الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 311الرجوع إلى "الثقافة"

فنون الرجل الفطري

Share

-1-

لم يخلد عمل من أعمال الجنس البشري كما خلدت الفنون التي أنتجها الإنسان في كل العصور ، ولا يوجد بين مخلفات الإنسان القديمة كلها ما يفوق قيمة الفنون كمفتاح لتاريخ المدنية وتاريخ ذلك الإنسان . إذ ان معلوماتنا عن عادات الجنس البشري وتقاليده وعقائده تبني لعدة آلاف من السنين على دراسة تلك الآثار الفنية ، ولم يأت التاريخ المدون لإعانتنا على معرفة التاريخ إلا منذ عهد قريب نسبيا ،

ولقد درس العلماء الآثار الفنية للجنس البشري رغبة في الوصول إلى الحقائق التاريخية التي استقوها منها ، بيد ان طبيعة هذه الآثار او مكانها من عالم الجمال الفني او الذوق الرفيع معترف بها ، وهذا هو السبب في المكانة العالية التي تحتلها تلك الآثار .

ويرجع تاريخ منتجات الإنسان الفنية التي تم اكتشافها حتى الآن إلى عهد يتراوح بين ٢٠٠٠٠٠٠ و ١٠٠٠٠٠ سنة مضت قبل الميلاد ، وهذه هي منتجات الرجل الفطري الذي عاش في العصر الحجري ، وهي تكشف عن الفن في مراحله الأولى . ومن اختبار بقايا الجماجم والعظام البشرية يبدو ان تلك السلالات التى عاشت في العصر الحجري قد انقرضت ،

وأنها لا تمت بصلة ما للسلالات الفطرية التي تعيش في العصر الحاضر . ولكن هذا الاكتشاف لا أهمية له في هذا الصدد ، لأن الحكم على السلالات الفطرية أو السلالات التي اتفق الرأي على إطلاق هذه التسمية عليها ، لا دخل له بالخصائص الجثمانية .

وهذه التسمية " الرجل الفطري أو " الرجل الأولى " لا تطلق على الإنسان الذي عاش قبل عصور التاريخ مجردا من كل مدنية وحضارة فقط ، بل هي لفظ عام يطلق على

قبائل عاشت في عصور التاريخ ، كما يطلق على قبائل لا يزال لها وجود قائم في عصرنا الحاضر .

ولا بد أن نعرف أولا قبل الدخول في صلب الموضوع تحديد معنى اللفظ " الفطري او بعبارة اخرى تحديد معنى المدنية والحضارة التى يفترض بأن الرجل الفطري مجرد منهما ؛ وهذا امر  ليس باليسير ، لأن تحديد معني المدنية فيه شئ من التعقيد وتختلف فيه الاراء . فيحاول بعض من بحثوا الموضوع ان يبني هذ التحديد على العقائد الدينية ،

ويحاول البعض الآخر اتخاذ المبادئ الأخلاقية مقياسا للتحديد ؛ ولكن يتضح بتتبع التسلسل المنطقي أن هذا لا يكفي ، لأن بعض القبائل التي تعيش عيشة أولية ويحكم بتجردها من اي حضارة ، نجد انها تتمسك بمبادئ اخلاقية لا تقل صرامة عن المبادئ التي تتمسك بها أشد الأمم تقدما ورقيا . ونجد كذلك ان بعض القبائل الوثنية التى لا تدين بدين من الآديان المنزلة ، تصر على ناموس أخلاقي من درجة عالية جدا .

وهكذا راح الباحثون يفتشون عن معان أخري لا تتوفر لدى تلك القبائل الفطرية ، إلى ان اجمعوا الرأي على معان خاصة ؛ منها مثلا التضحية بالراحة الجسمية في سبيل إرضاء الروح ، بدون ان يكون من وراء هذه التضحية فائدة عملية او مادية ؛ ومنها ايضا قوة إدراك قيم الأمور . والمقصود من هذا ان الشعب المتحضر هو الذي يكون في استطاعته أن يكافح وان يتكبد مجهودا شاقا كبيرا في سبيل إدراك معني من المعاني الجليلة السامية ، وقد يستغرق إدراك هذه الغاية زمنا طويلا . وبعضهم يقيس مدى الرقى بالمنزلة التى تحتلها النساء بين الأمة . بيد أن التحديد الذي أراه مبسطا ومباشرا لتعريف الشعوب الفطرية هو : تلك الشعوب التي تعيش خارج نطاق

أولا : الحضارة الأوروبية الحديثة . ثانيا : الحضارات الشرقية العظيمة ،

وبمعنى آخر ، الشعوب التي لا يرتفع مستواها الثقافى إلي مستوي الحضارات السالفة الذكر .

