الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 299الرجوع إلى "الثقافة"

فى دراسة الخلق

Share

إنه من المدهش حقاً ، بالرغم من المران الطويل والفرص العديدة المتاحة ، الا نعرف عن هذا الامر إلا الأقل الأقل.

أما أنا ، فإني لأحس أني كلما تعمقت في الدرس كلما ازداد الفهم عسراً . وإني لأذكر حديثاً سمعته بين ركاب إحدي "الحاشدات" في الطريق من باريس ، إذ قال قائل لصاحبه إن فلاناً بني على زوجته بعد أن دامت خطبتهما ثلاث عشرة سنة . فقال آخر : لقد أصبح صاحبنا إذن خبيراً بأخلاقها على الأقل . فأجابه محاوره : كلا ! بل على النقيض مما يتوهم الواهم . فقد بدا منها صبيحة اليوم التالي ما يخالف كل المخالفة ما كانت عليه من خلق وسجية ، فثبت عندي أنه يكاد يكون أقرب إلى المستحيل أن تصل إلي أعماق هذا اللغز .

وهناك طرق متعددة لدراسة الأخلاق . وهي : دراسة النظريات ، ودراسة الكلام المنطوق ، ودراسة أفعال الشخص المقصود بالدراسة .

وأولي هذه الطرق - وإن كانت تبدو طريقاً

سطحية - هي أسلم الطرق وأنجحها وأبرؤها من شوائب الخداع والتضليل

فالحرفة التي يحترفها المرء لا تدل على شيء ، وكل فعل يفعله يمكن أن يزوق ويزيف ، ولكنه لا يستطيع الهروب من نظراته . وقد قال أحد الاذكياء المشهورين :

" إن الكلام جعل لإخفاء المراد لا لبيانه "

ولذلك قيل : إن من اشتهروا بالنفاق لم يشتهروا بقلة الكلام .

ومن الكلمات المأثورة عن لورد شسترفيلد ، قوله:

" إذا أردنا أن نعرف الشعور الحقيقي للمرء ، وجب علينا - ومحن نجاذبه الحديث - أن نتتبع نظراته لا كلماته ، ذلك لانه يستطيع التحكم في مخارج حروفه ، ولكنه لا يستطيع التحكم في نظراته . وإن حياة المرء بجميع مراحلها وادوارها ، يمكن أن تكون " كذبة " من الاكاذيب لنفسه وللناس ؛ ولكن صورة يرسمها له مصور نابغ تبين - بوضوح - أخلاقه على الشاشة . وتفشي سره للذريات المقبلة " .

وأولي المرء وأدعي لتخليده أن يترك صورة حسنة له من أن يعنى ينقش ابلغ قبرية على قبره . فملامح الوجه - في الأغلب - تنم عن فكرنا وشعورنا ، أما ما بقي بعد ذلك فهباء وعدم .

ولست بقادر على أن اقنع نفسى أن أسمى أحداً من  الناس عظيما ، بينما تنبئ ملامحه أنه رجل غبي .

إن نظرات المرء هي من عمل السنين ، وقد طبعتها الحوادث على محياه ، فليس من الهين أن تمحى !

وهناك ناس لا نحبهم وإن قدم العهد بمعرفتهم وخلت صحيفتهم من كل شائبة ، ولكن الذي نأخذه عليهم - كما نقول لأنفسنا - هو ملامحهم . وليس هذا هو كل شئ ، بل لابد أن يكون هناك دافع آخر لهذا الكره ،

وقد يكون هذا الدافع بروداً في الطبع أو أنانية أو خفة  وطيشاً او قلة إخلاص ووفاء ، أو ما إلي ذلك مما لا يمكن تحديده ، ولكننا نراه واضحاً ملموساً في هيئتهم وملامحهم .

وقد يكون من أول الأسباب الدافعة لهذا الكره ، محاولاتهم إخفاء هذه العيوب بكل ما يملكون من وسائل التخفية .

ولقد لقيت مرة رجلا يبدو عليه - عند النظرة الأولى العادية - انه رجل انيق مهذب ؛ ولكن يبدو للفاحص اللماح أن لعينيه نظرات غامضة ، ليس من الميسور شرحها ، وكأنه - إذا تلفت - بريد أن يحتويك ويلفك في أهدابه الوطفاء ، حتى لا تستطيع التحديق فيه مرة أخرى . وقد ثبت عند التقصى أن هذا الرجل كان طراراً عالمياً .

أما النساء فهن اسوا قضاة - كما تقول إحدي بنات جنسهن - إذا جلسن للحكم على أخلاق الرجال ؛ وكذلك الرجال إذا جلسوا للحكم على أخلاق النساء ، وهذا ما يمكن استنتاجه من طريقة اختيارهم لزوجاتهم . فالحب - كما يقولون - أعمى ، وكل الأمر في الاختيار هو لهوى العابر . ومن المحقق أن غير قليل من المحظوظين والمحظوظات ليسوا ممن يظفرون بأكبر قسط من موجبات الظفر بين بني جنسهم . ويلوح أن النساء لسن على بقين من صحة أحكامهن في قضايا الحب ، وهن لذلك يلجأن إلي الأخذ برأي من يحببن ويصدقن دعاواهم فيما ينسبون إلي انفسهم من شجاعة ومن قدرة علي تصريف الأمور

ومن المشاهد أن المحامد التي يتمني كل رجل أن تكون من خلائقه ، كالفصاحة والفطنة والعلم ، ليست لها المقام الأول عند كثيرات من الجنس اللطيف ؛ وإن كنت لا أنكر أن الذكاء والشجاعة تنال تقديرهن

وكذلك لست أنكر أن الشباب والجمال ليسا هما الطريق الوحيد إلي قلوبهن .

وليس هناك شئ مما يؤدي إلي تعبيد الطريق التي يسلكها المرء في الحياة أحق بالعناية والدرس من أن يتقصى المرء عيوبه ؛ فإذا عرفها  توقاها واحالها إلى عناصر من عناصر القوة ، إذ لا شئ يرفع من قدره أكثر من معرفته مدى قدرته ، وهو بعد ذلك مستطيع أن يتحول هذه القدرة إلى قوة إيجابية دافعة ، ومن الناس من حاولوا هذه المعرفة فضلوا الطريق ، ومنهم من لم يهتد إليها أبداً . ومن الناس من صادفهم النجاح في أعمال معينة ، وهم مع ذلك يحسبون أنفسهم تعساء غير مجدودين ، ذلك لانهم فشلوا في العمل الذي كانوا من هواته ؛ مثلهم في ذلك مثل المحبين الذين قست عليهم قلوب صويحباتهم ، فتولاهم الضني ، وأضناهم السهر إثر حبيباتهم الغادرات .

" عن الإنجليزية "

اشترك في نشرتنا البريدية