الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 42الرجوع إلى "الثقافة"

فن السرور

Share

نعمة كبرى أن يمنح الإنسان القدرة على السرور يستمتع به إن كانت أسبابه ، ويخلقها إن لم تكن .

يعجبنى القمر في تقلده هالة جميلة تشع فنا وسرورا ، وبهاء ونورا ، ويعجبني الرجل أو المرأة يخلق حوله جوا مشبعا بالغبطة والسرور ، ثم يتشربه فيشرق في محياه ، ويلمع في عينيه ، ويتألق في جبينه ، ويتدفق من وجهه .

يخطئ من يظن أن أسباب السرور كلها في الظروف الخارجية ، فيشترط ليسر مالا وبنين وصحة ؛ فالسرور يعتمد على النفس اكثر مما يعتمد على الظروف ، وفي الناس من يشقي في النعيم ، ومنهم من ينعم في الشقاء ؛ وفي الناس من لا يستطيع أن يشتري صحة عميقة بكل ماله وهو كثير ، وفيهم من يستطيع أن يشتري ضحكات عالية عميقة واسعة بأتفه الآثمان ، وبلا ثمن

مع الأسف ألاحظ أن كمية السرور في مصر والشرق قليلة ، كما لاحظت من قبل ان كمية الحب في مصر والشرق قليلة . وليست تنقصنا الوسائل ، فجونا جميل ، وخيراتنا كثيرة ، وتكاليف الحياة هينة ، ووسائل العيش يسيرة ، ومصايب الشرق من الحرب اقل منها في الغرب ؛ ومع

هذا كله لا تزال كمية السرور في الشرق أقل . أكبر سبب لذلك في نظري أن الحياة فن ، والسرور كسائر شؤون الحياة فن ؛ فمن عرف كيف ينتفع بالفن استغله واستفاد منه وحظي به ، ومن لم يعرفه لم يعرف ان يستغله وشقى به

أول درس يجب ان يتعلم في فن السرور " قوة الاحتمال " فأكبر اسباب الشقاء رخاوة النفس وانزعاجها العظيم للشئ الحقير ؛ فما إن يصاب المرء بالتافه من الامر حتى تراه حرج الصدر ، لهيف القلب ، كاسف الوجه ، ناكس البصر ، تتناجي الهموم في صدره ، وتفض مضجعه ، وتؤرق جفنه ، وهي واكثر منها إذا حدثت لمن هو اقوي احتمالا لم يلق لها بالا ، ولم تحرك منه نفسا ، ونام ملء جفونه رضي البال فارغ الصدر .

ومن أهم الأسباب في أن أمم الغرب أقدر علي السرور من أمم الشرق ، ان تاريخ الغرب الحربي متسلسل متتابع ، ومن مزايا الحروب انها تصهر الامم وترخص الحياة وتهون الموت ، وإذا رخصت الحياة وهان الموت رأيت المرء لا يعبأ بالكوارث إلا بقدر محدود ؛ وإذا كان لا يهاب الموت فأولي الا يهاب ما عداه ، لان كل شئ غير الموت أهون من الموت ، فكل اسرة أوربية لها رجال فقدوا في الحرب أو اصيبوا في الحرب أو ابتلو بنوع من كوارث الحرب ، فعلمتهم الطبيعة التي تعادل بين الأشياء أن يتقبلوا هذه الرزايا بقوة الاحتمال ، ونشأ عن هذا أنهم لا ينغصون حياتهم بذكري الرزايا ، فأولي

ينغصوها بتوافه الامور . أما أمم الشرق فقد مر عليهم دهر طويل لم يكونوا فيه أمما حربية ؛ بل كانوا مستسلمين وادعين يتولى غيرهم الدفاع عن انفسهم ، وإن حاربوا فحرب الضرورة ، وحرب الأفراد لا حرب الشعوب ؛ فاستفظموا الموت ، وغلوا في الحرص على الحياة ، ولم يصابوا بكوارث شعبية يستعذبون معها الموت والتضحية ، وتبع ذلك رخاوة العيش وعدم القدرة على الاحتمال ، وتهويل الصغاائر ، والجزع من توافه الأمور . ولا دواء لهذا إلا الغربية القوية ، وبث الأخلاق الحربية .

وسبب آخر لقلة السرور في الشرق ، وهو سوء النظم الاجتماعية ، ففي كل بيت محزنة من سوء العلاقات الزوجية والعلاقات الأبوية ، وفي كل مصلحة أهلية أو حكومية مأساة من سوء العلاقات المصلحية ، واحاديث الدرجات والعلاوات ، وعدم التعاون في حمل الأعباء ، وبناء المعاملات على الفوضى والمصادفات لا النظام والقانون .

ثم عدم القدرة على خلق أسباب السرور الاجتماعية ؛ فاجتماعات المنازل التي تبعث السرور محدودة ضيقة نادرة ، وفي كثير من الأحيان تنتهي بمنقصات ؛ والملاهي العامة إما داعرة لا ترضي الذوق السليم ، ولا ترمي إلي غرض شريف ، وإما تافهة لا يحملها فن ولا يرقبها ذوق ؛ ومن أجل ذلك كان اشد الناس بؤسا في الامم الشرقية الطبقة المثقفة المهذبة التي رقي ذوقها ؛ فهي لا تكاد تجد لها ملهي يتفق وذوقها إلا بعض شرائط السينما ، وهي - على قلتها لا تشبع رغبتهم في السرور ، ولا تكفي في تخفيف أعبائهم في الحياة .

