الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 609الرجوع إلى "الثقافة"

فى النقد الأدبى, صور طريفة من معلقة قديمة، الطبيعة

Share

... ويرخى الليل سدوله على امرئ القيس ويتقدم عليه شيئا فشيئا ، فيمضى فى الفلاة هيمان الخطى يبث الليل ما يعتلج فيى قلبه وما يجيش فى صدره من عواطف ومشاعر . أرخى الليل عليه سدوله كموج البحر فبدا قلقا ضجرا . أيصبر أم يقنط ؟ أيفرح أم يحزن ؟ كان امرؤ القيس أسرع إلى القنوط منه إلى الصبر ، وإلى الحزن منه إلى الفرح ؛ فدعا الليل أن يسرع فى سريانه والزمن أن يهرع فى جريانه ولكن امرأ القيس تصور أن الليل لا يقدم رجلا إلا ليؤخر أخرى ، ولا ينهض إلا ليهبط ، ولا يرفع صدره إلا ليخفض صدره ، ولا يأتي إلى وسطه إلا ليرجع إلى أوله ؛ فيدعو امرؤ القيس أن ينجلى وأن ينقشع عن سبح باسم مشرق بهيج ، ليس كهذا الليل الذي تجمعت فيه الهموم وتكدست فيه الأفراح .

ولكن امرأ القيس يضرع إلى الليل وهو لا يسمع ، فنجومه قد وقفت فى السماء لا تتحرك ولا تنتقل كأنها قد ثبتت بفتل محكم إلى طود شامخ يرسخ فى قلب الصحراء . ذلك الطود هو يذبل ، وكأن هذه المجموعة من النجوم التى يطلقون عليها الثريا قد شدت بأمراس كتان إلى أحجار صخرية صماء ؛ فهى لا تتحرك جهة اليمين أو جهة اليسار ولا تتقدم إلى الأمام أو إلى الخلف . ماذا ! ها هى ذى النجوم الواقفة قد سارت ، وها هى ذى الثريا الثابتة قد تحركت ، وها هو الليل الهابط قد ارتفع وانبثق أول خيط من خيوط الصباح ، وانسكب النور على امرئ القيس فغمره وهو يمضى فى الصحراء رويدا رويدا . .

فلندع امرأ القيس يمضى فى الصحراء رويدا رويدا ، ولنقف عند منابع الحسن وينابيع الجمال فيها ، لا شئ إلا لأنه قد وقف على معين من الماء يملأ قربته ، ولا لشئ إلا أننا نريد أن ننتهز هذه الفرصة لنمنح أبياته نصيبها من الحسن والقبح .

تشبيه امرئ القيس بموج البحر تشبيه مبتدع مخترع ، ولتعلم ابتداعه واختراعه يجب أن تتصور الصحراء القفرة المجدية التى لا تقع العين فيها إلا على الرمال الصفراء والسماء الزرقاء ، والنخيل الذى يضرب فى عنان السماء ، والبيوت الصغيرة ، أو الخيام التى تضرب طنيها فى أديم الأرض ، ونتصور بعد ذلك امرأ القيس يشبه الليل فى هذه البيئة المحدودة بالبحر . .

ليس من شك فى أنك توافقنى على أن هذا التشبيه مبتدع مخترع ، لأن امرأ القيس قد طوف فى أقطار شتى وشاهد البحر فرسخت صورته فى ذهنه حتى إذا ما عاد إلى وطنه دفع إلى هذا التشبيه دفعا . .

وصدقنى أيها القارئ العزيز أنى لا أذكر هذا البيت إلا وألحظ على ثغرى ابتسامة عريضة أخاف أن تتحول إلى ضحكة عالية مدوية فى أرجاء المكان ، ولست أخاف أن أضحك لأن هذا البيت ضعيف حتى إنه يبعث على ابتسامة الرثاء ، أو قبيح حتى إنه يدعو إلى ضحكة الاستهزاء ، إنما أبتسم وأخاف أن أضحك لأنى أذكر ما كان بين عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب بعد أن مات امرؤ القيس بأعوام طوال فى ركوب البحر وغزو مصر . فالعرب كانوا يرهبون

البحر . عمرو بن العاص كان لا يجد دافعا لهذه الرهبة ، وعمر بن الخطاب كان يجد دافعا لهذه الرهبة ؛ فقام بين الاثنين نقاش عنيف وجدال صاخب . عمرو بن العاص يريد ركوب البحر ويغرى الجيش على ركوب البحر ، وعمر لا يريد ركوبه ويمنع الجيش في شئ من الحدة وشئ من العنف . ولم ينقذ عمرا من هذا الجدال إلا ذلك الوصف الأدبى الذى وصف به البحر . وفيه أنه خلق كبير يركبه خلق صغير وما إلى ذلك ، واستطاع أخيرا أن يأخذ السماح من عمر بركوبه مع من أراد من جنده ، ولكن عدم ركوب البحر لا يمنع من معرفة البحر ، ولكن هذه المعرفة لم تكن إلا لهؤلاء الشعراء الذين طوفوا في الآفاق وجابوا شتى الأصقاع وبلغوا السواحل والشطئان وعرفوا شيئا عن التجارة بين البلدان ...

