للدكتور زكى نجيب محمود
كثيرا ما أقرأ الصحيفة أو الكتاب في شئ من العفوة والذهول ، فعيناي تطالعان شيئا ، والعقل مشغول بشئ آخر ، حتى إذا ما فرغت من قراءتي ، وسألني سائل : ماذا قرأت في هذا الفصل أو في ذاك المقال ؟ لم أجد ما أجيب به إلا على نحو مضطرب مهوش غامض .
لكني قد أصادف في غضون قراءتي الغافية الماهلة فقرة أتنبه لها مذعورا كأنما هي تلسع ، فأعيد قراءتها متمهلا متفهما ، وأدبرها في رأسي لأخذ إزاءها موقف القابل أو الرافض أو المتشكك ، ثم امضي في القراءة . . ولعله من مثل هذه الفقرات المنبهة الموقظة تتألف ثقافة الإنسان ، لأنها هي التي تكون له رأيا ووجهة للنظر ؛ وما أكثر ما يكون الكاتب أو الفيلسوف صنيعة وخزة من هذه الوخزات القوية ، التي لولاها لظل العقل قابلا ، يحصل العلم تحصيلا يجمع الحقيقة إلى جوار الحقيقة ، حتى يصبح الرأس كتاب متحركا لا إنسانا مفكرا ؛ وهذا هو فيلسوف الألمان " كانت " يقرأ لزميله الإنجليزي " هيوم " ما ذهب إليه في إنكار العلاقة السببية بين الأشياء والحوادث ، " فيستيقظ من سباته " - كما يقول - وينهض ليجيب على قول زميله إجابة مستفيضة ، فإذا هو يقيم للناس بجوابه ذاك بناء شامخا جبارا .
من هذه الفقرات التي قرأتها فتنبهت من غفوتي ، ثم أعدت قراءتها متمهلا متفهما متفكرا ، هذه الفقرة الآتية التي كتبها كاتبها ( ديورنت ) وهو يصف كيف أطبقت القبائل الآرية الشمالية في العصور القديمة على بلاد الهند ، فاكتسحت أهلها نحو الجنوب اكتساحا ، ولم تلبث أن استذلهم واستعبدتهم وملكت زمامهم . . " ولم تكن
غزوة الآريين لهذه القبائل المزدهرة ، وانتصارهم عليها ، إلا حلقة من سلسلة متصلة من الغزوات ، كانت تقع على فترات منتظمة بين الشمال والجنوب ، فينقض الشمال انقضاضا عنيفا على الجنوب المستقر الأمن ؛ وقد كان ذلك مجرى من المجاري الرئيسية التي سارت فيها حوادث التاريخ ، إذ أخذت المدنيات تعالو على سطحه وتهبط ، كأنها أدوار الفيضان يعلو عصرا بعد عصر ؟ فالآريون قد هبطوا على الايطاليين ( في الهند ) والآخيون والدوريون قد هبطوا على الكريتيين والإيجيين ( في اليونان ) ، والجرمان قد هبطوا على الرومان ، واللمبارديون قد هبطوا على الإيطاليين . والإنجليز قد هبطوا على العالم بأسره ؛ وسيظل الشمال إلى الأبد يمد العالم بالحاكمين والمقاتلين ، والجنوب يمده برجال الفن والدين ؛ فالجنة إنما يرثها الجبناء " .
إذا فهذه تفرقة جديدة تقسم عباد الله قسمين : شمالا سيظل إلى الأبد يمد العالم بالمقاتلين الذين يحكمونه ، وجنوبا سيظل إلى الأبد كذلك ملقيا بزمامه في أيدى سادة يجيئون إليه من الشمال ، لأنه في شغل بالآخرة عن الدنيا ؛ فلئن كان أهل الشمال يقاتلون بالحديد والنار ليمدوا سلطانهم على هذه الأرض وهادها ونجادها وسهولها ووديانها ، فأهل الجنوب ساهمون حالمون ، يريدون الجنة ؟ والجنة - في رأي الكاتب الذي نقلنا عنه الفقرة السالفة - يرثها الجبناء .
