عدت فجلست جلستي علي البحر ونفسي .
هذا هو البحر لست أري إلا ظاهره ، أمواج يلعب بها الهواء ، والوان تجمعت من صفرة الرمل وزرقة السماء، أما ما في باطنه من مملكة بل ممالك ، من اسماك ووحوش ولؤلؤ ومرجان فلست اراها ولكني اعلمها.
وهذا هو الشأن في الرواية التمثيلية التي شهدتها أمس .
رأيت الممثلين من رجال ونساء وشبان وكهول ، وكلام يقال وأعمال تصدر ، ولكن هذا هو الظاهر فقط ، ووراء هذا كله ما لم نره وهو الاهم ، مؤلف يؤلف الرواية ومخرج يعدها وممثلون يحفظون أدوارهم ومناظر تعد وأدوار توزع على اللائقين بها وملفن يستعد أن يلقن من نسي ونحو ذلك من أمور باطنة ليس مظهر الرواية إلا انعكاسا لها .
ومنذ يومين جلست بجانب قوم يتبادلون الشكوي من إيجار المساكن في الإسكندرية ، فقال احدهم رزقت بيتا جميلا يدل كل شئ فيه على أنه سيكون موطن سعادة ، مطل على البحر مؤثث أحسن أثاث ، ولكن ما بتنا فيه حتى هجم علينا البق بجيوشه فحرمنا النوم واقلقنا أياما في التفكير والعمل لنظافته . ورد الآخر فقال إن مصيبتك اهون من مصيبتي ، فقد استأجرت بيتا نظيفا لا بق فيه ولا ذباب ولكن ما لبثت ان رايت فيه حشرات من نوع آخر ، فقد كان المسكن الذي بجوارنا " بيت سر " وأحيانا يخطئ الزبائن فيأتون إلى بابنا ، وشكوت وقلت وفعلت ولم تحل المشكلة إلى اليوم فإن عجزت فسأهجر المصيف وأمري إلي الله .
وهكذا كل أمور الدنيا ، ظواهر تستر البواطن .
فعد إلي نفسك تر أن كل أعمالك التي تظهر أمام الناس من خير وشر ليست إلا ظواهر كمظهر البحر ومظهر التمثيل ، تنبعث من عوامل باطنة تجمعت في من يوم كنت حملا في بطن امي .
لقد احترقت أختي الشابة من " اسبرتو " هب فيها وأنا جنين ، فغذيت بدم حزين ، فلعله أثر في اثرا كبيرا إلي اليوم ، أميل ما أكون إلى الحزن ، تعجبني الأدوار الحزينة في الغناء ، والمأساة دون الملهاة في التمثيل ، واسر للدمعة تسقط من عيني أكثر من الضحكة تظهر على فمى، وتهتز اعصابي لعوامل الحزن أكثر مما تهتز لعوامل السرور ، وليس يبعد أن يكون كل هذا من أجل كوب من دم حزين كون جسمى في يده . التكوين
ها أنذا خجول أتعثر في مشيتي إذا شعرت أن أحدا ينظر إلي ، وأ كره ما اكره الاجتماعات والحفلات ، وان أمر بين قوم جلوس في مأتم او حفل ، واحسب الف حساب لكل ما يصدر مني من عمل او تأليف خوف ان يأتي هزيلا يستسخفه الناس ، ولا استطيع ان انظر في وجه من يحدثني او احدثه وهكذا ، ولاشك ان هذه عادة تكونت منذ الصبا ايام كان والدي رحمه الله يكثر من صيغ النهي " لا تقل هذا " لاتفعل هذا " وايام كان يعاقبني العقاب الشديد على الغلطة اليسيرة ، أو حتى ما ليس غلطة من الصغار . كل هذا سلبنى حرية العمل وسلسلني بقيود كانت نتيجتها هذا الخجل .
وهكذا لوتتبعت كل ما يصدر مني من عمل ، وما اتصف به من صفات اسهل على الرجوع بها إلى احداث تجمعت في بطء وتدرج منذ الطفولة ونمتها او اضعفتها حوادث الصبا والشباب والكهولة .
فكم في من صور رسمها كتاب سيدنا الشيخ سيد عبد الرحمن بجذبته وشدته وكتاب سيدنا الشيخ سيد الكوراني بلينه وفوضاه ، ومن صور رسمها أبي وأمي وإخوتي ، ومن صور رسمتها مدرسة والدة عباس باشا الأول بمدرسها في الرياضة الشديد القاسي ومدرسها في اللغة العربية اللين المرح ، وتلاميذها المختلفى الأشكال والألوان - كل هذه الصور وأمثالها اختفت في الوعي الباطن كما يختفي السمك في هذا البحر ، ولكن لا تزال
تعمل عملها في البواعث لي على العمل او الترك وتتمكن صورها بأشكال شتى على أعمالي الظاهرة .
