كانت رحلتنا هذه المرة رحلة شتاء ، في الصحراء ، وللصحراء جمالها الساحر ، سكون عميقين يهدي الاعصاب ، وصفاء جو ينعش النفس ، وانس بالطبيعة كما خلقت ، فليس يقع النظر فيها على عمل من أعمال الإنسان ، فلا زرع ولا بناء ، ولا جند ولا حكومة ، كل شئ فيها من عمل الله وحده من غير تدخل احد ؛
جو فسيح طليق تتجاوب فيه الرياح ، فلا يحبسها بناء ، وتمس تسطع فلا يقيدها قيد ، وللهواء والشمس طعم ولون ورائحة غير ما لهما في الحضر . يشعر الإنسان فيها بقربة من الطبيعة وقربه من ربه ، ويشعر بلذعة من عيشته الحضرية في جو مصطنع كل ما فيه وليد التكلف والرياء والنفاق .
وامعنا في طريق السويس حتي وصلنا إلي منتصف الطريق ، فعرجنا يسرة ، وبعدنا عن مسير الناس في غدوهم ورواحهم ، ثم تخيرنا مكانا نستطيع فيه ان نستدفيء بالشمس إذا شئنا ، وننعم بالظل إن اردنا
وكنت في رفقة من العقليين المتفلسفين ، يحلو لهم الحديث في الفلسفة في كل شئ ، فهم قادرون علي أن يخلقوا من الحبة قبة ، ويؤلفوا من الهنة كتابا وهم بطبيعتهم وثقافتهم يتفلسفون كل ما يقع سمعهم وبصرهم ، ويستخرجون منه ما لا عين رأت ولا إذن سمعت . ولذلك أعددت نفسى لرؤية منظر " جامعة في
الصحراء " ، أو إعادة ذكري مذهب المشائين ؛ ولكي ما استطعت ان اقرر وجهة الحديث ولا موضوعة ، وإن كنت توقعت أن يكون بطلا الحديث رجلين ، أحدهما تفلسف في مصر ، ثم أتم فلسفته في فرنسا ، وقرأ كثيرا حتي كاد يلتهم الكتب ولا يأتي حديث عن كتاب
إلا وصفه لك في إفاضة ، وشرح نوع فلسفته وقول نقدته ، وهو - كما يقول العرب فيه علمه أكبر من عقله ، ولنسمه على عادة النحويين يزيد والأخر متفلسف في مصر فقط ، لم يقرا كما قرأ الاول ، ولكنه فكر طويلا في قراءته القليلة ، فكان عقله اكبر من علمه ، ولنسمه بعمرو وهما في حديثهما دائما كالضرتين . لا يقول أحدهما رايا إلا نقضه الآخر ، ولا يذهب احدهما
ناحية إلا يذهب الآخر ؛ يدل زيد بعلمه الواسع ، ويدل عمرو بنقده اللاذع ، ويفخر الأولي بغذائه الشامل ويفخر الآخر بهضمه الكامل . ولكن رجوت أن صح الجو والقصد إلي الراحة يجعلان من خلافهما وفاقا . ومن فلسفتهما شعرا ، ولكن خاب ظني ، فما بالطبع لا يتخلف ، ويموت الزامر وإصبعه تلعب
بدأت الحديث بالتغزل في الصحراء وجمالها ، والجو وصفائه ، ونسيت فعمقت ، فقارنت بين جمال الريف وجمال الصحراء ، وجمال الزرع وجمال الرمل ، وجمال البساطة وجمال التركيب ، وجمال الخلقة وجمال الصنعة ففتحت من حيث لا إدري بابا من الجدل لا ينتهي ، وكان هذا كل نصيبي من الحديث ، ثم استطار الشر بينهما .
زيد - أتظن يا أستاذ - أن هناك في الخارج شيئا اسمه جمال ؟ إننا نحن بأنفسنا نخلق الجمال ، إن الامر في الجمال ليس كالأمر في " الترمومتر " المعلق على الحائط يريك درجة حرارة الحجرة من غير ان يكون لنا دخل
في ذلك ، بل هو كالترمومتر " نقيس به حرارتنا ، فهو لا يبين شيئا ما لم نضعه تحت لساننا ؛ إنه ليس كاصل لجمع وحاصل الضرب ، هما كذلك في الخارج أخطأنا أم اصبنا ، بل هو كالشئ تذوقه فتستحلية ، ويذوقه الآخر فيستمره ، والأكل تستطعمه انت ويستقبحه
غيرك ، وكلا الحكمين صحيح إن الصورة الفنية المعروضة لا قيمة لها في ذاتها ، وإنما ذوقنا هو الذي ينشئ جمالها ، ولذلك إذا لم يكن ذوق يستجملها لم تكن جميلة . والجمال مقصور على من له ذوق يذوق جمال الصورة ، وإن شعر امرئ القيس وابي نواس والمتنبي وشوقي ليس له قيمة
ذاتية ، إنما جماله لئن مرن ذوقه على نحو خاص حتى صار يتذوق جماله ، فإذا لم يكن الذوق لم يكن الجمال ؛ فليس جمال الشئ صفة خارجية كوزنه مثلا ، وإنما هو ذوق فينا ، ولذلك لا يختلف الناس في زنة الشئ . ولكنهم يختلفون جد الاختلاف في جماله .
