الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 171الرجوع إلى "الثقافة"

فى تطورات الحرب

Share

الحرب ظاهرة بشرية ، ابتدعها الانسان ولازمته فى جميع العصور . وقد تطورت الحرب كما تطورت سائر شئون الانسان ، أى انتقلت من طور إلى طور ولقد كان الكتاب فيما مضى يعبرون عن معنى التطور بعبارة " النشوء والارتقاء " . وليس أدل على فساد هذا الاصطلاح مما نشاهده فى الأطوار المختلفة للحروب على مدى الأجيال . فلقد انتقلت الحرب حقا من طور إلى طور . ولكن من ذا الذى تبلغ به الجرأة أن يزعم ان هذا الانتقال ينطوى على ارتقاء أو ما يشبه الارتقاء ؟

لننظر لحظة فى النواحى المختلفة التى يشتمل عليها هذا التطور ، تاركين جانبا تلك الحروب التافهة التى

تنشأ بين الجماعات البدائية فى عصور الجاهلية ، وقاصرين تأملنا على حرب المدنية والمتمدنين ، منذ ان وجدت على الأرض حضارة ومدنية . ومع التسليم بأن الحرب الحديثة تشتمل على كثير من عناصر الحرب القديمة ، فاننا مع ذلك نرى اختلافات جوهرية فى النواحى الآتية :

وأول ما يروعنا فى الحرب الحديثة العدد الهائل للقوات المقاتلة ؛ فقد كانت الجماعات المحاربة إلى وقت قريب ، طوائف محدودة العدد ، ينزل بها القائد إلى الميدان ، ويلاقى بها العدو فى رقعة محدودة من الارض . وكانت هذه الطوائف فى العادة ممن اتخذوا الحرب حرفة ، ولا يكاد أن يكون لهم غرض ينشدونه سوى القتال من

أجل القتال ، وكثيرا ما التحقوا بقائد ليس منهم ، أو بجيش غريب عنهم ، ويقال فى هذا إن نابليون الاول كان فى زحفه على روسيا يقود جيشا جله من عناصر غير فرنسية ، وقد انضوى تحت لوائه عدد كبير من محبى الحرب والمغامرة ، سرهم ان يخوضوا غمار الحرب بقيادة قائد عظيم ، يستطيعون بواسطته ان يشبعوا شهوتهم فى الحرب والقتال .

أما اليوم فقد حلت حرب الشعوب محل حرب الطوائف ، وابتدعت الحكومات التجنيد الاجبارى الذى يجعل من كل فرد من الأمة جنديا محاربا . واصبحت الجيوش تعد بالملابين بدلا من الآلاف ؛ ولم يعد الغرض المنشود من الحرب ان يوسع امير رقعة ملكه ، بل أن يقهر شعب شعبا آخر ، ويسخره لإرادته ورغباته . وقد استتبع هذا التطور الهائل فى عدد المحاربين ان يزداد عدد ضحايا الحرب زيادة شديدة الهول . ففى الحرب العالمية الماضية أزهقت أرواح بضعة عشر مليونا من الأنفس ، عدا الملايين العديدة عمن غدرتهم الحرب يشكون عاهة لعل الموت أفضل منها .

وبازدياد الجيوش ، اتسع ميدان القتال اتساعا هائلا ، وبدلا من ان يلتقى الجمعان فى رقعة ضيقة المدى ليقتلوا فيها ، اصبح الميدان عبارة عن الجبهة الواسعة التى تفصل بين القطرين المتحاربين ، بل لقد شاهدنا فى الحرب الماضية وفى هذه الحرب ، ان يعمد أحد الفريقين إلى توسيع ميدان القتال ، باكتساح قطر محايد ، وإقحامه فى الحرب إقحاما ، وبذلك نرى الميدان الغربى فى اوربا قد بلغ زهاء ألف ميل ، وفى روسيا تجاوز ألفين من الأميال .

