الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 45الرجوع إلى "الرسالة"

فى القاهرة. . .

Share

-1-

مصر. .! أى شفاه تلفظ هذه الكلمة ولا تجري عليها ابتسامة  وسرور؟. . أى نفس لا تغتبط لرؤية هذه الدرة الثمينة، ولا تنعم  بجوها المعتدل ونسيمها العليل؟. . .

أي قلب لا تسحره هذه النسمات يرسلها الربيع فى  أنحائها  فتنتعش الأزهار والرياحين، وتكتسي الأشجار حلتها السندسية البديعة،  يداعبها النسيم فترقص اغصانها، وينبعث من حفيفها هذا الأريج  العطري، وذلك العبير الذكي، فيشيع فى  جو القاهرة روح الحياة،  ويسرى فى  عروقها دم الشباب ونشاطه وأى إنسان لم تملك عليه القاهرة حسه بسحرها، وتفتنه بطيب هوائها وعذوبة نيلها، وأى قلب لم  تستلبه هذه الغادة الحسناء بفتنتها عند اشراق شمسها فى  الصباح الضاحى  الجميل، وعند غروبها غارقة فى لجة من دماء الشفق، تقتتل فى  حمأتها  الملائكة والشياطين.

مصر التى  حملتنى اليها أجنحة الخيال قبل ان تقلنى عربة القطار،  مصر التى  سحرتنى الأحاديث عنها قبل أن تأنس العين بمرآها

أجل! رأيتها! وتمتعت بها اياما، وقضيت فيها اسبوعا، وتحققت  لى برؤياها أمنية من أحب الأمانى التى خفق بها قلبى.

مصر العظيمة الجبارة، مصر الساحرة الفاتنة، تبتسم لى وانا  أطل عليها من نافذة القطار بعين الشغف والوله، هي تبتسم بأنوارها  الساطعة، وتضحك باشراقها المهيب الصحراء القاحلة، وطلعتها  الفتية الجميلة بين باسقات النخيل، والسهول المترامية الاطراف،  يسقيها النيل الهادئ الوديع رحيقا سائغا شهيا، فترتشف منه حياة  قوية فياضة، ويتضاعف من مائه نموها وازدهارها

أى عين لا تطيل النظر ذلك النهر العظيم تستطلعه أنباء الماضى  الحافل، وما تحمله هذه الأنباء من الذكريات المفرحة المؤلمة، وما  تخفيه موجاته الهادئة من عبارات التقديس والتبجيل وهو يسير  رويدا، حاملا أثقالا مرهقة من الأسرار الغامضة؟

هو يسير كما كان منذ آلاف السنين لا تعوق مجراه تقلبات  الأجيال ولا نزعات النفوس.  لكنه الآن ينظر بعينيه الحزينتين  المغرورقتين بالدموع الى الانقلاب العظيم الذى وقع لبنيه، ويشعر  بهذا الألم القتال يحز قلوبهم ويدمى أفئدتهم.

لقد شاهد النيل العظيم مجد مصر القديم وأبهة الفراعنة، والآن  يشاهد ذل بنيه وخضوعهم، يشاهد زمام أمورهم بين أيدى العدو،  ويرى مفتاح ملكها الخالد قبضته، بعد أن كانت تتقلب موجاته  فى مدارج العز، وتصطفق بين معالم الفرح والرخاء والأبهة التى أحرزها  بنوه الأولون. أما الآن فهو يتقلب متهدما بين الأسى والألم،  كالشيخ ثكل أبناءه الواحد إثر الآخر، فهو صامت خاشع، يميد  من ألم الحزن على ما أصابه الدهر بنيه،. . يكتم لواعجه فى غوره  العميق، ويخفى دموعه الغزيرة بين طيات المياه فتزيدها اندفاعا  وانحدارا، فتبكى مصر نيلها الجبار، ويبكى النيل وطنه العزيز، وتئن  مصر فى موسيقى موجه الخافت، وتتوسل الى الله أن يرفع عنها نير  العبودية فى أناشيده الناطقة الصامتة. .!

أى مصر!. . لقد طبعت فى نفسى صورتك الخالدة، ونقش  اسمك المقدس على صفحة قلبى بحروف بارزة لا تنال منها الأيام.  أى مصر الحبيبة! أى مصر: يا درة الشرق الغالية، ومعبودة الجميع،  لقد ملكتنى وجعلت من نفسى أسيرة الأبد لحبك وهواك. .!

دمشق

اشترك في نشرتنا البريدية