إن العلم الآن لا يؤمن إلا بالمنظور والمسموع ، لا كما كان العهد في القرون الوسطى يؤمنون بالمتخيل والموهوم . وعلم النفس الحديث أبان أن الحكم على الأشياء - ومنها الحكم بالجمال والقبح ناتج من عوامل كثيرة لاشعورية ؛ فالذوق قد يستهجن قطعة موسيقية ويكره - دائما أن يسمعها ، فإذا حلت ذلك تحليلا دقيقا رأيت أنها
لا ترجع إلي القطعة نفسها ، ولكنها سمعت لأول مرة في ظروف سيئة للشخص أوحت إلي عقله الباطن كراهية هذه القطعة ، غفل بكرهها دائما ، والقطعة الموسيقية نفسها لا دخل لها في ذلك . وكذلك تري من الناس من يكره اللون الأصفر أو الأزرق لأسباب خاصة حدثت له ، وقد ينساها وبقي اثرها في نفسه ؛ أما اللون نفسه فلا شأن له بالكراهية أو الاستحسان .
كل هذا وأكثر منه كشفه العلم ، فأصبح من يقول بالقيمة الذاتية للجمال طراز قديما
هنا احمر وجه صاحبنا " عمرو من لفحة الهواء والشمس أولا - ومن كلام زيد ثانيا ؛ وقال : هذا قول هراء يحملكم عليه إيمانكم دائما بما في الكتب ،
وهيامكم دائما بالجديد وإن لم يبين على أساس صحيح .
لو صح قولكم لم يكن لصورة فضل على صورة ، ولا لشعر فضل على شعر ، ولا لجمال امراة فضل على اخري ، وكان كل ذلك يرجع إلى الذوق الشخصي فقط ، ولكان شعر أبي نواس والمتنبي وشوقي كشعر باحقر شاعر ، كل ما هنالك من فرق أن هذا يستحسنه ذوق ،
وذاك يستحسنه آخر ، ولما كان هناك معني لقولنا شعر عظيم وشعر حقير ، وصورة رائعة وصورة قبيحة ، إلا أن يكون تعبيرا فقط عن شعور القائل ؛ ولو كان هذا كافيا لحكمنا على الصورة الجميلة أو الشعر الجميل بعدد الأصوات ، بقطع النظر عن ذوق راق وذوق غير راق ، وذوق الفنيين وغير الفنيين ، وهذا ما لا يسلم به عاقل . اما علي رأيى فالأمر واضح ، وهو أن هناك ذوقا راقيا وذوقا غير راق ، ومعنى الذوق الراقي أن صاحبه يدرك في الشئ
العربي أو المسموع صفات ذاتية فيه لا يدركها الذوق غير الراقي . وعلى اننا لم نقل إن جمال الشئ وقبحه كوزن الشئ محل وفاق ، ولكنه محل خلاف ، وسبب الخلاف بين الناس الاختلاف في الذوق ، ومعنى الاختلاف في الذوق أن بعض الأذواق قادر علي إدراك صفات الجمال والقبح في الشئ ، وبعضها غير قادر . وإني أومن
بأن الذوق يختلف باختلاف زمان الشخص ومكانه ، وبمقدار المدنية التي يعيش فيها وبمقدار ثقافته ، وبمقدار مزاجه وسنه ، وبنوع وراثته ، ولكن ليس معني هذا أن حكمي بالجمال والقبح يقتصر علي حالتي النفسية والعقلية ، وان ليس هناك صفات خارجية في الشئ المحكوم عليه
ما الذي دعاك - يا أخي - إلي أن تخرج معنا إلي الصحراء تتحسس جمالها إن لم يكن هناك إلا الذوق ؟ لقد كان يكفيك ذوقك في بيتك ، وفي أي منظر يقع
عليه حسك - ولماذا قصر ذوقنا على إدراك الجمال في أشياء خاصة كالموسيقي والشعر والتصوير والطبيعة ، ولم يتعدها إلي غيرها ؟ اليس ذلك لان فيها صفات خاصة إذا توفرت في الشئ كان جميلا ، وإن لم تتوفر كان قبيحا
ومدت مائدة الصحراء ففرشت صحف الجرائد ، وانقلت بالصحاف ، من دجاج ولحم وبطاطس ، ثم موز وبرتقال .