ولعل أشد مظاهر الحرب الحديثة هولا وروعا ما طرأ على عدة المحاربين من تطور جليل ، وكثير منا يذكر فى شئ من الحسرة والألم أولئك المحاربين القدماء الذين كانت عدتهم ، الرمح والسيف والسهم والقوس

يعززها الساعد القوى والروح الجرى يوم كان العدو يبرز لعدوه فى العراء ، غير مستتر بصخر او خندق يوم كانت عدة الجندى ما اعتاد حملة من سلاح سهل يسير هو شارته وقت السلم ، وأداته وقت الحرب . أما اليوم فان عدة الحرب وليدة العلم الحديث ، وقد تضخمت هذه العدة واشتد فتكها ، وبات من الواجب أن تنشأ المصانع العظيمة لانتاجها ، وأن يكون وراء كل جندي فى الميدان ، ستة او سبعة من العمال رجالا أو نساء ، لكى عدوه بتلك العدة الجهنمية ، ولكى يجددوا تلك الأسلحة حين تبلى ، ويغذوها بالقدائف تغذية متصلة لا تنقطع . أجل ويجب أن تصل تلك المصانع الليل بالنهار فى الانتاج الدائب ، ويجب أن تظل آلاتها تعمل فى كل حين من غير ملل أوكلال . ولقد يستحدث سلاح جديد بنسخ سلاحا قديما ، فسر عان ما تقام المصانع الجديدة لاستبدال الحديث بالقديم ولمجاراة المبتكرات والمخترعات .

ولا بد لتلك المصانع من وقود ومعادن وفلزات ومواد مما ينتفع به الناس عادة فى زمن السلم لكى يستكملوا مظاهر الحضارة والرخاء . فتضطرهم الحرب الحديثة أن يختزنوا بالقليل اليسير من الزاد واللباس ، لكى نستطيع تحويل المواد الأولية نحو المصانع التى تعمل للحرب وتخدم المقاتلين فى الميدان .

ولسنا بحاجة إلى أن نفصل القول عن عدة الحرب الحديثة وما اشتملت عليه من آلات ضخمة هائلة ، منها  الزاحف على وجه الترى ، والسابح فى جوف الماء ، والمحلق فى جو السماء . وحسبنا أن نشير إلى نتيجتين خطيرتين لهذا التطور الحديث .

أولاهما زيادة الفتك والتخريب وإزهاق الروح . ففى زمن وجيز جدا يفنى فى الحرب الحديثة من الأنفس أضعاف ما كان يفقد من قبل على مدى الشهور أو السنين . ولقد ذكرت الأنباء أن الذين هلكوا فى الميدان الروسى

وحده فى ستة أشهر يزيد على ما فقد فى هذا الميدان فى ثلاث سنين فى الحرب الماضية ، وإذا كان فى هذا التقدير بعض الاسراف ، فانه ليس شديد البعد من الحقيقة . وبفضل هذه المدمرات السريعة أصبح من الممكن ان نشهد ما يسمونه الحرب الخاطفة ، وهى التى اريد منها أن تخرب وتدمر وتهلك فى فترة قصيرة من الزمن ، ما يكفى لا كتاب نصر شامل سريع وقد لقيت الحرب الخاطفة نجاحا بينا فى الميدان الغربى ، وفى ميدان البلقان ولكنها لم تأت بالقصر الكامل فى ميادين أخرى ولهذا طالت الحرب ، وأوشكت أن تتم عامها الثالث . ولهذا ستؤدى هذه الحرب إلى تخريب وبدمير أشد هولا وأوسع مدى من الحرب العالية الماضية .

النتيجة الثانية لتلك المبتكرات الحربية أنها لا تتناول المحاربين فى ميادين القتال بالتدمير والهلاك وحدهم ، بل تتجاوزهم إلى المدنيين القابعين في عقر دورهم ، وإلى النساء فى خدورهن والأطفال فى مهودهم . . . فأصبح ميدان الحرب هو القطر كله بمدائنه وقراء ، ومنازله ومصانعه . وكما أن الشعب أصبح كله يحمل عبء الحرب ، كذلك بات ميدان القتال القطر كله الذى يسكنه ذلك الشعب . .

