الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 644الرجوع إلى "الثقافة"

فن السياسة

Share

السياسة علم وفن ، فعلم السياسة بشرح النظريات وتطورها في العصور المختلفة ، ونتائجها ونحو ذلك .

وأما فن السياسة ، فيعنى بالناحية العملية ، وتطبيق العمليات على النظريات .

ونلاحظ أن الأمم العربية لم تعن بالسياسة نظرياً ولا عملياً ؛ فقل منهم من اطلع على نظريات الفلسفة وأحاط بها ، وقل منهم من عرف كيف يطبقها عملياً . وقد أتقن ساسة الغربيين وخصوصاً الانجليز والفرنسيين العلم والفن معاً ؛ فمن ناحيتهم النظرية يدرسون كتب السياسة ، وتاريخها في العصور المختلفة ، ومن ناحيتهم العملية يعرفون كيف يستعمرون وكيف يفرقون بين طوائف الأمم ، وكيف يوعزون بتأليف الأحزاب ، ويوعزون بالخلافات بينهم ، وكيف يخصصون كل فرد أو أفراد منهم للاتصال بكل حزب ، وكيف يعرفون . الأشخاص الذين يستطيعون أن يمالثوهم ، فيضعون يدهم وعليهم ، إلى غير ذلك .

والعرب في ذلك كله سذج غاية السذاجة ، يلعبون بأوراقهم الكشوفة دائماً ، ويمكنون الأجنبى من اللعب بينهم ، ويطلعون على كل خفية من أمرهم ، فإذا بالأجنبى يعرفهم أكثر من معرفتهم بأنفسهم ، ولهم في كل قطر مستعمر وسائل تتفق وعقلية هذا النطر وعاداته وأخلاقه .

أسوق هذا لما علمته من أحوال ليبيا ؛ فقد قررت هيئة الأمم منحها الاستقلال في أول يناير ١٩٥٢ ، ولم يحملها على ذلك حبها للعرب ولا انتشال لهم من وهدتهم ، إنما دفعهم إلى ذلك صد روسيا عن تسللها إلى ليبيا وتدخلها في شئون البحر الأبيض ، ومع قرار هيئة الأمم ظلت انجلترا طامعة في برقة . وفرنسا طامعة في فزان ، وتديران السياسة حتى تفشل هيئة الأمم أو تستطيعا الضحك عليها ، ثم تخرجا من هذا الصراع وقد وضعت انجلترا يدها على برقة ، وفرنسا يدها على فزان ؛ ولذلك حببوا إلى صنائعهم المناداة بالفدرالية ، وهم لا يعرفون ديمقراطية

ولا فدرالية ، وإنما رددوها كما حفظوها لهم ، واستخدموا صنائعهم في برقة وفزان بهذه الدعوة ، وبمحاربة كل دعوة تناهضها بما أمكنهم من وسائل .

والعرب مساكين لا يعرفون الحيل السياسية ولا الألاعيب ، ويأتمرون بأمر سادتهم من الإنجليز والفرنسيين .

حدثني أفرنىي بعد أن لعبت الخمر برأسه قال : إن هؤلاء العرب في ليبيا سذج مغفلون لا يصلحون بحال أن يستقلوا ، وكيف يمكن لبلاد تعداد أهلها مليون وخمس أن يستقلوا مع ما هم فيه من السذاجة والتفرق ؟ إن برقة تخاصم طرابلس وتود السيادة عليها ، وهما معاً يخاصمان فزان وفران تخاصمهما ، ويفتخر زعماء كل قطر بأنفسهم ، وبرقة لا تريد الانضمام لطرابلس ، لأن مقطوعيتها من السكر أكبر من مقطوعية طرابلس ، فإذا اتحدا تساوت مقطوعيتهما ، وهكذا في الصغائر ، مما لا ينظر إليها إلا كل صغير النفس بدائي السياسة ، جاهل بفن السياسة . قال : إن في طرابلس مثلاً ستة أحزاب ، على أتم ما يكون من العداء . قال لي أحدهم : إن زعيم حزب كذا خائن متجسس ، لو مر ظله علي بيقى لتجسس ، فكيف يكون الاستقلال لمثل هؤلاء الصغار الجاهلين الذين أكثرهم أميون ؟ إنما يستقلون يوم يعقلون ؛ فلنبذر بينهم الحب ولنلعب بدسائسنا التي تمرنا عليها ، وبعد ذلك ندعهم وأنفسهم تأكلهم النار جميعاً وهذا جزاء الغافلين .

فهمت من هذا الكلام أن هذه الحالة صورة مصغرة لما يجري بمصر والعراق وتونس والجزائر ومراكش ؛ فهم يلعبون بكثير من الرءوس ، ويخلقون الأحزاب ويفرقون بينها ، ويستصفون لأنفسهم من ضعف خلقه ، وانضمت نفسه ، فيغرونهم بالمال والجاه والسلطان الزائف . ويقربونهم إليهم ، ويفتحون صدورهم لهم ، ويقفون منهم على كل صغيرة وكبيرة في البلاد .

ألا تراهم في مصر كيف فاوضوا مفاوضة بطيئة عقيمة . ثم وصلوا إلي نتيجة تدل دلاائلها على أنها نتيجة لا ترضى المصريين ، ومع ذلك لا تقف الأحزاب موقفاً واحداً ، وكل حزب خارج الحكم يود فشلها ، علماً منهم بأن نتيجة

فشل المفاوضة خروج الوفد من الحكم وصيرورته لهم أو إلى حزب معارض مثله ؛ وهم يدعمون هذه المفاوضات العقيمة بمظاهرات في مجلس العموم وتلغرافات وإشاعات ، ونحو ذلك مما مهروا فيه من ألاعيب . ولم يكن بعيداً عنا ما فعله الجنرال جوان بسلطان مراكش ، كما ليس بعيداً عنا تفرق العرب في دفاعهم عن فلسطين مع حقهم ، واتحاد الإسرائيليين مع باطلهم ! وكل هذه دروس قيمة لم يتعلم العرب منها مع الأسف كثيراً ، وكل يوم تتكرر المأساة ولا متعظ .

أليس عجباً أن يتعاون البرقي مع الإنجليز والفزاني مع الفرنسيين ضد بلادهم ، ويحاربون الممثل المصري والممثل الباكستاني وهما يدافعان عنهم ؟ !

ألا يأتي يوم يتعلمون فيه فن السياسة ، فيفتحون عيونهم ويحققون اوراقهم ، ويدفعون الدسائى بدسائس ، ويسقطون من باع ضميره ، ويلقون عليه درساً عمليا ، وعلى الجملة يتعلمون فن السياسة ؟ !

ليست هذه الخيبة والغفلة طبيعة فيهم ، ولا بالأمر الذي يلتصق بهم بالضرورة ؛ فكل الأمم تقريباً مرت بمثل هذا الدور ، ولكن كفى العرب سذاجة ، وكفاهم غفلة ، وليتعظوا هم بما اتعظ به من قبلهم .

اشترك في نشرتنا البريدية