عرف رواد الأدب منذ عشر سنوات دعوة الأستاذ الجليل الدكتور طه حسين بك , إل ضروة الاهتمام بدراسة الأدب المصرى فى شتى صوره, وسرتهم رغبته فى إنشاء كرسى لتدريسه يقسم اللغة العربية فى كلية الآداب , ثم أعلن القسم فى نهاية العام الدراسى المنصرم أنه اعتزم تحقيق هذا المشروع فى عامنا الراهن ، ورشح الأستاذ الجليل أحمد أمين أستاذا للأدب المصرى , بعاونه اثنان من أصدقائنا : أحدهما الأستاذ محمد كامل حسين ، صاحب هذا الكتاب الذى وضعا عنوانه فى رأس هذا المقال ؛ وأثارت هذه الحركة الطبية اغتباطا ملحوظا فى
نفوسنا جمعيا, ولكن الغريب حقا أن الأستاذ أحمد أمين قد شغل عطلة الصيف الماضى بمقالاته الطبية التى نشرها فى " الثقافة " وأعلن فيها " جنابة الأدب الجاهلى على الأدب العربى", وصور فى ثناياها طغيان الروح العربى على الآداب الاقليمية طغيانا أفقدها خصائص البيئات ومميزات العصور , وسمح منها طابع الزمان والمكان معا ! .. فقضى الأستاذ بمقالاته القيمة - فيما قضى - على الأدب المصرى فى روحه وطابعه وخصائصه ، ولم يبق من هذا الأدب وهو أستاذه الأول - إلا اعتباره شعرا ونثرا قيلا فى أرضها المصريون !...
وفىى نفس هذه الفترة التى كان فيها قسم اللغة العربية معنيا بالاستعداد لتدريس الأدب المصر فى كلية الآداب, نشر صديقتنا الأستاذ كامل حسين كتابه عن الأدب المصرى الاسلامى منذ الفتح العربى إلىى دخول الفاطميين أرض مصر , فكان طبيهيا عند الواقفين على هذه الحركة الطيبة أن يبحثوا فى هذا الكتاب - أول ما يبحثوت - عن خصائص الأدب المصرى ، عسى أن يهتدوا إلى روحه وطابعه الذى يميزه عن سائر الأداب الاسلامية فى شتى البقاع الأخرى . وما أظننى أنجنى على صديقى المؤلف حين أطالبه باستقصاء العناصر المصرية فى الأدب الذى تناوله بالدراسة والبحث ، فان الأدب المصرى بغير هذا يكون
عبارة عن الشعر والنثر اللذين يحدان شمالا بالبحر الأبيض, وجنوبا بالسودان, وشرقا بالبحر الأحمر و..... إل آخر ما يراء الجفرافيون فى تحديد مصر ! . ويصبح كل ماقيل فى أرض مصر من شعر ونثر ، مصريا ، ولو لم يحمل إلا طابع الجاهلية الأولى ! . وإذا قدر لصر أن تعيد الشام لحكمها ، أصبح أدب الشاميين مصريا صميعا لأنه قيل فى أرض يحكمها المصريون!....
عرفناه فى القديم والحديث ، وأن هذا الشاعر يحسن التعبير عن الطابع الانسانى والمصرى معا ، وذلك خير ما ينتظر من شاعر مصرى مطبوع ، ولو كان للاعتبارات الجغرافية حساب فى عرف أستاذنا ما اعتبر هذا الشاعر الذى ولد فى الشام مصرى الروح والطابع.
ويشهد كذلك بوجود الطابع المحل ف الآثار الأدبية العربية هذا البحث الممتع الذ نشره الأستاذ أمين الخولى فى الجزء الأول من المجلد الثانى لمجلة كلية الآداب - التى يقوم الأساتذة بتحريرها - وأبان فيه عن أثر " مصر فى تاريخ البلاغة ، وإن كان الأستاذ قد هدم فكرة البحث باعتراف ورد فى نفس المقال . وسنعرض لمناقشته فى نهاية هذه الكلمة .
