الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد السابع عشرالرجوع إلى "الرسالة"

فى الادب المصرى القديم، ملخص فصل من كتاب، ( النيل والحضارة المصرية )

Share

-٢-

وهنا نجوى تبسط لنا شيئا من الحياة الزوجية, يرددها زوج  يبكى فقد امرأته, وامرأته, كما يبدو, ما زالت روحها أتبع له  من ظله. قال يناجيها:

(لماذا أشقيتنى حتى غلبت علي هذه التعاسة؟ ماذا صنعت  حتى رفعت يدك علي دون أن أباديك بشيء؟ سأرفع دعواى لآلهة  المغرب التسعة, حتى يفصلوا بيننا.

ماذا صنعت ؟ كنت امرأتى حين كنت أخطر فى برد الشباب ما أزعجتك وما مستك بسوء . اذكرينى عندما كنت عريفا

بين المحاربين فى جيش فرعون, تركتهم لأجئ اليك. حاملا اليك  منهم هدايا ثمينة, وأنا لم أحف عنك سرا طيلة حياتك, ولم أدخل  منزلا غير منزلك (بعد الطلاق) . وعدما رهنوني فى الموطن الذى  أنا فيه الآن وجعلوا رجوعى اليك مستحيلا, أرسلت إليك زيتى وخبزى وأثوابى؛ ولم أبعث بها إلى أحد سواك. وعندما مرضت  جئتك بطبيب, فوصف العلاج, وأتى بكل ما قلت عنه؛ وعندما  وجب على أن أرافق فرعون فى رحلته إلى الجنوب لبثت أفكارى  متوزعة عندك, وقضيت ثمانية شهور حليف الأسى لا يلذ لي طعام,  ولا يسوغ لى شراب. وبعد وفاتك عدت إلى ممفيس, ورجوت  من فرعون الذهاب إلى بيتك, وهناك وقفت باكيا, وأسعفنى  أصحابى على البكاء, وأعطيتهم ثيابا للف جثمانك.

واليوم وقد تعاقب ثلاثة أعوام وأنا قابع فى عزلتي, ما دخلت منزل أحد, ولا عرجت على أخت من الأخوات اللابثات  فى البيت).

ثم نشأت قصص صغيرة مشبعة بالروح الشعبية التى تجلت فيها,  أضف إلى ذلك مقطوعات غزلية عاطفية, تمثل لنا الحياة الوجدانية  والعقلية للمصريين القدماء. ومن هذه القطع مقاطيع بعنوان (أغانى لغبطة القلب) وهي أغاني يجب أن تكون مصحوبة بآلات  الطرب, على أن الموسيقى المصرية ظلت مجهولة برغم آلاتها الشائعة

عندهم. وجل هذه المقطوعات محاورات بين رجل يدعو المرأة  (يا أختى) , وامرأة تدعو الرجل (يا أخى) وكلاهما يتجاذب  الأغاريد بلهجة جذابة رقيقة. وتلوح على هذه المقطوعات بعض  ملامح مصرية وأخلاق مصرية تثبت ما قصه علينا المؤرخ هيرودوت  إذ قال: (ان المصريات كن أحرارا فى مسالكهن وتصرفاتهن فى  تجارة الحياة وفى مزدحم الأعياد الدينية, وهن اللواتى كن يخرجن  من بيوتهن لتدبير البيت والإنفاق عليه, والرجال يقومون بالخدمة  المنزلية خلال تغيبهن. وهذه القبور الطيبية (thebains) تطلعنا  على حياة المرح عندهن, وكثير من الحكايات الشعبية تدلنا على  أخلاقهن وما أتسمن به من صفات الجرأة, وهذه الجرأة قد تبدو فى هذه  المقطوعة الغزلية, إذ نرى العاشق كالمتغاني, والعاشقة هى التى تتكلم:

يقص علينا العاشق هبوطه إلى ضفاف النيل بحوار ممفيس.  وهناك شاهد (أخته) فى حديقة طيبة الأريج, (إذا هو لثم شفتيها  كان نشوان بغير نبيذ) هو يدنو منها كالعصفور الذى ينقض  بنفسه على الشرك (شرك الحب) . ولكن حميا الحب أقوى من  حميا الخمر.

يقول العاشق: (نزلت المنحدر, وأنا أحمل على كتفى حزمة  قصب. وبلغت ممفيس وقلت (لباتا) سيد العدالة أعطنى أختى  هذه الليلة, فالنهر من خمر, (وباتا) قصبه. و سبكميت سدرته,  (وأريت) يراعه, و (ينقرنوم) أزهاره.

هذا هو الفجر وممفيس كأس من ثمر, مصفوفة امام الاله  باتا ذى الوجه الجميل.

سأنام فى بيتى, وأغدو عليلا, وسيهرع جيراني إلى عيادتى,  وإذ ذاك تجئ أختى معهم, وترينى للأطباء لأنها عارفة بدائى.

ارى ( اختى ) مقبلة , وقلي يستفزه الطرب وذراعاى تنبسطان لعناقها , وقلبى يخفق في موضعه عندما تجىء .

اذا عانقتها وفتحت لى ذراعيها, فكأنى ألقيت بنفسى فى (بونت)  مدينة الطيوب. واذا لثمت فاها وتفتحت لى شفتاها. فأنا سعيد  سكران بدون نبيذ.

