(تتمة)
ذكرت في المقال السابق أن المؤنث ليست له علامة خاصة به من حيث كونه مؤنناً باعتبار الجنس ، وأن بعض الجموع والمصادر والصفات الدالة على المبالغة ، والأمور المعنوية ، تلحقها نفس العلامات التي تلحقه . وقلت إن السلة بينها جميعاً هي الدلالة على القوة وبلوغ النهاية ؛ ووعدت أن أوضح سبب نظرة الساميين إلى هذه الأشياء نظرة الاكبار والتعظيم .
أتى على الانسان عصر كان يقدس فيه القوى الطبيعية ، المنتج منها و المدمرة يتعلقها بالعبادة والقرابين استرضاء لها واتقاء لشرها
كان يقدس الربع ، لأنها إذا سخطت أنت صرصراً عانية ، تعبت به وبكوخه ومتاعه ، ونزار زئيراً يقشعر له بدنه، وترتجف منه أوصاله ؛ وإذا رضيت أنت رخاء لينة ، تخفف حدة الفيظ ، وتر الشتاء .
كان يقدس الشمس ، لأنها تبعث في الحيوان والنبات الحياة والقوة ، وتجلب الضوء فتمكنه من السى في مناكب الأرض والخروج للصيد ، وتجمل من رمال الصحراء (۱) ناراً متقدة ، و من حرم ضوءها ذوى وذيل .
وكان ينظر إلى السماء وما حوت نظرة تقديس وإجلال : نيراها موطن الأجسام المتلألثة اللماعة ، تهديه في شراء ، وتمن عليه بالضوء ليلاً ونهاراً ، ويتطلع إليها لأنها مصدر القوى المسيطرة على العالم
وكان يري في الأرض أما يسكن إليها إذا ربع ، ويستمد طلبها في طعامه ، وشرابه ، وحياته . درج عليها صغيراً ، وجاب نواحيها كبيرا . زرع فيها الحب فآتي أكله ، وغرس فيها الشجر فأثر .
وكان يرى في السحب إله الرحمة، تنفع غلته من حياها، وتنمى زرعه من غينها، وما والماء فتربو الأرض وتنتج من كل زوج بهيج
وكان يرى النار مصدراً للخير والشر ، تنضج له طعامه ، ونفى له كوخه ، وتلهم كل ما يملك
اعتبر كل هذه القوى أشياء طبيعية ، خفية ، غامضة ، ذات قدرة سحرية ، قادرة على النت الضر ، فأشار إليها بضمير خاص مميزاً لها عن بقية الأشياء التي تقع تحت سمعه وبصره ، ذلك الضمير الذى يشير به إلى الأنى ، وكانت في نظره قوة منتجة ذات تأثير بين في حفظ النسل وإخراجه إلى الحياة وتعهده بالرضاعة والنمو، ولأنها الغزلم يستطع إدراكه، فهو لا يستطيع الحياة بدونها، ويجدها مصدر للمطف والرحمة ، واللذة والألم ، والقسوة والصبر
وكان عند العرب من العرافات والكوامن في الجاهلية عدد لا بأس به كطريفة الخير (٢) ، وسلمى الهمدانية (۳) وكان الآشوريون وهم أقدم الأم السامية وأقربهم إلى الأمة الأصلية ، يعتقدون أن المرأة وحدها هي التي تستطيع أن تفهم السحر وتقوم بالأعمال السحرية ، وأنها تعرف أسرار الغيب ، والتكهن بالمستقبل
وكان عند العرب من العرافات والكوامن في الجاهلية عدد لا بأس به كطريفة الخير (٢) ، وسلمى الهمدانية (۳)
وكان العرب يسمون كثيراً من المهم بأسماء الاناث ، ولا أقدمها وأعظمها ، فكانت ( مناة » أعظم أصنام الأوس والخزرج ، وكانوا يجلونها وتعتبر أقدم أصنامهم (4) . وكانت اللات » أكبر أصنام ثقيف . وكانت « المزى » أعظم أصنام قریش، يزورونها ، ويهدون لها ، ويتقربون إليها . وقد قيل إن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكرها مرة فقال : « لقد أهديت للعزى شاة عفراء وأنا على دين قومى ، (٥). وهذه الأسنام الثلاثة هي التي خصها القرآن الكريم بالذكر تلك كانت نظرة الساميين القدماء للانثى : اعتبروها قوة من
القوى المنتجة ، ونسبوا إليها القدرة على القيام بالأعمال السحرية والكهانة والعرافة