ومع هذا كله ففي استطاعة الإنسان أن يتغلب على كل هذه المصاعب ويخلق السرور حوله . وجزء كبير من الفشل في خلق السرور رجع إلى الفرد نفسه ، بدليل أنا نري في

الظروف الواحدة والأسرة الواحدة والأمة الواحدة من يستطيع ان يخلق من كل شئ سرورا ، وبجانبه أخوه الذي يخلق من كل شئ حزنا ؛ فالعامل الشخصي - لاشك - له دخل كبير في خلق نوع الجو الذي يتنفس منه ؛ ففي الدنيا عاملان اثنان : عامل خارجي وهو كل العالم ، وعامل داخلي وهو نفسك ، فنفسك نصف العوامل ، فاجتهد ان تكسب النصف على الأقل ؛ وإذا فرجحان كفتها قريب الاحتمال بل إن النصف الآخر - وهو العالم - لا قيمة له بالنسبة إليك إلا بمروره بمشاعرك ، فهي التي تلؤنه ، وتجمله او تقبحه ، فإذا جلوت عينيك ، وارهفت سمعك واعددت مشاعرك للسرور فالعالم الخارجي ينفعل مع نفسك فيكون سرورا .

إنا لنري الناس يختلفون في القدرة علي خلق السرور اختلاف مصابيح الكهرباء في القدرة على الضياء ؛ فمنهم المظلم كالمصباح المحترق ، ومنهم المضئ بقدر كمصباح النوم ، ومنهم ذو القدرة الهائلة كمصباح الحفلات ؛ فغير مصباحك إن ضعف واستمض عنه بمصباح قوي ينير لنفسك وللناس .

ولكن ما الوسيلة إلي ذلك ؟ مما لا شك فيه أن غلبة الحزن مرض قد ينشأ من عوامل كثيرة مختلفة ، فمن الخطأ رجوعها كلها إلي علة واحدة ، وإذن فمن الخطأ وضع علاج واحد للعلل كلها ، ولكن فحص كل نفس واسباب حزنها ووضع العلاج الخاص بها لا يستطيعه إلا طبيب نفس ماهر . اما الكاتب فلا يستطيع إلا قولا عاما ، ووصفا مشتركا ، وتعرضا للمسائل العامة

ولعل من أهم أسباب الحزن ضيق الأفق وكثر تفكير الإنسان في نفسه ، حتى كانها مركز العالم ، كأن الشمس والقمر والنجوم والبحار والأنهار والامة والحكومة والميزانية والسعادة والرخاء ، كلها خلقت

لشخصه ؛ فهو يقيس كل المسائل مقياس نفسه ، ويديم التفكير في نفسه وعلاقة العالم بها ، وهذا من غير ريب - يوجب البؤس والحزن ، فمحال أن يجري العالم وفق نفسه ، لان نفسه ليست المركز ، وإنما هي نقطة حقيرة على المحيط العظيم ، فإن هو وسع أفقه ونظر إلي العالم الفسيح ، ونسي نفسه احيانا ، ونسي نفسه كثيرا شعر بأن الأعباء التي ترزح تحتها نفسه ، والقيود الثقيلة التي تثقل بها نفسه ، قد خفت شيئا فشيئا ، وتحللت شيئا فشيئا . وهذا هو السبب في أن أكثر الناس فراغا اشدهم ضيقا بنفسه ، لأنه يجد من زمنه ما يطيل التفكير فيها إلى درجة ان يجن بنفسه ؛ فإن هو استغرق في عمله وفكر في امته وفكر في عالمه ، كان له من ذلك لذة مزدوجة ، لذة الفكر والعمل ، ولذة نسيان النفس .

ولعل من أول دروس فن السرور ان يقبض الإنسان على زمام تفكيره فيصرفه كما يشاء ؛ فإن هو تعرض

لموضوع مقبض - كان يناقش اسرته في امر من الامور المحزنة أو يجادل شريكه أو صديقه فيما يؤدي إلى الغضب حول ناحية تفكيره واثار مسألة اخري سارة ينسي بها مسألته الأولى المحزنة ؟ فإن تضايقت من حديث ميزانية البيت فتكلم في السياسة ، وإن ألمك حديث " الكادر " فتكلم في الجو ، وانقل تفكيرك كما تنقل بيادق الشطرنج .

وثاني الدروس او ثالثها - لا ادري - الا تقدر الحياة فوق قيمتها ، فالحياة هينة ، وكل ما فيها زائل ، فاعمل الخير ما استطعت ، وافرح ما استطعت ، ولا تجمع على نفسك الالم بتوقع الشر ثم الألم بوقوعه ، فيكفي في هذه الحياة ألم واحد للشر الواحد.

واخيرا ، افعل ما يفعله الفنانون ، فالرجل لا يزال يتشاعر حتى يكون شاعرا ، ويتخاطب حتي يصير خطيبا ، ويتكاتب حتى يكون كاتبا ؛ فتصنع الفرح والسرور والإبتسام للحياة حتى يكون التطبع طبعا

اشترك في نشرتنا البريدية