على أن صديقنا صاحب الأدب الإسلامى قد فطن إلى ضرورة البحث عن الخصائص المصرية فى الأدب الذى
اهتم بدراسته, وهو كثيرا ما يأسف حين تعز عليه أسبابه الكشف فيها فى بعض الفترات المظلمة فى عصره ( ص 116 مثلا ) , ثم هو بطرب لفرط لافتياط إذا لاح له أن اهتدى فى بحث إحدى الفترات إلى ما يوهم بوجود الطابع المصرى وحسبنا الآن أن نعترف له بهذا الفضل ، وإن كنا سنعود لناقشته فى الأسباب التى أدت إلى أسفه ، أو انهت باغتباطه ، لأن هذا هو جوهر الخلاف القائم الآن بيني وبينه.
وقد كنت أحب - كقارئ له - أن يعقد فى كتابه فصلا تمهيديا يكشف فيه من خصائص الأدب المصرى, ويحدد طابع مصر وروحها, ثم يطبق ما يقوله فى هذا الفصل على ما يدرسه فى شتى الفصول الأخرى من أكون الأدب فى مصر, وليست تكفينى تلك الاشارات القضية التى نرها فى الكثير من صفحات الكتاب , وأعلن فيها اغتياله بالعثور على الخصائص المصرية, لأنها إن دلت على شئ فانما تدل علىى أننا على خلاف ملحوظ فى فهم الخصائص التى تميز أدينا عن سائر الآداب فاشارات المؤلف تنبئ بأنه يفهم من الخصائص المصرية, الحديث عن البقاع المصرية, وما يمر بأهلها من أحداث, فالشاعر مصرى تتساب فى شعره النفحات المصرية متى ذكر المنيا وبنى سويف , ولم يهمل ذكر طنطا ودمياط وهو مصرى صادق التعبير عن الروح المصرى متى سجل الحوادث التى شاهدها المصريون من اضطرابات سياسة أو اجتماعية..! من ذلك قوله فىى شعر أبىى نواس حين وقد على مصر : " ثم ذكر النيل مرارا وما به مممن التماسيح , وهو معنى لا يتأتى لشاعر لم ير النيل , ولم يسمع عما به من التماسيح " ) ص ١٨٧ ( وتمشيا مع هذا المنطق تستطيع أن نقول إن فى استطاهنك أن تكون أدبيا روسيا أو ألمانيا أو انجليزيا منى قرأت كتابا فى جغرافية بلاد هؤلاء الأقوام ، وصفت معلوماتك التى استقيتها عن هذا الكتاب فى شعر أو نترنى ، ويومئذ يتنازع عليك الروس والألمان
والانجليز ، يريد كل فريق أن يعتبرك من أهله . إن دعاة الأدب القوى بتصويرهم الأدب المصرى على هذا النحو ليشهون الشعراء الذين يزعمون أنفسهم مجددين ، لأنهم عدلوا عن وصف الناقة والصحراء ، إلى ذكر العليارة والتليفون ، وما إليه مما لم يسمع به القدماء .
وقد يقتضب المؤلف حيث ينبغى الأعصاب , فحديثه من الخصائص المصرية بمجرد إعلان عن مرضائه عن كشفها , دون تحديد لها أو إشارة إليها , فمن ذلك قوله عند ما عرض للحديث عن النحو:" وهنا أنساءل : هل استطاع هؤلاء العلماء - المصريون - أن يتخذوا لأنفسهم مذاهب نحوية تختلف عن مذاهب الكوفيين, والبصريين والبقداديين؟ وهل هناك فرق بين آراء النحويين المصريين والنحويين فى العراق ؟ أستطيع أن أجيب على هذا كله بأنه كان المصريين آراء تختلف بعض الشئ عن آراء العراقيين ، وأترك تفصيل ذلك كله إلى البحث الذى سأنشره قريبا عن مدرسة النحو فى مصر . ص ٦٩
على أنهخ ينبغى أن يعرف على وجه التحقيق , أن انفراد عالم أو شاعر مصرى رأى أو مذهب من المذاهب, لا يصى أن هذا الخلاف من أثر مصر وإملاء روحها , فإن أفراد الأمة الواحدة يتعاونون فى فهم الامور , ويختلفون فى وجهات النظر, وهذا التفاوت فى التفكير لا يبرر القول بأنه من أثر البيئة وإملاء المكان , ولكن الؤلف يعم فى أحكامه حيث يجب التخصيص , فتراء يقول عند الكلام على علم القرآت فى مصر : إن أبا يعقوب المصرى انفراد عن أستاذ " ورش " يتغلظ اللام وترقيق الراء ثم يعقب على هذا قائلا :" من ذلك كله نستطيع أن ندرك أن المصريين كان لهم أثر واضح فى القرارات .. كما كان المصريين رأى خاص . كالذى ذكرناه عن قراءة أبى يعقوب المصرى فى تغليظ اللامات وترقيق الراآت " ص ٣٩ ، ولا أطن أن هذا التغليظ والترقيق من خصائص الروح المصرى,
ولعله من طبيعة الخلاف الذى ينشأ عادة بين الأفراد .
