ضمت الكوفة فى وقت واحد ثلاثة نفر يُقال لهم: الحمادون1، وهم حماد عَجْرد، وحماد الراوية، وحماد الزَّبرِقان أو أبن الزبرقان. كان هؤلاء الثلاثة يتعاشرون بثلاثة أجساد تُصرَّفها روح واحدة. ولم يكن غريباً أن يجتمعوا على هذا الود الوثيق، فقد ألفت بينهم رابطة الأدب، ولحمة الزندقة، وآصرة أخرى تُسامى رضاع الثدي وهى رضاع الكأس! ولله دِعْبل إذ يقول
أذكرْ أبا جعفر حقًّا أمتُّ به=أنى وإياك مشغوفان بالأدب
وأننا قد رضعنا الكأس دِرَّتها=والكأسُ درتها حظ من النسب
والذى يعنينا من هذا الثالوث العجيب المتّحد فى الاسم والنزعة والهوى والنَحلة، حماد بن ميسرة الديلمى مولى بكر بن وائل. كان هذا الرجل آية دهره فى العلم بأنساب العرب وأيامها وحفظ لغتها وأخبارها وأشعارها، فخلع عليه معاصروه - على بخل المعاصرة وحقدها - لقب الراوية؛ وهو لقب فخم رفيع لم يمنحه جزافاً بل انتزعه انتزاعاً عن استحقاق وجدارة
يتحدثون أن الوليد بن يزيد سأله: بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الراوية؟ فقال: لأنى أَرْوى لكل شاعر تعرفه - يا أمير المؤمنين - أو تسمع به، ثم أروى لأكثر منهم ممن أعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعراً لقديم ولا محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث. فقال الوليد: إن هذا لَعلم - وأبيك - كبير. فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثير. ولكننى أنشد على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة طويلة، سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام!
وكأن الوليد استراب بحفظه فقال: سأمتحنك فى هذا، وأمره بالإنشاد، فأنشد حتى نال منه الضجر! فوكل به من يسمع
منه واستحلفه أن يصدقه عنه ويستوفى عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة جاهلية، ورفع الأمر إلى الوليد، فأجازه بمائة ألف درهم
ولكن مما يحزّ فى النفس أن حماداً لم يكن متحلّياً بتلك الشرائط التى تعدّ قوام الرواية من أمانة وصدق وإخلاص!
فقد شاء ألا يقنع بما أفاء الله عليه من مواهب عالية، وبما حصّله بجهده من ثروة أدبية ضخمة تتقطّع دونها أعناق الفحول! فاستغلّ حفظه للشعر وبَصارته بمنازع الشعراء، وقدرته على النظم، ودقة مسلكه فى التقليد، وَغرامه بالتزيّد فى الوضع والتلفيق والتدليس! فكان يقرض الشعر وينْحَلُه من يشاء من شعراء العرب، ويجوز ذلك على أكثر الناس لفرط المشابهة بين الأصيل والدخيل!
ومن السهل على من رُزق علم حماد وقوة طبعه وحدة قريحته وبارع زكانته، أن يفعل مثل فعله لا فرق بين متقدم ومتأخر!
يقول الثعالبى1: إن الصاحب يوماً قال لجلسائه - وقد جرى ذكر أبى فِراس الحمدانى: لا يقدر أحد أن يزوّر عليه شعراً. فقال البديع الهمذانى: ومن يقدر على ذلك وهو القائل:
رويدَك، لا تصِلْ يدَها بباعك ... ولا تُغْرِ السباع إلى رباعك
ولا تُعِنِ العدوَّ عليّ إنى ... يمينٌ إن قطعتَ فمن ذِراعك
فقال الصاحب: صدقت! فقال البديع: أيد الله مولانا قد فعلت! - أى زوّرت عليه -
والغريب فى أمر حماد أنه لا يستحى أن يتبجّح بهذا الضلال البعيد! فكان يقول2: ما من شاعر إلا أدخْلت فى شعره أبياتاً حملت عنه إلا أعشى بكر فإنى لم أزد فى شعره قط غير بيت واحد. فقيل ما هو؟ قال:
وأنكرتْنى وما كان الذى نَكِرتْ ... من الحوادث إلا الشّيْب والصلَعا
وأغرب من هذا أن جرأته كانت تطوّع له الكذب على الخلفاء المعروفين بدقة الفطنة وسعة المعرفة! فقد روَى صاحب الأغاني بسنده عن جماعة ذكر أنهم كانوا في دار الخليفة المهدي إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا بالمفضل الضبيى الراوية، فدخل فمكث ملياً ثم خرج ومعه حماد الراوية وحسين الخادم، وقد بان وجه حماد الانكسار والغم، وفى وجه المفضل السرور
والنشاط. ثم نادى الخادم: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يُعلمكم أنه قد وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته فى أشعار الناس ما ليس منها. ووصل المفضّل الضبي بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته. فمن أراد أن يسمع شعراً مُحدَثاً فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليسمعها من المفضل
وقد كان السبب أن المهدى قال للمفضل - لما دعا به وحده - إني رأيت زهير بن أبى سُلمى افتتح قصيدته بأن قال:
دع ذا، وعدِّ القولَ فى هَرِم ... خير البُداة وسيد الحَضْر
ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذى أمر نفسه بتركه؟ فقال المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين فى هذا شيئاً، إلا أنى توهمته كان يفكر فى قول يقوله، أو يُروَّى فى أن يقول شعراً فعدل عنه إلى مدح هرم وقال: دع ذا. أو كان يفكر فى شيء من شأنه فتركه وقال: دع ذا. أى دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول فى هرم. فأمسك عنه المهدى ودعا بحماد فسأله فى ذلك. فقال: ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين. قال: فكيف قال؟ فأنشده:
لَمِن الديارُ بقُنَّة الحِجْر؟ ... أقْويْنُ مُذْ حِجَج ومذ دَهْر
لعب الزمان بها وغيّرَها ... بعدى سوَافى المُور1 والقطر
دع ذا. . . الخ
فأطرق المهدى ساعة ثم أقبل عليه فقال: قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بد من استحلافك عليه! ثم استحلفه بأيْمان البيْعة - وكل يمين مُحْرجة - ليَصْدقَنَّه عن كل ما يسأله عنه. فحلف بما توثق منه. فقال له: اصدقنى عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير. فأقرّ له أنه قائلها. فأمر فيه وفى المفضل بما أمر به من شهرة أمرهما وكشفه
هذا الضعف الخُلُقى الذى عُرِف به حماد هو ما حدا الأصمعى أن يقول فيه: كان حماد أعلم الناس إذا نصح (يعنى إذا لم يزد وينقص) وكذلك قال فيه المفضل الضبى: قد سُلَط على الشعر من حماد الرواية ما أفسده فلا يصلح بعده أبدا! فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطئ فى الرواية أم يَلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال
يقول الشعر يُشَبه به مذهب رجل ويدخله فى شعره، ويُحمَلُ عنه ذلك فى الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟)
وقد هجا حماداً أحمد بن يحيى1 هجاء طريفاً يمكننا أن نقف منه على شكله وهيئته وزيه ورأى الناس فيه. قال:
نعم الفتى لو كان يعرف ربَّه ... ويُقيم وقت صلاته حّمادُ
بسطَتْ مَشافرَه الشَّمولُ فأنفُه ... مثلُ القَدوم يَسُنُّها الحدّاد
وأبيضّ من شرب المُدامة وجهُه ... فبياضُه يوم الحساب سواد
لا يُعْجبنّك بَزّه ولسانُه ... إن المجوسَ يُرَى لها أسباد
وقد نشأ حماد فى العهد الأموى سنة خمس وتسعين هجرية، وكان أثيراً لدى خلفاء بنى مروان، يستزيرونه فيفد عليهم ليحدثهم عن أيام العرب وأخبارها وينشدهم أشعارها، فيظهرون إعجابهم به وينفحونه بالأعطيات السنية
وقد خفّ على قلب يزيد بن عبد الملك منهم فانقطع إليه واختص به ونادمه، فحصّل منه دنُيا عريضة وعاش فى حال رافهة
ولكن هذه النعمة السابغة كادت تحوُل جائحة مستطيلة لولا ما قُدَّر له من طول السلامة! فقد كان بين راعيه يزيد وأخيه هشام جفوة شديدة مردها إلى أنهما من أبناء العلاَّت2، فأم يزيد عاتكة بنت يزيد بن معاوية الأموية، وأم هشام عائشة بنت إسماعيل المخزومية، وأهم من ذلك أن يزيد كان يريد أن يبايع لابنه الوليد القاصر، فصرفه أخوه مسلمة بلباقة وكياسة إلى مبايعة أخيه هشام الراشد، ولكن يزيد ندم بعد أن تم الأمر، فاستشرت العداوة بين الخليفة وولى عهده حتى اضطر هشام أن يعيش خارج دمشق، وتبع ذلك أن حقد على حاشية أخيه وبطانته، ومنهم حماد زينة البلاط ونجمه اللامع!.
فلما آلت الخلافة إلى هشام خافه حماد على نفسه خوفاً شديداً فانزوى فى كسر بيته مدة عام فى خلالها - إذا ضاق صدره - ينسل فى سر من الناس إلى الثقات من إخوانه خائفاً يترقب؟ ولما انقضت هذه الفترة ولم يتوجه إليه طلب، ظن أنه قد
بلغ مأمنه، فبرز من مخبئه وصلى الجمعة فى الرُّصافة1، ولم يقنع بذلك حتى جلس عند باب الفيل، وإذا شرطيان كأنما نبعا من الأرض قد وقفا عليه وقالا: يا حماد، أجب الأمير يوسف ابن عمر(والى العراق) فانخلع قلب حماد من الرعب، وقرع سِنّ الندم على خروجه، وتوسل إليهما أن يستأنياه حتى يأتى أهله فيوصي بهم وإليهم، ثم يصير معهما إلى حيث يريدان، فأجاباه فى خشونة الزبانية: ما إلى ذلك من سبيل! وأخذا بعضديه، فاستبسل للموت واستقاد لهما حتى بلغا به الأمير وهو جالس فى الإيوان الأحمر، فسلم عليه حماد بصوت مصحول فكان رد السلام أن ألقى إليه كتاباً فيه ما يأتى:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر. أما بعد، فإذا قرأت كتابى هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به غير مُروَع ولا مُتعتع3 وادفع إليه خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتى عشرة ليلة إلى دمشق
ففاضت بشاشة الطمأنينة على قلب حماد، وقبض الدنانير الصفر وقد امتزج لألاؤها ببريق السرور الخاطف على وجهه!
وفى الحق أن حماداً كان مسرفاً فى خوفه من هشام، فقد كان هذا الخليفة غزير العقل راجح الحلم عفيف النفس جامعاً لأدوات الرياسة، حتى كان الأشياخ يقولون: أُديِل من الشرف وذهبت المروءة بموت هشام! ومن كانت هذه صفاته فكثير عليه أن ينكل بأديب مستضعف كل جريرته أنه كان متصلاً بسلفه
وقد هيئ لحماد جمل مرحول فركبه من ساعته، وسار يُغذّ فى السير اثنتي عشرة ليلة حتى وافى دمشق ووقف بباب هشام مستأذناً فى الدخول إليه، فأذن له.
(البقية فى العدد القادم)
