الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 697الرجوع إلى "الثقافة"

فى السياسة الدولية, القضية التونسية

Share

-٢-

يئس الشعب التونسى من أن يستجيب له الضمير العالمى عندما اجتمعت الدول المنتصرة فى باريس سنة ١٩١٩ لاقتسام الأسلاب وابتلاع الأمم الضعيفة ، وكذلك يئس المستعمرون فى تونس من النجاح فى طى الشعب التونسى تحت جناح الإمبراطورية ، فكان لا بد من صراع عنيف بين الاستعمار والجهاد ، كانت القوة والبطش سلاح الأول ، والصبر والإيمان سلاح الثانى ؛ وولد فى تلك الفترة حزب جديد فى تونس ، هو الحزب الدستورى ، رأى أعضاؤه أن يأخذوا الأمور فى هوادة ورفق ، وأن يبدأوا بالمطالبة بإعطاء تونس نظاماً دستورياً ، مستعينين فى ذلك بعطف الباى على القضية الوطنية العامة ، مؤملين فى أن يكون

الدستور خطوة كبرى نحو تحقيق الأمانى الوطنية ، ونشروا على الشعب بياناص بأن " الغاية من تأسيس الحزب هى تبليغ الوطن رشده ، وتحريره من الاستعباد ، كى يصبح الشعب التونسى حراً متمتعاً بكامل الحقوق التى تتمتع بها الشعوب الحرة ؛ وهو يريد أن يصل إلى هذه الغاية عن طريق التحقيق العاجل لنظام دستورى يسمح لهذا الشعب بحكم نفسه بنفسه ، وفاقاً للأسىس التى يسير عليها العالم المتعدين "

لم تفلح سياسة الهوادة والاعتدال مع السلطات المحتلة ، فالظالم لا يعترف إلا بمن يصرخ فى وجهه ويضرب على يده ؛ وقد أحس المعتدلون بالظلم الفادح عندما لجأت السياسة الاستعمارية إلى فتح باب التجنس بالجنسية الفرنسية لجميع

التونسيين ومحاولة فرنسة الشعب بصفة إجماعية ، فهاج المعتدلون والمتطرفون معاً وخصوصاً عندما أعلن وزير الخارجية الفرنسية فى مجلس النواب الفرنسى أن الحماية الفرنسية فى تونس عازمة على اتخاذ سياسة التجنيس الإجماعى لأهالى تونس ، عندئذ تخلى المعتدلون عن اعتدالهم . ونسى المجاهدون خلافاتهم ، فتألفوا وتآزروا ، وقرروا جميعاً مقاطعة كل من تسول له نفسه التجنس ، وحرموا التزاوج معهم ومنعوهم من دخول المساجد والدفن فى مقابر المسلمين ، ونجحت الحركة نجاحاً منقطع النظير ، وفشلت سياسة الإدماج الاستعمارية .

وفى مايو سنة ١٩٣٣ دعا الحزب الدستورى إلى مؤتمر وطنى فى قسم الجبل ، وأصدر المؤتمر بياناً بأن الغاية المثلى للبلاد وهى " تحرير الشعب التونسى ، وإعطاء البلاد نظاماً صالحاً مستقراً فى شكل دستور يحفظ الشخصية التونسية ويحقق سيادة الشعب بواسطة برلمان تونسى منتخب انتخابياً عاماً ومكتسباً لكامل السلطة التشريعية ، وأن تكون الحكومة مسئولة أمام البرلمان ، وأن يفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية . . وبصفة عامة ، كل ما من شأنه أن ينهض بالبلاد من هذه الوهدة التى هى فيها مادياً ومعنوياً ، ويعطيها المحل اللائق بها بين الشعوب المتمدينة التى تملك مصيرها .

وسار المجاهدون التونسيون يشقون طريقهم الوعر فى إيمان لا يتعزعزع ، وعزيمة لا تفتر ، برغم ما كانوا يلاقون من اضطهاد وسجن ونفى وتشريد . وما وافى عام ١٩٣٨ حتى كان جميع زعماء الحزب الدستورى معتقلين فى السجون . وانتقلت الحركة الوطنية إلى أيدى الشباب التونسيين الذين كانوا يتمون علومهم فى باريس ، فلم يتوانوا لحظة عن تنظيم الحملات الصحفية ، وعرض القضية التونسية فى بعض الصحف الفرنسية الحرة التى قبلت أن تنشر لهم وتؤيد مطالبهم .

