الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 255الرجوع إلى "الثقافة"

فى جو السماء

Share

كنت أهاب ركوب الطائرة ، وأحسب أنى لا أجرؤ عليه ولا أثبت له ، وأحدث نفسى باني إذا علوت منارة أو بناء عاليا فنظرت إلى ما حولى أخذنى الدوار ، فكيف أنظر إلى الأرض من لوح الجو .

وكنت أمزح أحيانا فأقول حين أسأل عن ركوب الطائرة : لا أركبها حتى تسير على الأرض . ورأيت فى المنام ، قبل سبعة أعوام ، وانا فى بغداد ، أنى امتطيت طائرة ميسعها مصر ، فهبطت بى فى غزة ، فما لامست الأرض حتى وثبت عنها ضاحكا منشدا :

أنل قدمى ظهر الأرض إنى

                 رأيت الأرض أثبت منك ظهرا

وكنت أقول لنفسى أحيانا : لتركبن الطائرة راضية أو كارهة ، فما يمكن أن نعيش فى زمان تدوى طائراته فوق رءوسنا صباح مساء ولا نركبها .

ولما عزمت على السفر إلى بيت المقدس فى رمضان الماضى وجدتها فرصة لتجريب الطائرات فى هذه المسافة القريبة ، وفى هذه الطريق التى قتلها طيارونا خبرا .

قلت : سأركب الطائرة ذاهبا أو آتيا ؛ وشرعت أحدث نفسى بهذا ، وأوطنها عليه .

وذهبت يوما إلى القنصلية المصرية التى فى القدس , فتحدثت عن سفرى إلى مصر بعد أسبوع ، فى الخامس والعشرين من رمضان ، وأنى لا أدرى أأسافر بالطائرة أم بالقطار ؟ قيل : أتسأل شركة الطيران ؟ قلت ، وفى النفس شىء : لا بأس . وسرعان ما أجابت الشركة أنه لا مكان لى فى الخامس والعشرين ، ولكن تستطيع أن تحجز لى مكانا فى طائرة السادس والعشرين . قلت ما أقرب يوما من غده . فليكن السفر يوم الأحد السادس والعشرين . ومررت على مكتب الشركة فقيل : اسمك مسجل ولكنا

لا نعدك بموضع فى الطائرة إلا فى الساعة الأخيرة ، وأ كبر الظن أن موضعك لك - وعرفت أن الجند فى زمان الحرب مقدمون على غيرهم فى الأسفار ، فإذا عرضت حاجة إلى سفر بعضهم سوغوه مكان المسافرين من غير الجند .

حطمت هذه العزيمة أكثر الوساوس والأوهام من نفسى ، ولذ لى أن أتحدث بأنى متخذ إلى القاهرة طريقا فى الهواء . ثم مررت على مكتب الشركة فقيل لا نقبل أجر السفر الآن ، ولكن تحضر فى الساعة التاسعة من صباح الأحد لتسافر إلى البلد .

وبقيت أرتقب الميعاد بين الرغبة والرهبة ، ويعجبنى أن أسمع ممن ركبوا الهواء ما لقوا من راحة ، وما أحسوا من أمن وطمأنينة فى مهب الرياح . واتفق أن شهدت قصة فى السينما تمثل جرأة الطيارين ومخاطرتهم ، وتعرض على النظارة ما يملأ النفس هولا من مناظر الصعود والهوى ، والتحويم والتدويم ، والتقلب ، والعراك بين العواصف والطائرات ، فشهدت منظرا مخيفا مفظعا ؛ وقلت : بئس المشهد قبل السفر فى الهواء ، وبئس الفأل . وجال فى نفسى أن هذا نذير بيوم عبوس قطرير ، وكدت أعرض عزيمتى على التفكير ، وأستقبل التردد الذى محوته بالعزيمة المصممة . ثم محق العزم الوساوس مرة أخرى . بدا لى أن أسافر إلى الرملة يوم السبت ، وخشيت أن يستبدل بى مسافر آخر إذا لم أحضر صباح الأحد فى القدس ، فأخبرتهم أن موعدنا الملد . وبلغ من حرصى على المضى فى عزيمتى أن سألت القنصلية أن تخبر الشركة أنى حاضر فى مطار الملد يوم الأحد وتوصى أن يحفظوا مكانى ولا يعتلوا بغيابى عن القدس صبيحة الأحد الموعود .

ركبت من الرملة إلى مطار الملد فى رفقة كرام من خلص الإخوان . فأذن لى وحدى وانتظر المودعون . وذهبت فأديت الأجرة وأخذت التذكرة ، ووزنت ووزنت أمتعتى ؛ ورجعت إلى الإخوان أخبرهم فى سرور وهيبة أن لى مكانا فى الطائرة ، وودعتهم شاكرا داعيا ،

ورجعت إلى محطة الطائرات أنتظر الطائر الميمون القادم من مصر .

لبثنا نرقب السماء وقد حان الموعد ؛ الساعة إحدى عشرة إلا قليلا ، رأيت طائرة تحوم ثم تسيف ، ثم هبطت بعيدا ؛ فقلت لأحد العمال : أهذه الطائرة المصرية ؟ قال : لا ، هذه صغيرة ، أين هذه من طائرات مصر الكبيرة ، ذات الأجنحة الأربعة ! أحسست شيئا من الأمن وشيئا من الفخر . ولم يكن فى المحطة ذو طربوش غيرى ، مصرية هذه الطائرات الكبيرة التى تنتظرها هذه الوجوه المختلفة . نالت طائرات مصر وطياروها ثقة الأمم ، لقد بوأنا رجالنا مكانا عاليا ، ومهدوا لنا طريقا فى جو السماء . غلبت هذه الأحاديث فى نفسى وساوس الجو ومخاوف الطيران .