وامرؤ القيس بعد ذلك التشبيه المبتدع المخترع يصور همومه وأشجانه التى ألقاها عليه الليل ليعلم هل ييأس أم يصبر وهل يتحمل أم لا يتحمل ويصور حديثه مع الليل في أسلوب قصصى لطيف طريف كأنه عمر بن أبى ربيعة وهو يسوق فى أسلوبه القصصى الجميل شعره ؛ ويصور امرؤ القيس الليل وقد هبط بتقله على الكون في معنى سهل رائع و إن كان فى مبنى صعب خشن ، ولكنه لا يلبث أن يسهل وأن يلين فى البيت الذي يليه حين يدعو الليل إلى الانقشاع والانقشاع الذى يصحبه الصباح السعيد فيمضى المعنى والمبنى جميلين رائعين .

وتشبيه النجوم فى ثباتها كأنها قد شدت بفتل إلى طود شامخ تشبيه مصيب كل الإصابة بين لهفه الساهد الذى طال به الأرق علي زوال الليل وبين ثبات النجوم في عينيه . وأنت تستطيع أن تقول هذا التشبيه كما قاله امرؤ القيس منذ قرون فتنال اليوم إعجابا وتقديرا مستطايا على شريطة أن تغير لفظة يذبل الغريبة على أسماع أبناء العصر الحديث القريبة من أسماع أبناء العصر الجاهلى ؛ بل إنى أذكر أنى قرأت لفيكتور هيجو الشاعر الفرنسى الرومانسى المشهور قصيدة فيها بيت بهذا المعنى يصور فيه الليل في التلال بين مونتليون وسانت لو فى فرنسا .

وكذلك أعتقد أن تشبيه امرئ القيس للثريا تشبيه رائع ما فى هذا شك ؛ ولكن امرأ القيس انتقل بعد ذلك إلى وصف نفسه وهو يحمل قربته أو قربة صحبه بتعبير أدق ، ويمضى فى رحلة عبر واد خال خاو كجوف العير الوحشى لا ينتفع به ؛ ولكن ما هذا الصوت البشع المنكر الذى يأتى من بعيد ، فيسعى إليه امرؤ القيس ويسعى حتى يدنو منه ...

ترى ماذا وجد امرؤ القيس ! إنه ذئب يعوى كالرجل المقامر الذى يقامر مع أنه صاحب أسرة وصاحب أبناء . يسعى امرؤ القيس إلي الذئب غير هياب ، ويسعى الذئب إلى امرئ القيس غير هياب ، ويدور بينهما حديث عجيب .

امرؤ القيس لا يغنى عن الذئب شيئا والذئب لا يغنى عن امرئ القيس شيئا . امرؤ القيس يطلب أمرا . والذئب يطلب أمرا ، فلن ينفع أحدهما الآخر . ومن طلب من امرئ القيس شيئا لن يناله ومن طلب من الذئب شيئا لن يناله . فمن ابتغى من أحدهما مأربا فقد تعب ومات هزالا ..!!

لنقف عند هذه الأبيات وقفة قصيرة ؛ فقد زعموا أنها ليست لامرئ القيس ، إنما هى لتأبط شرا أو الشنفرى من صعاليك العرب ؛ ونحن نرجح أنها ليست له ، لما عرف به امرؤ القيس من السؤدد والمجد ، ولكننا ذكرناها في المعلقة حتى تحلل كل الأبيات التي تنسب إلى المعلقة ؛ وعلى أية حال فالأبيات تدل على البؤس والفقر ، والشاعر يحمل علي عاتقه قربة كأتباع وجوه القوم عند الرحيل ، والشاعر يشبه الوادى القفر بجوف العير الوحشى الذى لا يجدى فتيلا . والشاعر يعطينا فكرة جلية عن الصحراء وما فيها من حيوان كاسر جاسر كالذئب ، وعن حياة العرب بين خمر وقمر ؛ والشاعر يصور الحديث الذى جرى بينه وبين الذئب فى أسلوب قصصى لا يخلو من جاذبية ، ويبين أنه لا يملك للذئب شيئا كما لا يملك الذئب له شيئا ، مما يدل على الأثرة ويتم عن القحط والجدب الذى يتمثل فى الصحراء ، والاستهتار الذي يتمثل فى خلق كل منهما لضياع كل ما يظفر به ويستحوذ عليه . وقد كتب البحترى فى العصر العباسى قصيدة يصور فيها ماجرى بينه وبين الذئب ، تعد من روائعه وبدائعة ، بل إن شعراء الغرب قد كتبوا فى وصف ورثاء حيواناتهم قصائد شتى ، فليس هذا الفن عبثاً

أو طيشا ، وليس هذا اللون غريبا أو عجيبا ، وتحضرنى الآن قصيدة للورد بيرون الشاعر الإنجليزى الذائع الصيت يوجهها إلى كلبه الوفى الأمين .