هذه تفرقة جديدة تصادفها ، تقسم الناس إلى شمال وجنوب ، بعد أن تقيأنا الصديد من تفرقة قديمة مألوفة ، شطرت الناس إلى غرب وشرق ؛ والمعنى في التفرقتين واحد ، والاختلاف في الأسماء وحدها ؛ إذ المراد في كلتا
الحالتين أن يقال إن أوربا وأمريكا صنف من البشر ، وسائر العالم صنف آخر ؛ ولك بعد ذلك أن تجعل الصنفين شمالا وجنوبا ، أو غربا وشرقا ، كيفما حلا وقع الألفاظ في مسمعيك .
وليس لي من العلم بالتاريخ ما أستند إليه في رد مفصل على هذا الزاعم بأن مجرى التاريخ كان دائما يتلخص في سادة ينقضون من الشمال ليحكموا في الجنوب ؛ لكن علمي الضئيل بالتاريخ يتيح لي على ضآلته أن أعلم بأن اتجاه الغزو لم يكن دائما من الشمال إلى الجنوب ؛ فالمصريون القدماء قد ساروا في فتوحهم من الجنوب إلى الشمال ؛ وأخذت جيوش الرومان سعتها نحو الشمال حتى بلغت بريطانيا ، وجاءت غزوات العرب في خط أفقي لا رأسي ، فاتجهوا من قلب صحرائهم شرقا وغربا ، والأتراك ساروا في الغزو نحو الغرب إلى جانب اتجاههم نحو الجنوب ، وهكذا .
على أنني اعترف أن نفوري من الفقرة السابقة لم يكن أساسه تكذيب الكاتب فيما ذهب إليه من تفصيلات التاريخ ، بل كان نفورا ذاتيا شعوريا ، مافتئت أيديه كلما سمعت إنسانا يقسم عباد الله أقساما ، فمرة هم شرق وغرب ، ومرة أخرى هم شمال وجنوب ؛ لأننا - في أغلب الظن - لا نظفر من هذه التقسيمات إلا بصفقة المغيون ؛ فإن كان العالم غربا وشرقا ، فنحن شرق ؛ وإن كان العالم شمالا وجنوبا ، فنحن جنوب ؛ أعني أن العالم إذا انقسم حاكما ومحكوما ، فنحن الفريق المحكوم ، هازما ومهزوما ، فنحن الفريق المهزوم ، سادة وعبيدا ، فنحن العبيد ، أهلا لنعيم هذه الدنيا ، وأهلا للجنة ، فنحن أصحاب الجنة . . " التي يرثها الجبناء " .
نحن نرفض كل تقسيم من هذا القبيل ، فلا شرق هناك ولا غرب ، ولا شمال ولا جنوب في خصائس البشر وصفاتهم ، فكل شعب في الدنيا ككل شعب آخر من حيث الاستعداد والفطرة ، وتبقى بعد ذلك ظروف اقتصادية وسياسية ، قد توجد في الشرق أو الغرب ، في الشمال أو الجنوب على السواء ، فهي تظهر هنا مرة وهناك مرة .
هذا تقسيم خرافي أخذ به أصحابه لأنه يشبع في أنفسهم رغبة الاستعلاء والسيادة ، فحين ذهب " رديارد كبلنج " إلى الهند حيث أقام أعواما ، ثم عاد إلى بلاده ليقول عبارته المشهورة : " الشرق شرق والغرب غرب ، ولن يلتقيا " لم يكن بالطبع يقصد أن اختلاف الهند عن انجلترا هو اختلاف النظائر الأنداد . بل أراد أن يقول إنه اختلاف الأبيض عن الأسود ، والسيد عن المسود ؛ وكذلك فيما اعتقد ، يرمي " ديورنت " إلى شىء كهذا من قوله إن التاريخ لم يزل منذ بدايته يجرى في مسلك يبدو فيه أهل الشمال سادة على أهل الجنوب ، على الرغم من أن " ديورنت " - على نقيض كبلنج الاستعماري المتعصب الضيق الأفق - من أشد الناس في عالمنا المعاصر تسامحا وأوسعهم ثقافة ، وأرحبهم صدرا لما بين شعوب الأرض من أنواع الخلاف .