ولقد أتى على المحاربين حين من الدهر كانوا يفخرون فيه مما يسمونه الشرف العسكرى ، الذى يحول بينهم وبين إيذاء الضعفاء من الشيوخ والنساء والأطفال ، ويحملهم على أن يحترموا المستشفيات ومركبات الصليب الأحمر . أما اليوم فان المحارب كثيرا ما يلقى بقذائفه على أغراض لا يكاد يستبينها . ومن العبث ان يطالب بتسديد قذائفه ، وهو كثيرا ما بغير فى سواد الليل البهيم . وطالما أخطأ الهدف حتى أصاب بقذائفه بلاد ليس بينه وبينها حرب ، بل قد تكون بينها وبينه صداقة ومودة .

وقد استتبع هذا التدمير الهائل أن كثيرا مما شيدته الحضارة من آيات الصناعة والفن قد زال من الوجود فى

مثل لمح البصر ؛ فمن أكبر ما استحدثه الانسان على سطح الأرض ، تلك المدن العظيمة الشاهقة القصور ، وقد أغمض الناس عيونهم على مدن عامرة مثل وارسو وروتردام وبلغراد ، ثم فتحوها فإذا شطر عظيم منها بات اثرا بعد عين ، فإذا الخرائب والانقاض هى كل ما بقى من عجائب الفن وبدائع العمارة .

وهنالك طور آخر من أطوار الحروب الحديثة يستحق ذكرا خاصا . وقد كان لهذه الظاهرة شأن خطير فى الحرب الحاضرة ، وربما كانت أغرب شئ فيها . وليست تلك الظاهرة بالشئ الجديد الذى لم يكن معروفا من قبل . ولكنها فى هذه الحرب قد نظمت ببراعة وإتقان ، وكانت عاملا من أكبر العوامل خطرا وأبعدها أثرا : تلك الظاهرة أن تحارب عدوك من داخل أرضه ، فلا تكتفى بمهاجمته من وراء حدوده ، بل تشن عليه الحرب من باطن حدوده ، وذلك باعداد النزلاء والسائحين والخائنين من أبناء البلاد إعدادا كاملا ، بحيث لا يأتى يوم الروع حتى ينهضوا لكى يطمنوا الجيش المدافع في ظهره ، وقد أثبتت هذه الحرب أن ضربات العدو الباطنى اشد فتكا وأبلغ تأثيرا من طعنات العدو الظاهرى ، وان التعاون الوثيق بين الضربتين يأتى بأسرع النتائج الحاسمة .

وقد استطاعت ألمانيا ان تستغل هذا السلاح الخطير أبلغ استغلال ، فكان لها الاعوان والانصار فى جميع الأقطار المجاورة لها ، لا يستثنى من ذلك فرنسا نفسها ، وبريطانيا لو لم تتخذ قدره هذا الخطر أشد الحيطة فى الوقت الملائم وبفضل هذا السلاح استطاعت المانيا ان تستولى على هولنده ، وان ترسخ قدمها فى نزوج فى بضعة أيام . ثم جاءت اليابان ، فإذا هى تكاد أن تبز ألمانيا فى هذا السلاح الخطير ، وقد طالعتنا الصحف فى الأيام الأخيرة بأنباء الخائنين من سكان برما ، الذين استطاع

البابانيون تجنيدهم ، وإقحامهم فى هذه الحرب ولقد كان معقولا ان يتصور المرء جهود الألمان فى بث تلك الجماعات - التى لا يفيها اسم الطابور الخامس حقها - فى أقطار قريبة مثل هولنده ونروج . ولكن اليابان أبعدت مرماها ، ووسمت أفقها ، حتى بلغت إلى وما التى تبعد منها آلاف الأميال ، والتى لم يكن احد بقدر أنها ستستطيع الوصول إليها . ومع ذلك فقد غشيت دولة الميكادو باعداد هذه الطوابير وتنظيمها منذ عهد طويل من غير شك ، فى الوقت الذى لم يكن احد يحلم أن الاغارة على برما جزء من البرنامج الياباني .