وأخذ صاحبنا ؛ عمرو يلذع صاحبنا " زيدا بنوادره ، فيقول : ما اشهي اللحم " ولكنه ياأخي ليس شهيا في ذاته ، فإذا حورت ذوقك وجدت القول الثابت اشهى ، والجبن بالفجل الذ في حمرة البرتقالة واستدارتها جمال ، إنما هو ذوقك ، ولو أن ذوقك استجمل حجرا مدورا وفضله على البرتقالة في جمالها لم يكن ثمة محل للجدل ؛ ويتبع كل لذعة منه بضحكة تستخرج ضحكنا
وانتهينا من الأكل ، ورجوت أن ينتهي الحديث . وحاولت ذلك فعلا ، ولكنى فشلت ؛ فصاحبنا عمرو عنيد ، يلج في الخصومة حتى يريد أن يدخل مناظره في جحر ، فأثار مسألة أعقد وأدق ، إذ سأل : هل رأيك في الأخلاق والحق كرأيك في الجمال ، شئ نسبي ليس
إلا ، أولها وجود ذاتي خارجي ؟ وهل العلم الذي لا يؤمن إلا بالمنظور والمسموع يؤمن بشيء خارجي اسمه العدل والظلم ، او الحق والباطل ؟ وما رايك في اقوال القرون الوسطى في ذلك ؟
زيد - اهزا بي ما شئت ، وهرج ما أردت ، فليس زيدني ذلك إلا تمسكا برائي ، والشأن في الفضيلة والرذيلة والحق والباطل عندي كالشأن في الجمال والقبح ، إن الإنسان أول ما واجه الأعمال الصادرة من امثاله ، رأى
أن بعض الأعمال التي تصدر عن الناس - تسره ودخل عليه اللذة وسماها فضيلة او ما يرادف ذلك ، ورأي بعض الأعمال تؤلمه فسماها رذيلة او بما يرادفها ، ثم اتت الأجيال بعد ذلك فنظرت إليها كانها أشياء خارجية لها قيم ذاتية ، فقدستها أو احتقرتها
فكل فضيلة أو رذيلة ترجع إلي احساسنا باللذة والألم ، فالصدق والكذب ، والعدل والظلم ، والشجاعة والجبن كل هذه رضيناها لأنها سببت لنا لذة أو ألما ، ثم نظرنا إليها كأنها أشياء مجردة تطلب لذاتها ، أو تتجنب لذاتها ، كشأن البخيل طلب المال أولا لأنه وجده محققا لأغراضه ، موفيا للذاته ، ثم بمرور الزمن والاعتياد والإلف
طلب المال لذاته ولما ارتقي الإنسان واتسع أفقه أصبح يقبس اللذة والألم مقياس الامة والمجموع ، لا بمقياس شخصه . إنما هي على كل حال ترجع إلي شعورنا وشعور الناس باللذة والألم ، وهذا الشعور هينا وليس خارجا عنا ، وعواطفنا ومنافعنا هي التي تملي علينا الحكم بالخير والشر ، فالسعادة هي الغاية الأخيرة لا الفضيلة ، وإنما الفضيلة وسيلة
للسعادة . وحكمنا على الناس كذلك ، فنحن نحكم على الإنسان أنه طيب لأنه يسعدنا ويسعد مجتمعنا ، والعكس وهذا أيضا هو ما تتجه إليه النظريات الحديثة في الأخلاق وعلم النفس والاجتماع ، وهذا هو العلة في تغير تقويم الأخلاق باختلاف العصور والأوضاع وتغير ترتيبها في
الأهمية ، وذلك باختلاف الناس لا باختلاف الأشياء ؛ والعمل الواحد قد يكون خيرا في موقف ، وهو نفسه قد يكون شرا في موقف آخر ، تبعا لاثره في نفوس الناس ومشاعرهم بالذة والألم ، ولو كان هناك شئ خارجي اسمه الحق أو الفضيلة لم يتغير الحكم عليه !