وبينما كان الاستعمار سادراً فى غيه . والحكومة الفرنسية قد وضعت أصابعها فى آدانها ، إذ غشيتها الغاشية بقيام الحرب العالمية الثانية . ودخول النازيين فى أرضها واضطرارها إلى التسليم فى يونيه سنة ١٩٤٠ ؛ ولكنها فى الوقت الذى أحنت فيه رأسها فى أرضها ، صعرت خدها

فى أرض الناس ، إذ عندما أعلن الحزب الدستورى فى يوليه سنة ١٩٤٠ أن الحماية الفرنسية أصبحت غير ذات موضوع ، لأنها لم تعد قادرة على حماية نفسها ، وطالبوا بإطلاق سراح الزعيم التونسى بورقيبه وزملائه الذين كانوا منفيين فى مرسيليا ، وكان جواب الأميرال استيفان القسم الفرنسى العام أن أمر باعتقال الباقين من مجاهدى الحزب .

وكان من حسن حظ الشعب التونسى أن ارتقى عرش البلاد سمو الباى المنصف ، فى ١٩ يونيه سنة ١٩٤٢ ، وكان معروفا بوطنيته وإخلاصه لقضية بلاده . فحاول انتهاز الفرصة وقدم إلى المقيم العام طائفة من المطالب ، ومع ذلك فلم تنزل سلطة الاحتلال على إرادة الباى . وفى نوفمبر سنة ١٩٤٢ دخلت القوات الألمانية نونس ، وعند تدخل الباى لدى السلطات الألمانية وطالب بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ، إلا أن الألمانين لم يطل بهم المقام فى تونس ، إذ دخلها الحلفاء فى ٨ مايو سنة ١٩٤٣ ، وتسلمت الإدارة الفرنسية البلاد من جديد ، وما كان أحراها فى تلك الآونة أن تمد يدها إلى الشعب التونسى محاول مصالحته وتداوى جراحه ؛ ولكن الشعور بالنقص والإحساس بالضعف قد أوحيا إلى الجنرال جيرو أن يبطش بالتونسيين ، فبدأ بأن بطش بالباى محمد المنصف فأعلن فى ١٤ مايو سنة ١٩٤٣ خلعه بحجة أنه تعاون مع السلطات الألمانية ، ونفى الباى إلى (الأغواط )فى صحراء الجزائر . وظل ذلك الوطنى أسيرا عند الفرنسيين حتى انتقل إلى جوار الله فى عام ١٩٤٨ ، أما الشعب نفسه فقد صبت عليه سلطات الحماية جام التنكيل والاضطهاد ، لعلها تستطيع أن تطفئ جذوة الوطنية فيه إلى الأبد .

على أن الوعى القومى فى تونس ، والإيمان الصادق عند الزعماء المجاهدين . قد نفثا الروح فى القضية التونسية من جديد ، واجتمع مؤتمر وطنى عام فى (اغسطس ١٩٤٦ )بضم أعضاء الحزب الدستورى الجديد والاتحاد النقابي للعمل . وأساتذة جامعة الزيتونة ؛ ومع أن قوات البوليس قد هاجمت المؤتمر واعتقلت عدداً كبيراً من أعضائه . إلا أن المؤتمر قد أصدر ميثاقاً أعلن فيه أن نظام الحماية نظام سياسى واقتصادى لا يتفق مطلقاً مع سيادة الشعب التونسى ومصالحه الحيوية ، وأن هذا النظام نظام استعمارى قضى على نفسه أمام العالم بالإخفاق بعد تجربة خمس وستين سنة " وأعلن

المؤتمر فى ختام الميثاق عن عزم الشعب الثابت على استرجاع استقلاله التام والانضمام - كدولة ذات سيادة - إلى جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة . وبهذا الميثاق أصبح المطلب الأول الذى ينادى به الشعب التونسى هو الاستقلال التام من غير قيد ولا شرط ، ومضى زعماء تونس يواصلون جهادهم فى قوة وعزم .