بل بعض هذه الصور غرقت في الاعماق ، ولست أذكرها مهما أجهدت ذاكرتي في استحضارها ، وهي - مع ذلك - تعمل عملها وتلعب دورها ، وهذا يفسر ما يحدث مني ولا ادري كيف حدث ، وما اتجنب ولا إدري كيف تجنبته - ومالم اضع يدي علي هذه الصور الغريقة في الأعماق واخرجها إلى نور الشمس فلا يمكن العلاج ولا الإصلاح .
وإن الصور التي اختزنتها في حياتي لا تماثل أي صور اختزنها اي إنسان غيري ، ولذلك كانت مشاعري وعقليتي وبواعثي واغراضي ونظرتي إلي الدنيا وتقويمي للأشياء وحكمي لها أو عليها لا يشاركني فيها جميعا أي إنسان آخر في الوجود ، وإنما يقرب مني في تفكيرى ومشاعري من حاز في حياته صورا تشبه صوري - ومن أجل هذا اختلف الناس في الحق والباطل وتقدير الجميل والقبيح ، وما يجب ان يعمل وما يجب ان يترك ، واختلفت نفوسهم كما اختلفت وجوههم ، وكان كل إنسان أمة وحده .
وقدر أن يمنح إنسان ما صحة كاملة في مشاعره وعقله ، كما قدر ان يمنح صحة كاملة في جسمه ، بل لكل إنسان مواطن ضعف ، هذا ضعيف الذاكرة ، وهذا بليد الشعور ، وهذا حاد الشعور ، وهذا ضعيف الإرادة ، وهكذا من آلاف الأشكال والألوان فإذا أضيف إلى ذلك اختلاف ما يختزنه الاشخاص في حياتهم من صور بسبب ما يعرض لهم من أحداث كان الاختلاف بينهم أتم وأوضح .
هذا كله يسلمنا إلي نتيجتين (١ ) أن كل إنسان له قانونه ، وليس هناك قانون اصلاحي اخلاقي يسري - في تفاصيله - على الجميع ، وان لكل إنسان متاعبه الخاصة الناشئة من تاريخه الخاص لا يشاركه في كميتها وكيفيتها غيره ، وانه ان اريد معالجتها يجب ان نسير فيها سيرنا في طب الأجسام ، فلا يمكن لطبيب ان يصف علاجا عاما لمرضي
مختلفين ، ولا يمكن أن يعالج المريض غيابيا ، بل لابد ان يضع يده على مكان المرض ويعرف اسبابه ثم يصف دواءه .
وأصعب الأمر في علاج النفس أنها في كثير من الاحيان تخدع نفسها وتغشها وتكذب عليها وتجتهد في إخفاء عيوبها عن نفسها لأنها تشعر بالنقيصة في الإقرار بعيبها حتى امام نفسها ، فما اصعب ان نضع ايدينا عليها من وراء حجبها ، فقد يكون في باطن نفوسنا شعور بالكره لآبائنا أو أمهاتنا أو زوجاتنا لسبب من الأسباب ، وواجب الوفاء يقضي بحبهم ، فتتعقد المشاعر ، وقد نحب أن نعمل أشياء والتقاليد الاجتماعية تأبي الإتيان بها او نحب أن نتجنب اعمالا والواجبات الاجتماعية تري الإتيان بها ونحو ذلك ، فتكبت في نفوسنا مشاعر لا ندر كها فى وعينا الظاهر
لذلك كان من أهم النعم أن يرزق الإنسان صديقا يقضي إليه بمكامن نفسه ثم يشجعه هذا الصديق أن يقول كل شي ، في نفسه من غير ان يظهر له شيئا من الاحتقار . وفي كثير من الأحيان يكون المانع من إظهار كوامن النفس ما اعتاده الإنسان من أنه لا يتكلم ولا يفكر إلا إذا مر الكلام والفكر على " الرقيب " يحجز منه ماشاء ، فتبقى مواضع الداء كامنة لا تعرف ، فان هو خدر الرقيب حتى لا يحجز شيئا ولم يخضع المنطق وترك نفسه على سجيتها تتحدث مما يخطر لها من غير رقيب ولا منطق اعان ذلك على ظهور الصور المخزونة على حقيقتها وأمكنه معرفة كوامن الداء فيها .
وأيا ما كان فلا تزال كلمة سقراط " اعرف نفسك " من أصعب الأوامر وأعقدها .
والنتيجة الثانية ما تشعرنا به هذه المقدمات من تسامح وعفو ومغفرة لما يصدر من غيرنا ، فلهم فيما يأتون به عذرهم فهو ليس إلا نتيجة طبيعية لما اختزنوه من صور في اعماق نفوسهم ولو كنا مكانهم لفعلنا فعلهم .
وهنا هبت ريح قوية اطارت الأوراق من يدي فجريت وراءها اجمعها وعاد إلي وعيي بما حولي وبالبحر.