والتفت إلى العامل الذى سألته قبلا فقال : هذه الطائرة المصرية ، انظر ، ها هي ذى . ورأيت طائرة كبيرة تؤم المطار ، وحجبها عنا بناء المحطة هنيهة . ثم بدت فى جانب المطار الآخر ، فهبطت بعيدا ، ثم جاءت إلينا سائرة على الأرض ، تزهى بلونها وعلمها والكتابة العربية عليها . ونزل الركاب وتقدم المسافرون . ورأيت موظفا مصريا على مقربة من الطيارة معه أوراق ! فسألته عن جواز السفر ، وكان قد أخذ منى . فقال : أقدمت من بيروت ؟ قلت بل مسافر إلى مصر . قال : الجوازات فى الطائرة . قلت : أأركب إذن ؟ قال : نعم . فصعدت إلى الطائرة فى خيلاء الذى يقدم على المخاوف غير مكترث . قلت لأحد موظفى الطائرات أين أقعد ؟ وأردت أن يشير على بأقل المواضع اضطرابا كما يختار راكب السيارات الكبيرة موضعه . قال ، ولم يعرف مقصدى الخفى : حيث تريد . فقعدت فى أول مقعد إلى يسار الداخل . وبعد قليل أطبق الباب وحيل بيننا وبين الأرض . ثم دارت الآلات ودوت المحركات وجرت الطائرة قليلا . وتعمدت ألا أنظر خارج الطائرة لأرى أأشعر بانفصالها عن الأرض ، ولأتجنب الرهبة التى تبعثها

رؤية الطائرة ممعنة فى علوها .

أحسست أن الطائرة فارقت الأرض ، وآثرت أن أتجنب المرأى الهائل الذى تخيلته من قبل ؛ ولكن غلبنى التطلع فنظرت من النافذة فإذا أبنية تجري تحتنا وتبعد سريعا وتتضاءل . وتوقعت أن الطائرة ستضطرب قليلا ، فأمسكت بيدى اليمنى فى المقعد وباليسرى فى حديدة على النافذة . وترجحت الطائرة علوا وسفلا ، فقلت فى نفسى : مالى وللطائرات ! وكانت قوله لم تكرر من بعد . ثم استقامت وأتزنت واستمرت معتدلة لا تميل يمينة ولا يسرة إلا ميلا خفيفا فى الحين بعد الحين ، وتخفق أحيانا خفقة سريعة قصيرة إلى أسفل .

وكنت فى شغل بمرأى الأرض والتعجب من مناظرها ؛ أرى الأشجار على الأرض كأسنان المشط ، والقرى قطعا صغيرة من الحجر والمدر ، والصحراء ممتدة تتقسمها كثبان الرمل ، وتخططها ألوان مختلفة ، وتبدو بين الحين والحين واحاتها جزائر فى هذا البحر الرملى . ورأيت طريقا مرتفعا مسوى كأنه أساس جدار ، وطال تعجبى منه إلى أن أدركت أنه السكة الحديدية . ولما سايرنا الساحل رأيت أشباحا بيضاء متقاربة فتوهمتها مدينة على رأس ضارب فى البحر . ثم رأيت أمثالها فجزرتها جزرا ، ثم فكرت وتأملت ، على قدر ما يفكر ويتأمل من يركب الطائرة لأول مرة ، ولما يمض فى طيرانه ربع ساعة ، فعرفت أن هذه المدينة وهذه الجزر سحب متفرقة فى جو السماء . قلت : لشد ما بعدنا عن أرضنا . لقد صارت السحب لنا أرضا ثانية !

وكانت نفسى مقسمة بين الخوف والزهو والإعجاب والتفكير . أقول مرة : ثم در الإنسان لقد سخر العالم ، وفتح آفاق الأرض والسماء ؛ لقد بلغ من العلم والصنعة مبلغا عظيما .

وأتفقد الطير فلا أراها فأقول إنه مسرح لا تبلغه الطير ، وقد عز الإنسان النسور والعقبان ، وحلق حيث لا تقوى أجنحتها على التحليق . وأشعر بزهو خفى حين

أرى نفسى ممتطيا مركبا بشق أجواز الفضاء قويا مدويا سريعا سائرا على طريقه إلى غايته لا يضطرب ولا يعجز ، ولا يضل ولا يحيد ولا يتحيير ؛ ويزيدنى عجبا وسرورا أنها طائرة مصرية وطيار مصرى .

وحدثت نفسى أحيانا بما يثبتها ؛ قلت : مم أخاف ؟ إن هذه الطائرة قطعت هذه المسافات مئات المرات ولست فيها فلم يصبها شئ . وقد رأيت وأنا على الأرض طائرات كثيرة محلقة فى اللوح فلم أحسب أنها فى خطر ، ولا

أشفقت على من فيها . ولم يحدث فى الطائرات والطيران شئ إلا أنك تركب الآن الطائرة ، وهذا لا يغير فى الأمر شيئا .

وقلت مم أخاف : إن قانون الله الذى يسير هذه الطائرة على متن الهواء كقانون الله الذى يمسك الأرض التى نعيش عليها في الفضاء . ولم أرد التعمق فى هذا القياس خيفة أن تقول نفسى إنه قياس غير تام أو قياس مع الفارق ...

للكلام صلة )

اشترك في نشرتنا البريدية