتبت له يوما خطابا آخر فيه جملة ( فى غضون السنة ) فرأيته يتناول المبراة فى صمت ويكشط بها النقطة التى على ( الضاد ) فصارت ( صادا ) وأعاده إلى زاما شفتيه أسفا وسخرية . فقلت له ( بل هى ( ضاد ) لأن ( غضون السنة ) معناها أثناؤها ) . فقال اللهم طولك يا روح . بل هى غصون السنة بالصاد تشبيها لها بالشجرة الكثيرة الغصون

وكذلك كانت ترد فى كتاباته كلمات ( الناظر ممالط فى تقديم الحساب ) يريد ( مماطلا ) و ( قوله فكان ) بدلا من ( فلو كان ) وغير ذلك . .

وإنى لأترك بعد ذلك الفرصة كيما تدرك أى جو كنت أعيش فيه ومدى اقترابه من الجو الشعرى .

فهببت من كرسى وأنا أقول : لك الله نعم . له ولأمثاله من الأدباء والشعراء والفنانين إله يرعاهم فى هذا البلد . . فليس أدعى لقلة الشأن من أن تكون صاحب صناعة فنية وأنت موظف فى دواوين الحكومة

اشترك في نشرتنا البريدية