عمرو - كلامي معك في الحق والخلق ككلامي معك في الجمال ، وردي عليك ردي عليك . إن الحق
والباطل والخير والشر معان مجردة لها وجود ذاتي ، بقطع النظر عن نتائجها ؛ ويحب ان يطلب الحق لذاته بقطع النظر فما ينتج من لذة ، ويتجنب الباطل لذاته لا لأنه ؛ شأن الخير شأن الحق ، شأن الصدق ، شأن حكاية الواقع . فإذا قلت إن قنبلة سقطت في مكان كذا ولم تنفجر ، فهذه
حقيقة حدثت في الوجود بقطع النظر عن نتائجها ، علم الناس بها أو لم يعلموا ، شعروا بها أو لم يشعروا ؟ وشعورنا وعدم شعورنا لا دخل له في الموضوع ، وهذا إن وافق الواقع فهو صدق ، وإذا أخبرت به ففضيلة كائنا ما كان أثر الخير في نفوسنا ، قد يؤلم بعض الناس الصدق وقد يلد
بعض الناس ، ولكن هذه أعراض لاشأن لها بالموضوع في حد ذاته ؟ ومثلك إذا تلذذت او ألمت كمثل " الترمومتر " في الحجرة الذي ذكرته ، قد يدل على درجة حرارة عشرين ، ولكن قد تكون قد شربت معرقا أو جريت شوطا
فتشعر أن درجة الحرارة في الحجرة لا يقل عن أربعين . وقد تأخذك رعدة فتري ان درجة الحرارة يجب ان تكون صفرا ، وشعورك هذا أو ذاك لا يغير الواقع وهو ان درجة الحرارة عشرون .
ولو كان الأمر إلي الشعور بأثر العمل فقط ، ولم يكن هناك حق في ذاته ما احتقر الباطل ولا فضل الفاضل ، ولكان الامر في الحق والخير امر الذي يذوق الشئ فيستطعمه او يستهجنه ، وفي ذلك خراب العالم .
وضبيع الإنسانية ، بل علي رايك لم يكن فرق بين محق ومبطل ، وفاضل وسافل ، فكل يحكم على الشيء حسب شعوره ومقياسه ، وهل هذا هو ما يقوله علم نفسكم ؟
الحق - يا أخي - أن هذا ضرب من السفسطة في أسلوب حديث ، ويجب أن يحارب هذا الاتجاه كما حارب سقراط وأفلاطون وأرسطو السوفسطائية القديمة . إن نظركم هذا جعل الحق والفضيلة سلعة تجارية بحسب
ثمنها باللذة والألم ، فتشري أو تباع حسب السوق، ولعل هذا أكبر نقطة سوداء في مدنيتكم الحديثة ، ولإصلاحها يجب ان تكون هناك مسئل عليا من حقائق وفضائل لها قيم ذاتية
في مثل رأيى ورأيك كمثل العالم في معمله ، والتاجر في تجارته ، إن العالم الحق عن الحقيقة في ذاتها كائنة ما كانت ، وسواء عنده الشئ الصغير والشئ الكبير ، وسواء عنده في بحثه الذهب والرصاص ، فيأتي التاجر بعد فيستغل نتيجة بحث العالم لاستعمال الآلات والسلع وفق ما وصل إليه العلم ، ويقلبه إلي تجارة فيها كل الأخلاق التجارية
فكذلك نحن وانتم . نحن نبحث عن الحق حيث كان وفي أي حال كان ، ثم تفسدون علينا حقنا باتخاذه متجرا بالبهلوانات السياسية ، والشعوذة الأخلاقية ، وحساب الخلق باللذة والألم كما يحسب التاجر بضاعته بالدينار والدرهم . إن الحق لا يتعدد ولا يتغير بالإعتبارات الشخصية كالمادة امام العالم ، إنما تتغير السلع في الأسواق في نظر التاجر .
في نظري أن الصحراء هذه لها قيمة ذاتية ، وجمالها له قيمة ذاتية ، سواء كان مزاجك مما يلذه هذا الجمال أو لا يلذه ، ويقومه او لا يقومه ، فإن قومه فمزاجك صحيح وجمال الصحراء حق ، وإن لم يقومه فمراجك غير صحيح وجمال الصحراء حق أليس هذا هو الحق يا أيها السيد " زيد
وأذنت الشمس بالغروب ، وبدأ الجو يبرد ، وحرارة الشمس تضعف ، وأخذنا نستعد للعودة ، ورأسي بكاد يتصدع ، واضاع علي الصديقان لذة الصحراء وجمالها ، فآليت من يومئذ إلا أخرج إلي الصحراء ، مع فلاسفة بل شعراء . وإلي اللقاء .