وقد كانت الولايات المتحدة خاصة وأمريكا عامة ، مهدانا خصبا لهذه القوات الباطنية من الألمان واليابان ، وقد سمعنا بالحوادث المروعة التى كان من نتائجها تدمير الكثير من مصانع الأسلحة والذخيرة .

وفى أمريكا من المهاجرين من رعايا برلين وطوكيو عدد كبير جدا ، وقد انبثوا في أنحائها وتغلغلوا فى كل جزء منها . وقد سمحت حكومتها الحرة لهؤلاء ان يعيشوا وينتقلوا من غير حرج او رقاية . فلم يألوا جهدا فى الانتفاع بهذه الفرصة المتاحة .

وللسلك السياسي والقنصلى ورجاله حرمة ومزايا حرصت حكومة أمريكا على رعايتها أشد الحرص وحافظت عليها كل المحافظة . وقد انقلت دور القنصليات إلى مراكز التجنيد اولئك المهاجرين العاملين وتنظيمهم وتوجيه نشاطهم ، وفى مياه أمريكا أسطول عظيم من سفن الصيد اليابانية ، سمح له فى الماضى أن يلجأ إلي الموانئ وأحواض السفن ، وأن يراقب فى هدوء وصفاء جميع الاستحكامات ومخازن البترول ، وحركة السفن الحربية . وقد كان من الغريب أن سفن الصيد هذه كثيرا ما يحلو لها الصيد فى الجهات التى تقام فيها المناورات البحرية ، وقد ثبت أن أكثر

الملاحين فيها من رجال البحرية اليابانية وقد صنعت زوارق الصيد هذه على طراز مجيب ! فهى قادرة على أن تقطع ستة آلاف من الأميال ، مجهزة بآلات للإذاعة ، ولسير غور البحار بالجهاز الصوتى وبأنوار كشافة قوية ، ومن الممكن تحويلها فى وقت وجيز إلا سفن تبث او تكسح الألغام ، وقد أعد فيها مكان يتسع لأربعة طوربيدات ، وتستطيع كل منها أن تحمل تسعين لغما .

وقد وقعت في أيدى رجال الحكومة الأمريكية وثيقتان على جانب عظيم من الخطر : الاولى وصف دقيق لكل سفينة أمريكية فى كتاب مطبوع يشتمل على بضع مئات من الصفحات ، وكل وصف مشفوع بالصور الشمسية الدقيقة . والثانية خريطة تفصيلية للتحصينات الساحلية فى الولايات المتحدة وجزر هاواى . وتشتمل على رسم دقيق جدا لتشكيلات الأسطول الحربى فى المحيط الهندى . والمفروض أن هذا من الأسرار المحاطة بكل تكتم شديد .

ولقد رأينا هذا الاستعداد اليابانى العجيب يثمر تلك الثمرة المدهشة فى ميناء برل ، وما دمر فيها من السفن والأنفس ما بين عشية وضحاها .

وهكذا نرى الحرب فى طورها الحديث ، وبعض أشكالها بعيد كل البعد عن مظاهر الشرف والنيل ، قد أغرقت النوع البشرى فى حمأة من الشقاء والدنس ، ومن العبث أن يقال عنها إنها ترجع بالعالم القهقرى ، فليس فى التاريخ البشرى بلاء أو شقاء كالذى يعانيه الناس اليوم ، ولئن لم يبتكر الانسان وسيلة يقضى بها على الحرب ، فان الحرب كفيلة بأن تقضى عليه .

اشترك في نشرتنا البريدية