الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 334الرجوع إلى "الثقافة"

فى السينما

Share

قاربت الأربعين وأنا مستمتع في روما بأيام حلوة في كتف صديق نبيل زكي النفس طاهرها ، لقيت في داره ، وعلى مائدته ، وفي رفقة أهله ومعارفه ، وبين كلابه وعصافيره ، جوا من الطيبة والكرم تنتعش له النفس ويهدأ الخاطر تعيش في ظله خادمة إيطالية بدينة ، اسمها " أستير " هي التي تفتح الباب ، وترد على التلفون . رأيتها لطول ترددي علي الدار تتودد إلي ، وتسألني عن صحتي قبل ان تنادى سيدها إلى التلفون ، وتلقاني على الباب بابتسامة وإن انا انقطعت افهمتني انها لاحظت غيابي . لم تستطع ان تنطق اسمي إلا بلهجة اعجمية قد تضحك ، وإن دلت عيناها على أن قلبها لا يتعثر كلسانها . وأكبر الظن انها حسبت أن بي شيئا من شرود الذهن أو نوعا من التلعثم ، فما من مرة لقيتها إلا حاولت جهدى أن اجيبها باسمها فلا أفلح . جاهدت كثيرا فلم أوفق . أذكره أحيانا وأظل أكرره لنفسي وأدقه بمسامير من العزم والإرادة في ذهني ،

وقد ينطق به لساني وأنا في المصعد ، فإذا فتحت الباب طار من عقلي كأنه لم يمر به  قط من قبل وقد تشاء بعض الألفاظ إلا أن تتأبي احيانا على اللسان ، ونحن نحس على رغم هربها أنها كامنة في أذهاننا ، مختبئة أو تائهة . أما اسمها فكان إذا طار ترك في ذاكرتي فراغا كأنه ضرس  مخلوع . والغريب انني كنت اخطئ احيانا كثيرة فأناديها باسم آخر ، وقد لاحظت في شيء من الدهشة انني إذا أخطأت لا أقع إلا على اسم واحد لا يتغير ، فأقول لها : " كيف حالك ياسارة ! " ولم أجد لهذا التلازم تعليلا إلا تشابه الاسمين

وأرقت ذات ليلة ، وعادت إلي ذا كرتي أيام طفولتي وصباي في جو من الغم تزحف كسفه برفق عن يمين وعن شمال . وأخذ ذهني يقلب لي ما فيه من أجداث وقبور . وفي اليوم التالي ذهبت إلي دار صديقي وفتحت لي الباب فإذا بي أقول لها : " كيف حالك يا أستير " .

ومنذ ذلك اليوم واسمها لا يغيب عن لساني . . نشأت في أسرة تتعشق السينما ، رجالا وصبيانا ، لا يخرج

حديث مائدة العشاء عن ذكر الأفلام القديمة والحديثة والقادمة ، وعن ترديد أسماء الممثلين في إيطاليا وألمانيا وأمريكا والمقارنة بينهم . لا اشترك في الحديث - لصغر سني - بل تلتقط اذناي منهم كل كلمة تقال ، وأعتنق اراءهم ، واضحك لضحكهم ، وقد اروي بعض ما سمعت إلي زملائي في المدرسة كأنه مما رأته عيناي .

وانتبهت فإذا بى انتظر يوم الخميس بفارغ الصبر ، فهو اليوم الوحيد الذي يسمح لي فيه بالذهاب إلى السينما . اترقبه منذ صباح الجمعة واعد الأيام والساعات ، اريد ان ينفد العمر فيها كغمض العين

فإذا جاء الخميس - مرحبا بغرة الأيام - تناولت غدائي مسرعا ، وانا قلق متلهف ، واخذت ألح على اخي الاكبر لنخرج ولما تدق الساعة الرابعة . واسير بحانبه وإنا الهث ؛ أي ساحر سحرني ؟ ليست هي دار السينما وحدها ، ولا الرواية ولا الممثل . بل جو خليط من هذا وذاك : واجهة الدار باعلاناتها وصورها الضخمة تكاد تنطق ، وأنوارها المتحركة والتزاحم على بابها ، وتلك الضجة العظيمة التي أسمعها ولما تدخل