وقد عاصرت الحركات التونسية الوطنية معظم الحركات الوطنية المصرية ، وكان أحدث هذا التوافق ما حدث فى مستهل هذا العام ١٩٥٢ من إلغاء مصر لمعاهدة سنة ١٩٣٦ ، وما تلاها من أحداث ، ووردت الأنباء من تونس فى الوقت نفسه بتجدد الحركة والمطالبة بالاستقلال ؛ وكان رد المقيم الفرنسى العام على تلك الحركة أن أعلن الأحكام العرفية ، وأخذت وحدات من الجيش الفرنسى المسلحة تطوف فى الشوارع وترابط فى مختلف الميادين العامة وكأن الحرب قد أعلنت بين المستعمر والشعب الأعزل ، بإلغاء القبض على عدد من الزعماء وعلى رأسهم السيد الحبيب بورقيبه . وقررت الوزارة التونسية التى كان يرأسها السيد شفيق أن تحتج على الوضع الحالي فى تونس ، ووصل إلى باريس الوزيران الوطنيان السيد صلاح بن يوسف وزير العدل ، والسيد محمد بدره وزير الشئون الاجتماعية ، لتقديم التماس إلى هيئة الأمم المتحدة بأسم الحكومة التونسية فى شأن الخلاف القائم بين تونس وفرنسا ، وكان طبيعيا أن يستعين الوزيران التونسيان بالدول العربية والدول الشرقية الإسلامية ، وكان أول اجتماع عقداه هو اجتماعهما بالدكتور محمد صلاح الدين باشا فى ١٤ يناير سنة ١٩٥٢ .

وقد احتضنت الدول العربية قضية تونس وسعت لها سعيها فى دوائر هيئة الأمم ومجلس الأمن ، وشرفت مصر بحضور عدد من الزعماء التونسيين يحاولون عرض القضية من منبر الصحافة المصرية . وبدا التآلف ظاهراً بين الوزارة التونسية والزعماء الذين أفضوا مضاجع المستعمرين ، فلم يسع الحكومة الفرنسية إلا أن تطلب من الباى إقالة تلك الوزارة ، وصرح المقيم العام (دى هو تكلوك )لجلالة الأمين باى تونس بأن الحكومة الفرنسية ترى أن إقالة وزارة السيد شفيق أمر ضرورى لبدء النظر فى مطالب تونس ، وتطالب

علاوة على ذلك بأن تسحب تونس شكواها التى تزمع رفعها أمام مجلس الأمن .

سارت الأمور على حسب ما يهوى المقيم العام فى تونس ، وتألفت وزارة جديدة عين فها المقيم الفرنسى العام وزيراً للخارجية التونسية وفقا لما تقضى به شروط معاهدة باردو التى عقدت بين فرنسا وتونس فى سنة ١٨٨١ ، والتى تفضى بأن تمثل فرنسا مصالح تونس فى الخار ج ! وأصبح الأمل الوحيد فى حل القضية أن تستجيب الدول الكبرى لطلب الدول الأسيوية والدول العربية بمناقشة القضية التونسية أمام مجلس الأمن . وكان موقف كل من الباكستان والهند مشرفا حقا لهذين الشعبين العظيمين ، فقد بذل السيد بخارى مندوب الباكستان ورئيس مجلس الأمن فى دورة إبريل أقصى جهده لكى يمنع رفض المجلس مناقشة الشكوى ، فقد استعرض أمام المجلس الأحداث التى وقعت فى تونس كما تبدو فى نظر الكتلة العربية الأسيوية ، وقال إن الكتلة قد تمالكت نفسها وتريثت طوال أشهر وأسابيع أملاً فى أن تتم تسوية ودية بين طرفى النزاع . أما الهند فقد صرح زعيمها البنديت نهرو بأنه " إذا لم تناقش الأمم المتحدة المسألة التونسية فسيسود الشعور بأن صوت آسيا وإفريقيا لا يسمع فى هذه المنظمة العالمية ، ولهذا الشعور ، إذا هم ، نتائج وخيمة على الشرق ؛ فإذا لم تستمتع الأمم المتحدة إلى صوت الشعوب الخاضعة للسيطرة الأجنبية تكون قد فشلت فى تحقيق الغرض من وجودها ، ولن يكتب للعالم السلام ما لم ينته الاستعمار - فى آسيا وإفريقيا ".

وفى السادس عشر من هذا الشهر ، رفض جلس الأمن لأول مرة منذ إنشائه إدراج شكوى تقدم بها عضو من أعضائه فى جدول أعماله . فقد رفضت كل من فرنسا وبريطانيا إدراج قضية تونس ، وامتنعت عن التصويت أمريكا وهولند واليونان وتركيا ، وأيدت إدراجها البرازيل وشيلى والصين وروسيا والباكستان ، وكانت القضية فى حاجة إلى صوتين اثنين لترجيح كفتها .

ذلك هو الضمير العالمى الذى تلجأ إليه الشعوب الضعيفة ، وتلك هى المؤسسة العالمية التى كبروا لها وهللوا ، وهذا هو الغرب الذى يدعى أنه نصير الحرية .

اشترك في نشرتنا البريدية