تعتمد الكتابة على ركنين أساسيين : المعنى والأسلوب . وقد شاء بعض النقاد أن يفاضلوا بين قيمة كل منهما . وراح فريق منهم يشيد بأهمية الأسلوب ، ويقصر عليه الفضل أجمع في حسن الكتابة . وراح فريق آخر يهون من أمره . ويضفي ذلك الفضل على المعنى من دونه . .
ويبني الفريق الأول رأيه على أن الكتابة تعبير ، أو هي حسن تعبير ؛ فالمعاني شائعة بين الناس مطروقة ، والكاتب يقترف من معينها المشاع ، وهو لا يتميز بما يختار منها . ولكنه يتميز بطريقة أدائها ؛ أى يتميز بالأسلوب الذي ينفرد به . وقد أخذ الجاحظ بهذا الرأي ، فزعم أن المعاني تجري علي ألسنة السوقة ، ولا تشرف إلى بحسن التعبير عنها ! وتمادي العرب في الاعتداد بسبك الكلام حتى زعم بعضهم أنه كفيل بتجميل المعني الشأمه ، وتشويه المعنى الجميل ، وطمس معالم الحقيقة . .
" وبحسن السبك قد ينفي الزغل "
ولعل تبريزهم في فن الشعر يرجع إلى تلك العناية الفائقة للأسلوب . فما الشعر إلا تجميل للأسلوب بزخارف الوزن والقافية والنغم .
ويري الفريق الأول من أدباء الغرب أن مشكلة الأسلوب والمعنى هي مشكلة القالب والمضمون ، أو الشكل والموضوع . فغاية الفن عندهم هي الشكل لا الموضوع . وقيمة العمل الفني تقاس بإتقان الشكل لا بسمو الموضوع . فقد يجييء الفنان بأنفه موضوع ويصوغه في قالب فني رائع ، فإذا هو يتحف العالم بتحفة فنية رائعة وقد يخطئه التوفيق في التعبير عن أروع موضوع ، فإذا انتاجه يبعد عن جادة الفن السليم . ولعل أوسكار وايلد كان أشد الكتاب احتفالا بالشكل واستخفافا بالمعنى ؛ فمن عباراته المأثورة : " حسن المظهر خير من طيب المخير " ومنها : " ليس هناك كتاب
حسن وكتاب سيئ ، ولكن هناك كتاب حسن السبك وآخر سيئ السبك " .
أما مذهب الفريق الثاني فهو نقيض المذهب الأول ، وأصحابه لا يقيمون وزنا إلا الموضوع أو المعنى . فهم يرون أن الأسلوب مطية المعنى ، وانه يتبع المعنى سموا وانحطاطا ؟ فالموضوع الجليل يضفي من جلاله على الشكل الذي صيغ فيه ، وهو يضيفى عليه كذلك من جماله إذا كان جميلا . وهم يرون أن الموضوع هو الجوهر ، أما الشكل فهو العرض ، ولا يجوز أن يصرفنا العرض عن الجوهر . وقد قال أحد النقاد الإنجليز في هذا المعنى : " إذا قارنا كتابة شكسبير بكتابة أدباء عصره ، وجدناها تختلف عنها في خلوها من فخامة الديباجة ، وطنطنة العبارة ، مما كان مألوفا حينذاك . لقد استطاع شكسبير أن يحيل اللغة العادية شبه الدارجة إلى لغة حية فصيحة غنية بما أضفاه عليها من ألوان معانيه وظلالها " وقال دانتى عن نفسه : " لم تستطع كلمة أن ترغمني على ما لم أرد قوله ، في حين أبي طالما أرغمت الكلمات على قول ما لم ترده " . ومن الآراء المألوفة أن الكاتب الذي يستطيع السيطرة على الفكرة يستطيع كذلك السيطرة على الكلمة التي تبرز تلك الفكرة على أدق وجه وأوضحه . .