هم يقولون ذلك ليشبعوا في أنفسهم رغبة الاستعلاء والسيادة ، فماذا يقول أدباءنا ؟ يعترفون لهم بالتقسيم ، ثم يأخذون في الدفاع عن شرقهم أو جنوبهم ، ليظهروا ما فيه من حسنات بينات ؛ ولست أدري لماذا نلزم انفسنا بالدفاع عن فضية خاسرة ؟ لماذا نتورط في تقسيم خرافي يزعمه سوانا لغرض في نفسه ؟ لماذا نضرب على النغمة التي تؤكد في أنفسنا معنى التدهور والتأخر ؟
إن أعجب العجب في موقفنا ، هو أننا نختار لأنفسنا أسوأ الفروض ؛ إذ الفروض ها هنا ثلاثة : الأول أن يكون التقسيم باطلا من أساسه لخلوه من المعنى ، ومن شاء فليدلي على الوضع من وجه الأرض ، الذي يبدأ عنده التقسيم شرقا وغربا ، أو شمالا وجنوبا ، والفرض الثاني هو أن يكون التقسيم صحيحا ، لكننا نقع من الأقسام في الغرب دون الشرقي ، وفي الشمال دون الجنوب ، وهذا هو ما اختاره الخديوي إسماعيل حين أراد أن يجعل مصر قطعة من أوربا ، وما يجب أن يختاره كل عاقل مخلص إذا أخذ بمبدأ التقسيم إطلاقا ؛ فلو كانت الدنيا أقساما فلسنا أقرب إلى السنغال وبوغندة والتبت منا إلى اليونان وبوغوسلافيا وإيطاليا . والفرض الثالث هو أن يكون التقسيم صحيحا أيضا ، غير أننا
( البقية على صفحة ١١ )
( بقية المنشور على صفحة ٧ )
تقع في الشرق دون الغرب ، وفي الجنوب دون الشمال ، وهذا ما قد جرى به العرف ، وما قد استسلم له أدباؤنا وثبتوه وأكدوه ، كأنما هو شرف نسعى إليه !
ليس الأمر هنا أمر ألفاظ ، وإلا لهان الخطب واحتملنا البلاء ، لكنه يصيب حياتنا ووجهة نظرنا وطرق اصلاحنا ونهضتنا في الصميم ؛ إذا اردنا دستورا سياسيا ، أو تعلما ، أو إصلاحا للأسرة أو المجتمع بأية صورة من الصور ، فأي طريق نختار ؟ إذا أراد الشاعر أن ينظم ، والفنان أن يرسم ، أو ينحت التماثيل ، والموسيقى أن يعزف ، فأي طريق يختار ؟
عندي أن الجواب واحد واضح ، لا تردد فيه ولا غموض لمن اراد أن ينظر إلى الأمور نظرة جادة حازمة ، وهو الجواب الذي أجابت به تركيا صريحة جريئة مخلصة ؛ الجواب الواحد الواضح هو أن تدمج في الغرب اندماجا ، في تفكيرنا وآدابنا وفنوننا وعاداتنا ووجهة نظرنا إلى الدنيا ، الجواب الواحد الواضح هو أن تكون مصر قطعة من أوربا كما أراد لها إسماعيل ، وكل من يريد لها النهوض الذي لا يكبو ولا يتعثر ؛ ليس من العزة القومية في شئ أن نحتفظ لأنفسنا بطابع إذا كان هذا الطابع مما يصم صاحبه بالعجز والقعود والبلاهة ؛ فإذا اختلفنا عن أمم أوربا وأمريكا ، فلا ينبغي أن يجاوز هذا الاختلاف مقدار ما تختلف به تلك الأمم بعضها عن بعض .
إنني في ساعات حلمي ، حين أحلم لبلادي باليوم الذي أشتهيه لها ، فإنما أصورها لنفسي وقد كتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون ، وارتدينا من الثياب ما يرتدون ، وأكلنا كما يأكلون ، لفكر كما يفكرون ، وننظر إلى الدنيا بمثل ما ينظرون . .
لسنا شرقا إن كانت الدنيا إلى غرب وشرق ، ولسنا جنوبا إن كانت الدنيا إلى شمال وجنوب . . والتقسيم كله باطل من أساسه على كل حال .
