قرأت ما كتب الأستاذان الدكتور ب . كراوس ، الأستاذ محمد طه الحاجري ، في العدد السابق من مجلة الثقافة " عن كتاب " الحيوان " للجاحظ .
ولعل هذه هي المرة الأولى في تاريخ النقد الأدبي بمصر : ان يجتمع ناقدان اديان ، فيصدرا نقدا مشتركا لعمل ادبي في مقال واحد . وهو دليل ساطع على نمو
الروح النقدية ، وعلى قوة ما وصل إليه التضامن الادبي والعلمي . وهو كذلك برهان على وعورة العمل في كتاب مثل كتاب الحيوان " الذي يهيبه رجال قبل رجال ، حتى ما رأي الناس من أقدم علي شرحه أو تخليصه من إسار التحريف حتى سنة ١٣٥٦
ولو أن رجلا من السابقين كان غني بتقييد بعض
عباراته بالشرح ، أو حل شيئا من رموزه الغامضة ، لهان الأمر فيه قليلا ، والحفظ لنا طائفة صالحة من عباراته على وجه الدهر سالمة
ومن عجيب امر هذا الكتاب إنك لا تجد منه نسخة سليمة او كاملة ، في كل نسخة آلاف من التحريفات ، وفي كل نسخة مئات من الآسقاط . فكان من يحاول إحياء هذا الأثر الجليل ، كرافق السقاء الواهي ، كلما رتق فتقا من ناحية ، تفجر الماء عليه من أخري حتى ليعاني الرجل في ذلك ما يفوق جهد التأليف ومشقة التصنيف .
ومن الحق أن أقول : إن المراجع الفنية والأدبية ، التي اعتمدت عليها في التصحيح ، قد اجدت على ما يجد نسخ الكتاب ، يعرف ذلك من قرأ النشرة الأخيرة ، وخاصة الجزأين الثاني والثالث .
قرأت نقد الأستاذين الفاضلين . ومن قبل قرأت نقد الأستاذ السندوبي في جريدة الدستور . وأعجبني من النقدين ما لمست من صادق الغيرة والأخلاص ، واعجبني فوق ذلك سمو ادب النقد ، فيها أخذ به الناقدون أنفسهم من نقاء العبارة ، والبعد عن تلك الأساليب القديمة ، التي تضارع اساليب الحروب الهمجية في عصورها الأولى ، التي لا يسيفها الزمان الحاضر
وإني لأشكر الأستاذين أولا علي ما تقدما به من ملاحظات قيمة ، واشكرهما آخرا على تلك التهنئة الخالصة التي وجهاها إلي ، وذلك التقدير الكريم الذي قدراه لعملي المتواضع
بيد أن لي نظرا في بعض ما كتبا ، تمليه علي الروح التي أملت عليهما ما كتباه .
جاء في ص ٧١ س ١ : " وعلى مثل ذلك فهم الصبي الزجر والإغراء ، ووعي المجنون الوعيد والتهدد وكلمة
" وعي " هي في نسخة كوبريلي " ودع " وفي ط : " ردع " فجريت على أسلوب الجاحظ في المزاوجة ، فجعلت إزاء " فهم في الجملة الأولى ، وعي " في الجملة الثانية . إذ وجدت " ودع " غير صحيحة ، و ردع " يجعل المعنى تافها . وهل يردع المجنون وعيد او تهدد ؟ إنه لا يزيده إلا ثورة وهياجا . ولو كان الوعيد يردعه لكان علاجه بايسر علاج واهونه . فهو يعي ما يوجه إليه من صوت او إشارة ، ويفهم ما يراد به التودد ، وما يراد به التهدد
وجاء في ص ٣ : " ومثل ذلك اشتد حضر الدابة مع رفع الصوت " ولا شك ان هذه قراءة صحيحة ، كما لاشك في أن قراءة " رفع السوط " قراءة صحيحة أيضا .