والآن وقد أتيت على أبسط تحديد للفظ " الفطري انتقل إلى التكلم عن فنون الرجل الذي ينعت بهذا اللفظ .

يقال إن الفن هو ظاهرة عالية ، ولكن لا يجب أن يفهم من هذا ان الفنون على اختلاف انواعها ) كالموسيقي والرسم والتلوين والنحت والرقص والغناء ( هي لغة تفهمها السلاله البشرية في كل انحاء العالم وفي كل العصور بدرجة واحدة ، لان الأمر ليس كذلك ؟ فالموسيقي التي تشجي شعبا معينا قد لا يتحرك لها شعب اخر ، بل قد لايستسيغ سماعها ؛ وتختلف كذلك فنون الإنسان التصويرية من مكان إلي مكان ومن عصر إلى عصر في مدى التأثر بها .

ولكن المقصود هو ان الفنون لم تقتصر على شعوب دون غيرها ولم ينفرد به عصر دون سواه . فالفنون بكل انواعها ترجع إلى عهد بعيد جدا ، ولم توجد سلالة بشرية مهما بلغت درجتها من التأخر والانحطاط وبعدها عن اسباب الحضارة لم تبتدع لنفسها طرقا لتعبيراتها الفنية من رقص أو تصوير أو ما خلافه . وقد وجدت في بعض العصور سلالات بشرية حقيرة الشأن لم تستطع ان تفكر في صنع كساء تتدثر به ، ولم تبتدع لنفسها عقيدة ما ، ولكنها مع ذلك لم تخل من قدرة على التعبير الفني .

والفنون ليست ظاهرة مستقلة ، بل هي تكون جزءا من مدنية تتصل اتصالا وثيقا بتاريخ الشعب او السلالة التي تنسب إليها ، وبتاريخ البقعة التي عاشت فيها السلالة ؛ اي ان الفنون بعبارة اخري هي مراة تنعكس عليها حالة السلالة الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية ، ومن هذا يتضح ان المعلومات التاريخية عن شعب ما تعين الباحث على فهم فنون ذلك الشعب ، كما انه من دراسة الفنون تستخلص نتائج تاريخية عظيمة القيمة

وهكذا نفهم من عبارة " فنون الرجل الاولي انه

لفظ عام يغطي عددا من الظواهر التاريخية ، وهو عبارة عن انتاج سلالات مختلفة وعقليات وامزجة متنوعة ، ويعبر عن وقائع متفرقة ، وهو نتيجة تأثير بيئات عديدة

ولا يوجد من الناحية العملية عنصر واحد يشترك بين كل أنواع الفنون التصويرية التي خلفها الرجل الفطري القديم او المصري ويكون وجود هذا العنصر مما يميزها عن إنتاج أخيه المتحضر ، بل إن مجرد غرابتها علينا في مواضيعها ومحتوياتها وفي طريقة التعبير الفني لصانعها يسهل علينا وضعها في مجموعة واحدة مستقلة . ولكن لا يجب ان يغيب عنا أن هذه الغرابة التي نحسها ونحن نمعن النظر في شئ من منتجات الرجل الفطري ، قد يكون من شأنها ان تحرك في نفوسنا الإعجاب ، أو تحرك إحساساتنا كشئ يمتاز بجمال فني ؛ ولكنها قد تحدث شعورا مضادا في نفس الوقت ، إذ يبدو أن الإنسان لا يستطيع أن يقدر جمال الشئ تقديرا كافيا ما لم تكن هناك صلة بين ذلك الشئ وبين الثقافة المنتشرة في العصر الذي يعيش فيه ذلك الإنسان ، وان تكون له قرابة للمثل العليا السائدة عن الجمال الفني ؛

ففي هذه الحالة يدرك الإنسان مقدار الجمال الذي يحتوي عليه الشئ ، إلا ان احساساته لا تتأثر به بالدرجة التي تحدث وهو ينظر إلى فن من انتاج العصر الذي يعيش فيه ، أو على الأقل عصر يشابهه في الحضارة .

وفنون الرجل الفطري التصويرية وغيرها تحتوي علي العموم فائدة عملية ، ولكن يجب أن نعرف أن هناك فرقا او تمييزا بين الفن كعامل اقتصادي ، أو الفن كخاصية متعلقة بالأشياء التي صنعت لتكفي حاجة مادية ، وبين الفن كتعبير لمثل عليا أو تعبير روحاني يتعلق بالخيال الخالص . ولنضرب مثلا هنا ، فنذكر الابنية الدينية كالمساجد أو الكنائس التي شيدت في العصور الوسطى ، فلقد كانت هناك اسباب ودواع دعت إلي إقامتها ، بيد أن الدواعي التي سببت بناءها على طراز معين هو شيء آخر .

يتبع

اشترك في نشرتنا البريدية