لنرجع إلي امرئ القيس وهو يغدو ممتطيا صهوة جواده الضخم الفخم ليدرك الوحوش ويقترب منها ، أو يصبح قيد أنملة منها كما يقولون ، أو يصبح بمثابة الفيد منها ، كما يريد أن يقول امرؤ القيس ؛ والطير لا تزال في أوكانها في فتن الجبال . ففرسه هذا يصلح للكر ، ويصلح للفر ، حسن الإقبال ، حسن الإدبار ، إذا ما عدا بدا كأنه صخرة شماء قد حدرها السيل من القنن العالية ، وفرسه هذا أملس الظهر ، وعلى ضموره  ونحوله إذا عدا جاش صوته كما تجيش القدر فى غليانها . سهل سلس العدو ، كما يسح السحاب بالمطر فى سهولة وسلاسة ويسر ؛ على حين أن غيره من الأفراس تفتر قوتها ، وينى عدوها ، وتثير حولها نقعا كثيفا وغبارا صفيقا ، و تركل بأرجلها ركلا إذا عدت فوق أرض غليظة ، وفرسه سريع حتي إن الغلام الخفيف إذا ما امتطى صهوته سقط ، والرجل العنيف إذا ما امتطى صهوته لم يتمالك أن يصلح ثيابه ويعدل قوامه ، وهو نشط سريع خفيف كالخذروف الذي يلعب به الصبى ؛ فكأن له كشح ظبى وساقى نعامة ، وكأن جريه جرى الذئب ، وهبوبه هبوب ولد الثعلب ؛ ولفرسه ذنب سابغ ضاف ينحدر بين رجليه لا على جانبيه ؛ فإذا كان قائما عند البيت غير مسرج لاح ظهره أملس كمداك العروس فى صفائها وملاستها ، أو كالصلابة التى يعرض فوقها الحنظل فيلمع ويسطع .

والواقع أن هذه الصور التى أتى بها امرؤ القيس فى وصف فرسه صور فيها كثير من الحركة والحياة ؛ ففرسه يجيش دون أن يستحثه على الجرى ، أو يقرعه بألهوب ، وهو سهل الحركة ، كما يسح الماء من السحاب فى سهولة ؛ والجواد حين يسقط الخفيف ويؤرجح العنيف يدفعنا إلى استحضار صور عدة ذكر لنا امرؤ القيس بعضها ، ودفعنا إلى ذكر البعض الآخر ؛ فالجواد يعدو ويعدو والغلام فوقه يحاول أن يأخذ سمته فوقه ويحفظ اتزانه فيقبض على زمامه ويشتد في قبضته ، فلا يفلح في شيء من هذا ، ولا يلبث أن يهوى على الأرض متدحرجا متحطما أو كالمتحطم ؛

والجواد يعدو بالرجل الثقيل وهو يحاول أن ينصب قامته ويعدل أطراف ثوبه التى جذبها الريح جذبا وتدفعها دفعا ، فلا يستطيع أن يفعل شيئا من هذا . وقد أتى امرؤ القيس بعد ذلك بتشبيهات شتى لكشحى الفرس وظهره . وأكبر الظن يا سيدى أنك ضقت بهذه الأوصاف التي لا نهاية لها ، ولكن صدقنى يا سيدى لو أن شاعرا صاغ هذه المعانى التى أرادها امرؤ القيس فى وصف حلبة من حلبات السباق فى الجزيرة ، أو مصر الجديدة ، أو اسبورتنج فى أسلوب سهل سلس واضح قريب الألفاظ ما وجهنا إليه عتبا ، ولما وجدنا فى شعره طعنا ، وصدقنى كذلك يا سيدى أن هذا ليس عبثا ، أو ما يشبه العبث ، وليس لهوا ، أو ما يشبه اللهو ، إنما هو جد أشد ما يكون الجد ، لا فى الأدب العربى فحسب ، بل فى الأدب الأوربى أيضا ؛ فقد فرغت منذ يومين من قراءة كتاب فى صفات الجياد ألفه أحد الكتاب المحدثين فى انجلترا فى حوالى خمسمائة صفحة مزينة باللوحات والصور .

اشترك في نشرتنا البريدية