نشأ عن تصادم هذين المذهبين المتناقضين مذهب ثالث حاول أن يحد من تطرفهما . وقد بناه أصحابه على أن لكل من الشكل والموضوع خطره في العمل الفني وان الاحتفال بهما ضروري لنجاح الفناين ، فالعناية باختيار اللفظ في الكتابة ضرورية كالعناية باختيار الموضوع . وليس معنى هذا أن يحرص الكاتب على اختيار اللفظ الضخم والموضوع الفخم ، ولكن معناه أن يحرص على التوفيق بينهما ، فيختار من كل منهما ما يناسب الآخر . ولعل الناقد لوويل كان أكثر أنصار هذا المذهب توفيقا في شرحه ، إذ قال : " ولا يرجع سر قوة الكتابة إلى سبك الجمل ، وتنسيق الفعل
والفاعل ، واسم الفاعل واسم المفعول . ولكن يرجع إلى إيمان الكاتب بفكرته ، وقدرته على إبراز ذلك الإيمان في كل ناحية من نواحي جمله . وعندما يغترف التعبير من الفكر ، لا من انفعال غير واع ناشئ عن حاجة وقتية ، يتحدر القول حارا دفاقا . وقد اتجه الظن فيما مضي إلى أن العذوبة الخارقة التي تفرد بها رنين ناقوس " وستمنستر " ترجع إلى أنه صب من الفضة الخالصة . ولكن اتضح فيما بعد أن هذا الظن لا يستند إلى أساس ، وأن عذوبة رنين ذلك الناقوس ناشئة من دقة خلط المعادن المختلفة التي صنع منها . وإلى توفيق صانعة في مراعاة النسبة بين حجمه وسمكه . وما يصح قوله عن ناقوس " وستمنستر " يصح كذلك عن أسلوب الكتابة . فعبقرية الكاتب أو الشاعر لا تكتفي بالاهتداء إلى الكلمة التي تعبر عن المعنى ، ولكنها توازن بين كل كل كلة وما يليها ، وبين أجزاء الجملة ، وارتباط بعضها وبعض ، وبين اللفظ والمعنى . وإلا فقد الأسلوب الجمال الفني ولو صب من فضة خالصة . . إن التفكر الصافي لا بد أن يسفر لدي التعبير عن أسلوب صاف . ولكن يجدر بنا ألا نغفل عن حقيقة واضحة ، وهي أن تمكن الكاتب من الأداء يترتب كذلك على التمكن من وسيلته ، وهي اللغة . ولذلك بلغ فن الكتابة أرفي مستوي في العهود التي اقتربت فيها لغة الكتابة من لغة الكلام كل الاقتراب . . "
ولا شك أن الكتابة ما زالت تعاني في مصر غير قليل من قيود الأسلوب العربي القديم ؛ فهي بشعرها ونثرها لا تحظى على الأغلب بالتقدير المرموق إلا إذا جرت على نسق ما كتب العرب الأقدمون ؛ وقد ضاق بعض كتابنا بذلك ، فانقلبوا من النقبض إلى النقبض ، وتطرفوا في حملتهم على الأسلوب حتى أنكروا عليه كل قيمة ؛ ومن بين ما قرأت في هذا الصدد مقال للأستاذ محمود محمود نشرته له مجلة الثقافة في أحد أعدادها الأخيرة . وأحسب أن كل حريص على تقدم الأدب عندنا يتمني حلول اليوم الذي تتحرر فيه الكتابة من بقايا قيودها القديمة ، ولكننا لا نستطيع مع ذلك أن نتفق مع كاتب المقال على إخراج الكتابة من دائرة الفنون ، والتسليم برأي جود وغيره من الكتاب الذين أشهدهم .
نحن لا نستطيع أن نقول مع جود : " إن كل حديث عن الأسلوب والصياغة والقدرة على التعبير كناية ليس إلا دجلا يقصد به الأدباء أن يوهموا القراء أن الكتابة فن رفع لا يستطيعه إلا رجل عبقري موهوب ، ذلك لأنهم يكسبون عيشهم بذلك التهويش والادعاء . . " لا . . ولا أن نقول مع بتلر : " ( في حين أكتب لا أفكر إن كان لي أسلوب أو ليس لي ، ولو فكرت لكان ذلك على حسابي وحساب القراء " .
إن مثل هذا الأمر لا يحسم بمثل هذه السهولة ، فلا بد لكشف الحقيقة من امتحانه على ضوء تطوره التاريخى . .
إن تاريخ الفنون هو تاريخ صراعها في سبيل التحرر من ربقة قوالبها .
ولكن ليس معنى هذا أنها تحاول الانطلاق إلى غير هدى حتى تغرق في خضم من الفوضى ؛ فهي تحاول أن تستبدل بقوالبها العتيقة الضيقة قوالب أنسب لمواضيعها . وأصدق تعبيرا وأبلغ تأثيرا .
وكان من الطبيعي أن ترسف إبان نشأتها الأولى في قيود من الأرض البدائية ، لأن التجديد كما قلنا في مقال سابق وليد التجربة والخبرة والمرانة . وهو يسير في عهوده الاولى سير السلاحفاة ، ثم يسرع في السير بعد أن يتجاوز الفكر مرحلة نموه البدائية الطويلة الأمد .