ولذلك أنتوا كل المكلامات الدالة على القوة ، والتي ترمز إلى أمر خطير ذى أثر بين فى حياتهم : أنتوا الخمر لأنها تجلب إليهم المرح والسرور ، وتنسيهم أحزانهم وآلامهم ؛ وأنتوا الروح والنفس، لأنهما من القوى الخفية التي بها يحيا الانسان وبدونها يصير جثة هامدة ، لم يقفوا على سرهما وكنههما : ( ويسألونك من الروح قل الروح من أمر ربي » . والنفس عندهم تعنى الدم والنفس ، ولا زال النفس بعد قوة سحرية ، يسلطه السحرة على الأفاعي لتسكن إليهم وتطيع أوامرهم ولا تؤذيهم . وكانوا ينفخون على الجروح لتبرأ ، ولازال هذا معمولا به إلى لرم وأنتوا الحرب، لأن فيها ضرا وفيها نفعاً ؛ يتخذونها مورداً لأرزاقهم ، فيسبون ويغنمون ، وإن كانوا يعرضون أنفسهم للتملكة ؛ وتاريخ العرب في الجاهلية على ذلك شهيد
وأنتوا من أعضاء جسم الانسان أحد عشر عضواً ، كاليد والأذن والعين ، لأنها أوعية القوى التي يكون بها الانسان إنساناً ؛ وكانت اليد عندهم آلة البطش والقدرة والتأثير : ( يدُ الله فوق أيدهم » . « بيده الملك »
وأنتوا من الآلات أحد عشر اسما ، كالفأس والرحي والدرع ، لا ها تنجم على الانتاج والدفاع والقوة
وربما قال قائل : إن كل الأسماء التي ذكرتها خالية من علامات التأنيث ، وقد اعتبرها العرب مؤنثاً مجازياً . وأقول : هو ذاك ؛ هي مؤنثة باعتبار الفكرة التي كانت تدور في أذهانهم ، ومع ذلك فالعلامة ليست شرطاً في التفرقة بين المؤنث الحقيقى والذكر . خذ مثلاً : الأب والأم . والحصان والفرس، والحمار والأنان. وتجد أن الصفات التي اختص بها المؤنث لا تحتاج إلى علامة مثل : مرضع . امل وحائض وعاقر ، وثيب وعانس . وذلك لأن فكرة التأنيت عند ذكر هذه السفات والأسماء كانت حاضرة في مخيلهم . ربذهب السلامة بروكلمان إلى أبعد من ذلك فيقول : لم تكن الحاجة ماسة في أول الأمر للتمييز بين المؤنث والمذكر بعلامة ، إذ كانت الطبيعة قد وضحت بينهما . وهذه المكالمات التي ذكرت أنها تعتبر من أقدم الكلمات في اللغات السامية (1) . ووضعت علامة التأنيث فيما بعد لما اعتبره الساميون مؤنثاً لتقوية
الكامة وتشديدها ، وزيادة تمييزها عن غيرها (1)
أما الأمور المعنوية ، كالرحمة والقسوة ، والشفقة والبغضاء ، والبلواء ، والسعادة والبأساء ، فلأنها أمور دقيقة لم يستطع ذلك الانسان الفطرى إدراك كنهها، وإنما عرفها بآثارها للمظاهرة المحسوسة ، فألحقها بالمؤنث ، ووضع لها العلامة لأن فكرة التأنيث سيا ربما كانت غامضة ، أو ضعيفة فقواها
أما الجموع فأصرها هين ولا سيما مجموع العقلاء ، مثل عامل وعملة ، وكاتب وكتبة ، وصبي وصبية ، وكرماء وأشداء وعظماء وأقوياء (٢)، إذ أن الجموع قوة تستطيع أن تفعل مالا يفعله الفرد أما المصدر ففكرة مجردة ، ويقول العلامة ( دلمان (٣) إن الفكرة المجردة تحررها الانسان كقوى منتجة خالفة ، ولذلك جاء الكثير منها مؤنثاً .
ويمكنك أن تدرك الفكرة التى حدث بالساميين إلى تأنيث بعض الأسماء والصفات في تلك النموت التي تدل على المبالغة وبلوغ النهاية مثل : راوية ونابغة ، وداهية ... الخ .
أما أمكنة الاقامة ، كالمدينة ، والقبة ، والدار ، فلاتصالها بالأرض ، وقد بينت في أول المقال كيف نظر الساميون إلى الأرض . وتسألنى ما بال البيت مذكراً ؟ . نعم إن البيت مذكر ، ولكن أثراً من أثار صيغته الأصلية المؤنثة لا يزال موجوداً في اللغة الآشورية ، حيث يستعمل مذكراً تارة ومؤنثاً أخرى ، كأجزاء الأرض مثل الطريق ، والسبيل . ولعلك تتذكر أني بينت في المقال الأول كيف تخرج هذه الكلمات من المؤنث تدريجاً لضعف فكرة التأنيث فيها .
ولعلى أكون قد وفقت في توضيح هذه الفكرة التي حدت بالساميين لتأنيث بعض الأسماء وتذكير بعضها الآخر، فالفرض من علامات التأنيث هو تقوية الكلمة ، والضغط عليها ، وإظهارها بمظهر الشدة ، لما ترمز إليه من المعنى للقوى ، والأمر الخفى ذى الأثر والنفوذ والقدرة السحرية .