اما العاشقة فهى سهلة المأخذ, تنطلي عليها الأساليب المغرية,  حبها الدقيق أدنى الى الندب والشكوى, فى حالة الاتنظار, تبدى كل  مظاهر الدلال, وتقيس ذراعا كلما قاس العاشق إصبعا, وهذه (صائدة  الطيور) لا تنصب الشباك لمجرد اللذائذ وانما تصبو من وراء الحب  إلى اتحاد الروحين بالزواج وإلى السهر على خيرات عاشقها كأنها  صاحبة بيته.

وتقول العاشقة : " ياأخى المحبوب ! إن قلبى يسعى وراء حبك , انظر ماذا اصنع !

قد نصبت فخى بيدى, ان عصافير (بونت) هبطت على مصر , مخالبها مفروكة بالصبر, والعصفور الذى نزل -فى البدء- قد التقط طعمى.

هو ناقل عطره من (بونت) , ومخالبه مفعمة بالصبر الطيب, أرغب منك أن تعمل على إفلاته من الفخ, حتى تصغى أنت الى انين هذا العصفور المطيب بالصبر.

ما أجمل وجودك معى عند ما أنصب الفخ ! الوزة ( العاشق ) تشكت عندما علقت .

وذاك حبك يستهوينى اليك دون أن أستطيع الافلات منه,  يجب على أن أهجر (حبائلى) . ولكن ماذا أقول لأمى عمن  أغدو اليه كل يوم وأنا مثقلة بعصافيرى!!!

أنا سجينة حبك! وقبلتك وحدها هى التى تحيى قلبى.  قد وجدت من أحبه, فليت شعري هل يقدر (آمون) على  أن يعطينى اياه الى الأبد. .؟

يا صديقي الجميل! أود ان ارعى خيراتك كصاحبة بيتك؛  وذراعى مسندة إلى ذراعك.

سأقول فى نفسى عندما يعاودنى حبك؛ أن أخى الكبير  بعيد عنى هذه الليلة. ما اشبهنى بالاموات, لانك أنت عاقبتى وكل حياتى).

وهذه عاشقة أخرى تلوم شاة أيقظتها عند الصباح وهى لا  تود أن تستيقظ: (ناجتنى الشاة قائلة لى: هذا هو الفجر فاستيقظى, الا تهمين  بالخروج؟  لا لا! يا شاتى: أنت تسيئين الى!

قد وجدت أخى يتمطى فى سريره, فطرب قلبي له وقال لى: لن أتركك أبدا, وهذه يدي فى يدك, سنطوف معا كل مكان يحسن فيه التنزه.

اتخذ منى خليلته الأولى. وهو لن يحمل أى هم الى قلبى .) وبعد هذا الحب كله يضعف الهوى وتهب الشكوك ثم تتصاعد

أنات العاشقة لخيانة صاحبها إياها واستبداله غيرها بها, فأصبح  حب المرأة ادنى الى العاطفة وأغنى (هوى) من الحب الذى أعلنه  الرجل بلسانه.

والشاعر يزين نفثاته بالأساليب الغزلية الرقيقة, فالعاشقة تطوف  فى حديقة غنية الأزهار والأعشاب, فما من نبتة أو ثمرة الا تذكر بشىء  من محاسن المحبوبة أو ترمز إلى سعادتها المتلاشية. الأشجار تتكلم: فهى  التى تؤوى إلى أفيائها العاشقين, وتخفي عن العيون فصول غرامهم,  فهنا شجرة رمان تشكو وتتوعد من أهملها, وهناك سدرة غرستها

كف عاشقة تعلن رضاءها عن القدر, وهنالك جميزة صغيرة سعيدة  بمواقف العاشقين تحتها. وهى تراقب الأزواج بعين خبيثة ولكنها  تكتم أسرارهم.

وثمت شىء من الشعر الذى يصف ألوان الجمال النسائى. وهذه  هى اهم صفات هذا الجمال المنشود (شعر حالك كالليل, واسنان  اسطع من لمعان الصوان, وقامة رشيقة, وصدر صلب طافح) .

واذا قارنت هذا الجمال بما جاء فى تماثيلهم وصورهم عرفت  أن المصريين قد أهملوا رقة الصور والاشكال فى الجمال, فكانوا  على نقيض الشرقيين المعاصرين الذين يحبون (الخط الاهيف فى  الجمال الفتى) الذى يعدهم فى العالم الثانى بامرأة لها شباب خالد.

وفى هذا الأثر الأدبى الذى ابقى عليه الزمن, نرى عمل  المخيلة الصافية فيه مهملا, وتعاليم الفن والعلم والأدب التى وضعت  لخدمة الدين والدولة جاءت غنية الخطوط, طابعة الحضارة  المصرية بطابعها.

أما مصر القديمة فلم تكن الا فى القليل النادر بلد البراعة المنزهة عن الغرض, والتي جاءتها من أجل الفن. فعلمها للعلم  المجرد, وتفكيرها للتفكير المطلق, وأدبها للادب النفسى, واعمالها  العظيمة المجهولة الاسم قد وضعها أربابها بدقة ومهارة فى سبيل  خدمة مذهب فني يسمو إلى غايات اجتماعية ودينية. وهكذا ضيق  الجمال المصرى باكرا ساحة الابداع على المبدعين القادرين,  ولكنه لم يهن ولم يقصر فى تحليل كل ما يقدسه الشعب ويجله من  تعاليم السلطة والصلاح والأدب. فكان أعظم ميزاته وأسمى سماته  تمثيله بالرموز معنى النسل. وسهولة فهم مثله الأعلى الشريف, وكل ذلك بأسلوب يستحيل التقليد فيه, وعلاء يصعب السمو اليه.

اشترك في نشرتنا البريدية