إن الإنسان لا يزال ينتج ، كما قلنا ليسد حاجاته المادية والمعنوية ، وهو يفيد مما انتج ويزداد به خبرة ، ويصبح أقدر على إنتاج ما هو خير منه ؟ فإذا انتج ما هو خير منه اكتسب من وراء إنتاجه الجديد خبرة وقدرة جديدتين وصار اقدر على تحسين انتاجه ، وهكذا بظل تحسن الإنتاج وازدياد القدرة يتسلقان متلاحقين مدارج التقدم ؛ وإذا صدقت هذه النظرية في مجال الإنتاج الصناعي ، فإنها تصدق كذلك في مجال الإنتاج الفني والأدبي .
والفنان كغيره من المنتجين لا يزداد خبرة وقدرة بانتاجه فحسب ، ولكنه يزداد تمكنا منهما كذلك بالإفاده من إنتاج جيله مضافا إليه ما انتجه السلف . فهو يرث فنون من سبقوه ، ثم يورثها لمن يخلفونه
( البقية على صفحة ٢٣ )
( بقية المنشور على صفة ٨ )
مزودة بما أضافه إليها من إنتاجه . وهو لا يستطيع أن ينطلق من أوضاع الفن المألوفة إلا حين ترتفع به خبرته ومرانته إلى مرتبة المجددين . وعلى ذلك يكون من الخطل أن يقال إنه يكفي لأي إنسان أن يترك نفسه على سجيتها لينتج فنا أصيلا ، فالاستعاضة عن القوالب الفنية الجادة بالأصالة الخالفة لا يكون إلا بعد أن تصل خبرة الفنان وقدرته إلى المستوي الذي يمكنه من ذلك . إن الصنعة عنصر أساسي لكل عمل فني ممتاز . وتوفيق الفنان الأصيل يكون على قدر نجاحه في طمس آثار صنعته تحت ستار من أصالته ؛ فإذا بدا عمله الفني طبيعيا ، كان توفيقه من هذه الناحية كاملا ، والذي يزعم أنه يكفى للرجل العادي أن يمسك بالقلم ، ويبتعد عن الصنعة ، ويترك نفسه على سجيتها ليكتب كتابة أدبية ، هو كمن يقول إنه يكفي للإنسان أن يشب ويشرئب ليصل إلى السماء .
كان الفن يخضع في العهود الموغلة في القدم لأضيق حدود القواعد والأصول ، وكان المشرئب إليه لا يستطيع ان يندمج في زمرة الفنانين إلا إذا تتلمذ على أحد أساتذته ليتلقن تلك القواعد والأصول . ويرجع ذلك إلى قصور ذهن الناس حينذاك ، وبساطة إدراكهم ، وبعد مشاعرهم وعواطفهم عن التشعب والتعقيد ، وانحصار تجاربهم في شق محدود . ولذلك لم يكن من المستطاع أن يترك المشتغل بالفن نفسه على سجيتها ويبتدع له نهجا لينتج فنا مقبولا . ولكن قدرة العقل البشري على التجديد ازدادت بازدياد نموه . ولكن ذلك التجديد حدث على مهل ، وفي بطء وحذر حتي يختل وهو حاول الخلاص من القيود القديمة . وصار التجديد في كل جيل من أجبال الأزدهار الفني قاعدة يلتزمها الخلف حتي تتمكن طلائع ذلك الخلف المجددة من الخلاص منها وإحلال غيرها محلها . وقد بلغ اليوم تمكن الفنانين الممتازين من فنهم مبلغا مكنهم من التوسع في التجديد توسعا كاد يطيح بقواعد الفن المتوارثة.
ويجدر بنا قبل اختتام هذا المقال أن نشير إلى فرق ملحوظ بين الفنون عامة وفن الكتابة خاصة فيما يتعلق
بالشكل والأسلوب . فإنه من المعلوم أن أسلوب الكتابة قديما كان طليقا من القيود التي رسفت فيها قوالب الفنون الأخرى . ومرد ذلك إلى أن لغة الكتابة كانت حينذاك قريبة ، كما قال لوويل ، من لغة الكلام . ولكن ذلك لا يمنع أن فن الكتابة كان خاضعا في مجموعه لأوضاع ضيفة الحدود ، مفروضة على الكتاب فرضا . على أن قواعد الصرف والبيان والبديع لم تلبث أن أخذت بتلابيب الاسلوب في العهود التي انتشر فيها الترف وكاد عبث المترفين يقضي علي الثقافة العامة . فإذا ما تهيأت الظروف لعودة الثقافة العامة إلى الازدهار أخذ الأسلوب يحاول الفكاك مما رسف فيه من أغلال .
وإذا اعترض معترض على هذا المقال بأنه لم يدلل على أن الكتابة فن ، فإن مرر عذرنا في ذلك إلى أننا لا نستطيع التدليل على ما ليس في حاجة إلى دليل .