" تقدم .تقدم " أقولها لأخي وأدفعه دفعا إلي شباك التذاكر . يمنعني الزحام وقصر قامتي ان اتبين من يكون فيه ، ولكي اعلم انه وحده القادر علي إدخالي . هذا وجهي يحتك بثياب الأجير الواقف على الباب ، وتسمع اذناي بلذة طاغية صوت تمزيق التذكرة . لقد زالت العوائق كلها والحمد لله . . تدخل إلي الصالة ، فإذا بها سوق قائم ، اصوات متعالية ، وهتاف ، وصفير ، ونداءات باعة اللب والفول والكازوزة ، والكراسي من حديد لها مقاعد خشبية متحركة تنطوي بقوة إذا قام الجالس عليها ، فهي لا تنفك تقعقع كصوت الهراسة تسير على الحصى والحجارة ثم تقف الصالة كلها وتلتفت هائجة نحو الألواج ، لأن رجلا دخلها ومعه امرأة . لا بأس . ها نحن في أول مقعد نلقاه

وقد لا يرضيني فأنتقل إلي غيره ، واقدر مكاني من الشاشة ، واحسب حساب من سيجلس امامي ، وادعو الله ان لا يكون رجلا عملاقا طويل القفا

ولقد شاهدت أفلاما كثيرة وانا واقف على قدمي

ويمر وقت يضيق به صدري ، وأنا أتلفت إلي النوافذ أترقب أقل حركة تدل على أن إغلاقها قد اقترب ، وأسأل أخي : ألم يحن الوقت بعد ؟ وأنصت بأذن مرهفة إلي غرفة العرض ، فقد أصبحت عليما بتلك الأصوات الهينة التي تنبعث منها فتدل على أن العامل قد ) شرف ( وأنه آخذ في تركيب الفيلم ثم أصمت يائسا متهما أذني . و ) ترسو ( يصيح ويدق على الأرض بأرجل تسحق قشر اللب والسوداني فأعجب بهم وأقول سرا: يا لهم من أبطال ! ثم ينتقل التصفيق ودق الأرض - بالعدوي - إلي ) سكوندو ( و ) بريمو ( فترتفع في نظري قيمة جيراني . آها هذا النور سخيف ، ثقيل الدم ، أريد الظلام ظلام يبدو جماله إذا شقه عمود من الضوء كأنه الروح في الجسد ، آه يا فرحتي ! هذه هي النوافذ بدأت تتحرك ، وهذا هو الجمهور كالبحر الهائج إذا خفت الريح قليلا ، وهذا هو الجرس يرن رنته المحبوبة . أطبق الظلام وضاعت مني الصالة والعالم كله ، ولم يبق في إلا عينان مسمرتان  على الشاشة . أحب أفلام الشجاعة والفروسية ، والمبارزة بالسيوف ، وركوب الخيل تسابق القطار ، وقفز البطل من هذا إلي ذاك . وأحب كذلك الأفلام البوليسية ، وكلها دهاء ومكر ونصب فخاخ ) وقلب يشارك اللص ، ويستخف بالشرطي ( وجوه تملأ الشاشة وهي تضحك وتبكي . وأين نري وجوهنا وعواطفنا بالمكرسكوب إلا في صالة السينما ؟ ثم تظهر كلمات على الشاشة العربية فتقرأها الصالة كلها بصوت عال كأنه هدير الأمواج ، وبذلك ينتقل المعنى إلي ذهني عنيفا متضخما ، امتزجت حياتنا بالرواية ، فكأننا نعيش مع أبطالها ، فها نحن نصرخ للص أن ينتبه للشرطي يدب

وراءه . ويغيظنا منه أنه لا يسمع تحذيرنا . . ما هذا ؟ هل انتهى كل شئ ؟ كيف مرت الساعتان ؟ ان قلبي لم يشبع . أحقا يقوم ؟ أضاع كل أمل في أن أري أصحاب السينما يرق قلبهم كرما فيضيفون على البرنامج فصلا مضحكا . الجمهور متشبت بالمقاعد يهتف : " لسه فصل ! لسه فصل ! " اسبوع بعد اسبوع وهم لاينالون وطرهم ، ومع ذلك فلم يخب رجائي في يوم من الأيام أن أري المعجزة تتحقق . . أشد يد أخي والأمل كله يتجسم في تلك الشدة ، فأجده يشدني ، وأفهم أن اليأس حتم لامفر منه . أراضي نفسي وأقول لها : امامك الأسبوع القادم . ثم نخرج ونسير تحت بواكى شارع محمد علي ، مصعدين إلي الحلمية . أسمع صوت ) الماشات ( في القهاوي البلدية و ) وش ( موقد كواء الطرابيش ، وتشيش الشواء على عربات اليد في باب الخلق ، وتصل إلى أنفي رائحة دكان بائع الفسيخ - وهي مقفلة - وأنا كالمنوم ، كالحالم ، تبحث عيناي وأذناي عن شئ يأسرها فلا تجد . .