إلى آخر العصر الذى درسه المؤلف ؛ والمعنى الذى يفيده النص السالف أن المؤلف الكريم يعترف بأن الشعر المصرى تعوزه روح البيئة المصرية ، قيل عصر الطولونيين والأخشيدين ، وفى عصر الطولونيين والأخشيين على السواء...!!
ومما يسترعى النظر فى كتابه صديقتا , تعليل بعض الظواهر, وقد أسلفنا الاشارة إلى أن بعض المقدمات التى يعتمد عليها لا تبرر النتائج التى ينتهى إليها , وتضيف الآن بضة أمثال كقوله ( ص 94- 95 ): " وكانت مصر لااسلامية تسير نحو الأخذ بحظ وافر من العلوم, فازداد عدد الشتغلين بها يوما بعد يوما , فكان ذلك من الأسباب التى وجهت الكتابة العربية فى مصر إلى ناحية خاصة , هى الناحية الفنية التى يتكلفها الكاتب ويعتمد تجملها وزخرفها وهذا ما وراء... " . وأكبر الظن عندى أن انتشار العلم لا يؤدى إلى هذه الزخرفة اللفظية المتكلفة ؛ ولعل الأصع أن يقال إنه بقضى عليها ولا يعيش معها أبدا ؛ وما كان يجمل بالمؤلف أن يعتبر هذا العبث القائم على التكلف اتجاها فنيا ...! ويعتمد صديقنا على قصيدة واحدة لشاعر واحد أعلى فيها اغتباطه ثمات أمير ، ويقول
إن المصريين قد خدموا الشعر فى هذا العصر وسيلة لهجاء الموتى ! وذلك رغم أنه يعترف بأنه لا يكاد يعرف لهذا مثيلا فى الهجاء العربى ، ولا فى الشعر المصرى...! ص ٢٢٠
وقد يروى طاهرة ويفصل الحديث فى أمرها, ثم لا يحسن تعليها , وربما كان فى شرحه ما يمكن الناقد من مناقشة تعليله ، فمن ذلك قوله " ولولا هذا الطمع فى المال ما أتى أبو نواس من بغداد إلى مصر .. وهذا المدح الذى أنشده أبو نواس للخصيب يختلف عن مدح المتنبى لكافور الأخشيدى ، إذ كان المتنبى كاذبا فى مدحه ، كان يصانع كافورا ويجامله .. ص ١٧٩-١٨٠ .
