منذ أيام تيقظت الطبيعة من رقادها الطويل، وأخذت تنضح جفنها الوسنان بانداء الربيع، وتبحث عن حللها وحلاها فى خزائن الأرض، وتأهب كل حى ليحتفل بشبابها العائد وجمالها المبعوث. فالحياة الهامدة تنتعش فى الغصون الذابلة، والطيور النازحة تعود إلى الأعشاش المقفرة، والأفنان السليبة تتفطر بالأوراق الغضة، وبارض النبت يحوك على أديم الثرى أفواف الوشى، والنسيم الفاتر يروض أجنحته ليحمل إلى الناس رسالة الزهور، وسر الحياة يستعلن فى الحى فينتشى ويمرح، وطيوف الهوى تمس القلوب فتهفو وتختلج، والعالم كله يسبح فى فيض سماوى من الجمال والنشوة والغبطة؛ اللهم إلا الانسان!!
فقد حاول بادعائه وكبريائه أن يكون عالما بذاته، فكان نشوزا فى نغم الكون، ونفورا فى نظام العالم، فلو أنه اقتصد فى تصنعه وائتلف كما كان بالطبيعة، لا تحد الآن مع الربيع فشعر بتدفق الحياة فى جسمه، وإشراق الصفاء فى نفسه، وانبثاق الحب فى قلبه، وأحس أنه هو فى وقت واحد زهرة تفوح، وخضرة تروق، وطائر يشدو، وطلاقة تفيض على ما حولها البشر والبهجة!
لا يكاد يقبل على أوربا الربيع حتى تختلط أناشيد الشعراء وأغاريد البلابل فى تمجيده واعلانه، لأنه يفد اليهم فيرد عليهم النور والدفء والزهر والجمال والحركة. أما نحن فلا نكاد نفطن لحلوله ولا لرحيله، لأن العالم كله على ضفاف الوادى يوم من أيام الربيع: فجره الندى يناير، وضحاه الزاهر ابريل، وظهره الساطع يوليو، وأصيله الرخى أكتوبر! فليس للربيع المصرى على سائر الفصول فضل إلا بذلك السر الالهى الذى تتشقق عنه الأرض، فيسرى فى العود، ويشيع فى الجو، ويدب فى الأجسام، وينشأ عنه هذا البعث الصغير!
ففى الربيع يشتد الشعور بالجمال وبالحاجة إلى التجمل، فترى الشباب بجنسيه يستعير ألوان الرياض، وعبير الخمائل، ومرح الطيور، ويحتشد فى دور الملاهى، وصدور الشوارع، فيخلع على الوجود وضاءة الحسن، وعلى الحياة رونق السعادة!
وأجمل شىء فى ربيع القاهرة أصائله وأماسيه! ففى هذين الوقتين تزدهر شوارع القاهرة الحديثة بزهرات شتى الألوان من بنات الانسان، فتملأ الجو عطرا، والعيون سحرا، والقلوب فتنة!
وهنالك على أفاريز الطرق، ومشارف المقاهى، تقف أبصار الكهول والشيوخ حائرة مبهورة تلسع بالنظر الرغيب هذا الحسن المصون! وبين النظرة والنظرة عبرة جافة تصعد أسى على شباب ذاهب لا يرجع، وجمال رائع لا ينال!
وفى الربيع تضطرم العواطف والعزائم فى الشباب، فينفحون بالأمل والطموح والحب نفحان الورود النواضر بعرف الطيب! فقصائدهم الغزلية تنثال كل يوم على بريد (الرسالة) فيحول بينها وبين استيعاب (نشرها) العطر صفحاتها المعدودة.
وكتبهم القيمة تظهر فياضة بالأفكار الوثابة، والعواطف المشبوبة: كالفكر والعالم، والشعبية، وعلى طريق الهند، والحياة الثانية، والربيع، والضحايا، وغير ذلك مما نقرأه الآن
لنعود إلى نقده وتحليله بعد. ومشروعاتهم الاقتصادية والثقافية تظهر موسومة بطابع الاقدام والاخلاص والوطنية؛ كمشروع تعاون الشباب لمزاولة الأعمال الحرة، ومشروع القرى لتثقيف العامة.
وفى الربيع تحتدم الطباع فى الأدباء الكهول، فيثب بعضهم على بعض بالهجو المقذع والنقد اللاذع، ويتناقرون تناقر النسور على الصخور، والطيور الوديعة جاثمة فى ظلال الغصون ترقب المعركة على بعد، فكلما رأوا الريش المنتوف والدم المنزوف، كبروا واستبشروا، ودعوا الله فى أغرودة شامتة أن يتفانى الفريقان، ليخلو الجو من البزاة والعقبان! وأدباؤنا الكهول شديد بعضهم على بعض!
فهم يسخون بالنقد الممض، ويضنون بالتقريظ العادل، كأنما العصر لا يحتمل غير كاتب من الكتاب، والمكاتب لا تحتمل لغير كتاب من الكتب!
ويعجبني الأستاذ صاحب رواية (الهادى): عرف أن الأدباء ربما خرجوا عن نقدها وتقريظها بالصمت كالعادة، فكتب هو فى مدحها فصلا فى البلاغ. والانسان أولى الناس بخيره، وأعرف بقيمة عمله من غيره.
وفي الربيع تتقد حمية العروبة فى العرب. فتسمع اليوم فى فلسطين والشام أبناء الشعب الخالد، ووراث المجد التالد، يصرخون صراخ الأسد فى راقد العدل أن يستيقظ، وفى غائب الحق أن يثوب!
وترى فى العراق حطام السياسة البالية تكسحه الريح كسحها للهشيم، ثم تقوم على هذا الطلل المنسوف حكومة فيها حيوية الربيع، ولكن ليس فيها شبابه!
والشباب فى العراق كالشباب فى مصر منذ سنين: يحاول القائمون على أمره أن يربوه تربية الدجاج: ينقنق دائرا بين الحب والماء، ويبحث فى الأرض ليذهل عن السماء، ويأبى الشباب إلا أن يكون طيراا يحتقر القفص، ويقتحم الجو، ويسمو إلى الغاية! والغد على كل حال يومه!.