في ص ٤ : ) ولولا الوسوم ونقوش الخواتم ( إلخ . وكلة " الوسوم " هي في الطبيعة الأولى " الرسوم " بالراء وفي أكثر النسخ " الوشوم " بالواو ثم الشين . ثم الشين . أما الرسوم " فلا شك في تحريفها . وأما " الوشوم " فذات معني خاص ؛ إذ أنها جمع " وشم " وهو ما ينتج من غرز الإبرة في البدن وذر النيلج عليه . ولا يزال الوشم معروفا متداولا إلي عصرنا هذا ، بين فتيات الريف وفتيانهم . وتوجيه العبارة بها يفسدها إذ هي بتمامها " ولولا الوسوم ونقوش الخواتم لدخل على الأموال الخلل الكثير ، وعلى خزائن الناس الضرر الشديد " . والمراد بالأموال هنا " الإبل " قطعا . ومن المعروف أن العرب كانوا - ولا يزالون - يجعلون لابلهم وسوما ، تكون تلك الوسوم بالكى ، ويسمون اداة السكي " الميسم " وقد يسمونها ويعلمونها بوسائل أخري ، وكله يسمي وسما وفي الحديث : " ) إنه كان يسم إبل الصدقة " أى يعلم عليها بالكى . وانظر ما تحدث به الجاحظ نفسه عن وسم الأموال في الجزء الأول من القشرة الحديثة ص ١٦٠ - ١٦١ حيث الكلام مستفيض في هذا
وجاء في ص ٧١ س ١٠ : " ولا يخرج الخط من
الجزم ، والسند المنعم كذا كيف كان أخذ على الناقدان انى اثبت " كذا " ولم انتبه إليها . والحق أني انتبهت إليها ، ونبهت على أنها مقحمة في النص . انظر الاستدراك ص ٤١٩ .
وفي س ١٣ : " في استيفاء مأثرها وتحصين مناقبها " قال الأستاذان : " وفي نسخة كوبريلي : في استيفاء مأثرها وهو الوجه " ولم يفتني هذا بل شهدت عليه في الاستدراك ص ٤١٩ ، حيث كتبت : " الوجه استبقاء كما في ل " . وفي ص ٧٣ س ٢ : " من القرون السابقة " وفي بعض النسخ : " السالفة واثبت السابقة وليس في هذا مأخذ ، والبست إحدي الكلمتين بأولي من الأخرى .
وفي ص ١٥ ورد بيتان للنمر بن تواب :
جزي الله عن حمزة ابنة نوفل
جزاء مغل بالأمانة كاذب
بما خبرت على الوشاة ليكذبوا
على وقد أوليتها في النوائب
وعقب الجاحظ على البيتين بقوله : " اخرجت خبرها فخرج إلي من احب أن يعاب عندها . اي اظهرت سر الحب فذاع حتى وصل إلي الوشاة التي يتمني ان يصابوا عندها . وليس في العبارة على هذا الوجه الذي وجهتها به غموض
لكن الأستاذين الفاضلين وجها العبارة بالوجه الآتي : " اخرجت خيرها مخرج من احب " الخ ولا يصح هذا التركيب إلا إذا حورتا ، احب " إلي " احبت فيصير المعنى . اخرجت خبرها مخرج التي احبت ان يصاب هو عندها .
وجاء في ص ١٥ س ١٢ قول كعب بن زهير
فاخش سكوتي إذ أنا منصت
فيك لسموع حنا القائل
و " إذا منصت " هي حدي روايتي البيت ، كما في
طبعة الساسي ، وكما في خزانة الأدب ( ١٢:٤ بولاق ) . قال الأستاذان : " والصحيح آذنا منصتا " والتعبير بكلمة " صحيح " بعيد عن الحق ؛ إذ هما روايتان يستقيم المعنى كل منهما . كما نبهت في أسفل الصفحة .
على أن نكشف عن ظن ذهب إليه الأستاذان الفاضلان ، وهو ان الطبقة الأولى التي نشرها الحاج محمد ساسي المغربي مقتبسة من نسخة حديثة محرومة كثيرة التحريف وليس الأمر كما ظنا . بل قد طبعت عن عدة نسخ خطية كما حققت في مقدمة الحيوان ص ٣٦ وانظر طبعة السامي ) ٩،٨،٧،٥،٤،٣:٢ ( وكذلك الجزء السادس ص ١٦٠ حيث مجد عبارة : " هكذا هو في أصول الكتاب
وليس يفوتني ان اتمني للاستاذين الفاضين شكري الصادق على كريم نقدها ، وعلى ما أتاحا لي من هذه الصلة العلمية بهما
(سيدي جابر )
عبد السلام محمد هارون