ومعنى هذا أن أبا النواس كان صادقا فى مدحه للخصيب, وأظن هذا لا يتفق مع الفقرة الأولى فى النص السالف, ولا مع قوله بعد ذلك بصفحة واحدة :" وهكذا انتقل أبو نواس من مدح الخصيب إلى هجائه ؛ وبغلب على ظنى أن الخصيب لم يقف بوعده لابى نواس ، أو أن أبا نواس كان يطمع فى أضاف ما ناله من الخصب " ص ١٨١ . أى أن المديح إذا كان مرهونا بالعطاء ، ولا أظن هذا النوع من المديح يكون صادقا أبدا
ومما يدخل فى هذا الباب حاجة البحث إلى الدقة أحيانا , من ذلك ما نراه عند الكلام على المنتبى فى مصر , فقد احال المؤلف قراء على خمس وثلاثين ومائة صفحة من كتابا " مع المتنبى " لأستاذنا طه , لكى يعرفوا أثر مصر فى شعر هذا الشاعر قائلا لهم : " تحدث الأستاذ الدكتور طه حسين بك طويلا عن أثر مصر فى شعر المتنبى" ص 247 , فإذا الشمس القراء هذا الأثر فى الكتاب عرفوا أن الصفحات التى يشير إليها الأستاذ كامل , هى كل ما كتبه الدكتور عن المتفى منذ فكر فى زيارة مصر إلى أن بارحها فارا إلى الكوفة ، وأن حديث الدكتور عن أثر مصر فى شعر المتفى قد استغرق بضع صفحات ، أعلن فيها أن البيئة الطبيعية - مصرية أو غير مصرية - لم تكن تؤثر فى نفس المتفى كثيرا ، وأن البيئة الثقافية
فى مصر قد كان كل أثرها أن حملت الشاعرى على أن يحسب لعلمانها كل حساب ، وليس فى هذا ما يدل على أن الروح المصرى قد تمكن فى هذه الفترة التى أقامها المتنى فى مصر ، من التسلل إلى شعره والتجلى فيه ...
أيام العصم أمر... وفى ص ٢٢ : فكثر بذلك أموالهم - وفى ص ٨٤ : ولم تساهم مصر القدر الذى - بتعدية الفعل اللازم ، وفى ص 53 : الناظرات الشيقة ، وصوابها الشائقة ، وفى ص ٧٢ : اعترفوا له بالفضل والرئاسة ، وصوابها الرآسة أو الرياسة .. الخ الخ.
حسبنا الآن هذا , فقد طال الكلام , ولكن ينبغى - لا مجاملة لصديقنا المؤلف - بل إنصافا لما حقيقية أن نعترف بأن موضوعه بكو لم يتناوله بالدراسة أح قبله - فيما نعلم - وقد سلك فى ارتياد متاطقه المجولة منهجا عليما عداه إلى الكثير من ترائنا القديم , وينبغى أن نلتمس له الأعذار فى الكثير من هنانه , فان رواد هذا النوع من الأدب قليلون, وهم فى ارتيادهم لآفاقه المظلة لا شك ملاقون الكثير من الصعاب, فان أحجموا من محاولة كشفها, بقى الأدب المصرى فى خفاء عنا , وطلت هذه الكنوز الثمنية دفينية مجهولة, وبفضل هذه الجهود الطبية نبلغ الغاية فى فهم القديم من آثارنا الأدبية والفنية ! وصديقنا الأستاذ كامل من الطلائع الذين يعتبرون أصحاب الفضل الأول والجهد المشكور فى هذا العمل الجليل ؛ والقارئ لا يملك إلا الاعتراف بتوفيقه فى الكثير من جهوده ، وعتاعبه التى تطالعنا بها كثرة المصادر والمراجع
واعترف فيه بأن المدرسة الأدبية التى عاشت فى مصر كانت لا تعبر عن الروح المصرى وحده وحده ، بل كانت تعبر عن روح الشرق الأقرب كله ! .. وواضح أنا نريد لكشف عن الخصائص المصرية وحدها ، لا خصائص الشرق الأدنى كله .
على أن هذه الملاحظات كلها لأثمنها من تقديلا هذه الجهود الموفقة , والثناء على أصحابها, وإنا لنرجو أن يواصلوا حملاتهم على المجهول من آدابنا ، ليكشفوها لنا ، نحن النزاعين لدراسة آدابهم وتقدير أثارهم ؛ رغم ما نبديه من حرص على مناقشة آرابهم ؛ وليذكر صديقنا كامل قول أحدهم - ولعله جلد سمث - إن النقاد قوم يشتغلون بالنقد ، لأنهم أخفقوا فى أن يكونوا أدباء.