مرضت زمنا ، وخلت أن الحياة قد انقطعت عنى لانقطاعي عن السينما ، ثم قيل لي قد دخلت دور النقاهة ، فقمت لساعتي ، عاصيا ابوي ، مقسما لهم انني شقيت . لم أجهل كم خميسا مر على اعدها واحدا واحدا ، وأتحرق على الأجزاء التي فاتتني من ) السلسلة ( مع أنني انتزعتها منظرا منظرا وحادثة حادثة أكثر من مرة من فم أخي الاكبر . ولكن أين السمع من المشاهدة ؟ إن قلبي غير راض ولا مطمئن

خرجت وجدي ، وكان العمر قد تقدم بي ، وفي جيببي ثمن التذكرة ونصف قرش لشراء اللب والفول ، ومشيت أكاد  أجري ، وبلغت السينما ، ورفعت عيني إلي اللوحة فصعقت وجمد الدم في عروقي ، وركبتني برودة الموت ! يا للخيبة ! ما هذا الحظ السئ ؟ ابعد الصيام الطويل افطر على بصلة ؟ كنت أصبحت خبيرا بالسينما ، اكاد اميز الأفلام جيدها ورديئها من رؤية الصور المعلقة في مدخل الدار

وقد تنحصر نزهتي بعض أيام الجمع في المرور علي جميع دور السينما واستعراض صورها ، والظفر بما استطعت من برامجها . فإذا لم يتيسر لي دخولها فلا اقل من ان ألم بها ، وأطوف حولها ، وأتحسس أنباءها ، وأحلم بأسرارها . . ووقعت مرة في مأزق  ) قرصت ( منه . دخلت السينما عجلا في يوم وأنا لا أعلم أنه يوم عيد عند المسيحيين أو اليهود ، لا أدري - وإذا بالفيلم قصة دينية ، مستقاة من التوراة ، كلها لت وعجن ، وحركات ثقيلة ، وسحن حزينة ، ورعاة بينة سماجتهم ، طويلة عصيهم وقفاطينهم ولحاهم ، وأغنام ونعاج ، وامرأة عجوز تتطلع إلي السماء طويلا ، وشيخ يبارك قوما قد جلسوا القرفصاء . . ليس فيها لص واحد ، ولا مبارزة ، ولا مطاردة ، ولا قطار ، ولا جياد ، فشربتها وخرجت ساخطا . بالله لماذا نسوا ما شيست وشارلي شابلن ؟ إن هذا عذر لا مسوغ له . . وظلم وقلة ذوق وسماجة . وكان اسم الفيلم ) سارة . ( تذكرت سارة وأنا وأقف اتذوق مرارة الغم ، رايت السينما تعلن أنها لمناسبة عيد الفصح قد قررت وقف ) السلسلة ( لتعرض بدلها في تلك الليلة وحدها الرواية الدينية الكبرى ) استير (

لست أنا الذي يلدغ من جحر مرتين . لا لحصافتي بل لخفة جيببى ...استير ! ما أسمج هذا الاسم وما أبرده : فليقل الفيلم إنها تدخل الجنة ، أما أنا فأراها جديرة بالجحيم . وانصرفت يائسا غاضبا وانا أجر رجلى جرا ، كنت وحدي ولا أجرؤ على دخول دار غير تلك التي اعتدت أن ادخلها ، وأخذت أعود القهقري في شارع محمد علي ، تحت البواكى ، لا أسمع ) الماشات ( بل استير ! أعوذ بالله ! ولا ) وش ( موقد كواء الطرابيش . بل استير ! من أين طلعت لي هذه المرأة ؟ ولا تشيش الشواء بل استير  تبا لها وسحقا دكان بائع الفسيخ مفتوح ، ومع ذلك لا أشم رائحته . . ونفذ المقت إلي قلبي قطرة قطرة حتى ملأه ، كرهت استير واسمها كرها شديدا ، ونمت وقلبي يلوك هذا الكره .

اشترك في نشرتنا البريدية