كان لاستيقاظ الشعب الإغريق ونمو الروح الوطنية فيه بعد الحروب الفارسية ان ازدهر فن النحت على ايدى الذين استطاعوا السيطرة على الخلق التكويني ، ووصلوا إلى اقصى درجة من الإجاز فى إخراجه ، فكان لمنحواتهم أن مثلث المثل العليا اسمى تمثيل وعبرت عن الوصول إلى درجة الكمال ؛ فارتبط الواقع بالجمال المثلى ، وظهر النحت الإغريق بمظهر لا يزاحم فيه إطلاقا .
وكان استعداد الإغريق للنحت هائلا ، فجعلوا من تماثيلهم البارزة ونصف البارزة ما سجلوا به الموهبة الفطرية والعقلية والفنية فى هذا المجال .
ولهم من منحوتاتهم ما اظهر عقائدهم الدينية والكيفية التى كانت تسير عليها عاداتهم فضلا عن حياتهم العامة التى كانت الألعاب الرياضية ركنا هاما من أركانها .
وكان ولا يزال وسيظل النحت الإغريق مثار إعجاب الإنسان المتحضر ورمزا للتفوق ومثلا عاليا يحلق فى سماء الفن ، لا يمكن لطامح أن يعلق بأطرافه .
وللنحت في بلاد الإغريق مناطق ومراحل ومدارس اما من حيث المناطق فخيرها لهذا المقال منطقة اثينا ، واما المرحلة الزمنية فهي المحصورة بين سنة ٤٧٠ وسلة ٣٣٠ قبل الميلاد ، لأن هذه هى مرحلة " عصر الرفعة " أو " الازدهار " .
على انه يمكن تقسيم هذا العصر إلى قسمين : أولهما أو أقدمهما
استغرق القرن الخامس قبل الميلاد ( من كيمون إلى حرب البيلوبونيز ) وفيه تناول النحات الإغريق الحقيقة الواقعة امام عينيه فى احسن وضع لها ؛ فلم تكن تنتجى هذه الحقيقة إلى فرد بعينه ، بل إلى النوع كلية ، فى شىء من السمو فى الخيال والتصور ، فكانت طابعية النزعة وليست طابعية الإخراج .
ومع هذا لا يزال المشاهد يتصور أو يظن " وحينا يعتقد " ان التماثيل - فى تلك المرحلة على الاقل - قد عبرت بتفاصيلها وطريقة اخراجها عن أصحابها التى تحتت من أجلهم تعبيرا حقيقيا
أو طبيعيا ، ولكن هذا بعيد الاحتمال بالنظر إلى ما فى تكوينها من جمال ساحر قلما يوجد مثله فى النوع الإنساني .
و لا جدير بالذكر ان المظهر الكلى والمجموع الإنشائي لمنحوتات " عصر الرفعة " او " الازدهار " يعطي فكرة المبالغة فى الأحجام مع تمام التناسب ، ولم يقصد النحات الإغريق من ذلك إلا إبراز المعالم فى مظهر من القوة وعلو الهمة ووجود الشخصية ، فى هدوء نفسانى وبعد عن العنف .
وأما الحركة الجسمانية التى تعبر عن الحيوية فهذه مع بساطتها - نسبيا - من حيث التنويع ؛ فإنها عبرت خير تعبير عن اليقظة والنشاط .
ولا يوجد من يمكن اعتباره فى مقدمة هذا العصر سوى زعيم المدرسة الاتيكية القديمة ( نسبة إلى اتيكا ) الا وهو فيدياس الذى لا يزال ليومنا من أعظم فنانى العالم أجمع .
ولد فيدياس بن خرميدس الاثيني فى عام ٥٠٠ ق . م . واشتغل مصورا فى اول الامر تم تتلمذ على اجيلادس بمAlada وبعدئذ استقل فى عمله حتى استدعى لنحت تمثال زويس المعروف فى اوليمييا ، وعاد إلى أثينا والتقى فيها بيركليس وعمل فى البارتنون . وبعد ما أتم تمثال أثينا سنة ٤٨٣ انهم بالخيانة وطلبة للمحاكمة ولكنه مات قبل الحكم عليه
وأبرز مميزات فئه انه أول وأعظم مثال مثلى بكل معانى الكلمة ، لا سيما وانه حصر مجهوده الجبار فى خلق تماثيل الآلهة واستطاع التعبير عن المثل الأعلى فى التكوين الجسمانى المتناسب مع تمثيل
الالهة ، فاتخذ من جسم الإنسان مادة بيانه ، ولكنه ارتفع بتماثيله إلى المستوى الذى ابعدها عن الصفات البشرية وقربها من الالوهية ؛
فبدت فى غاية كمال الانسجام التفصيلى للأعضاء ونهاية الكمال المجموعى للانشاء ، واصبحت مدرسة اتيكا تسير على متواله وعرفت بهذه المبزات الرائعة من بعده .
اشتغل فيدياس بنحت تماثيله من سن الفيل والذهب حينا ، ومن البرنز حينا آخر ولكنه نحث فى الرخام نادرا .
أما أعماله التى استطعنا أن نقف عليها فأولها تمثاله لأثينا برماخوس على مرتفع ا كرروليس وكان ارتفاع هذا التمثال نحو العشرين مترا . وقد سبق أن نوهنا بذكره فى مقال سابق .(1) وله ايضا مجموعة رائعة مثلت ملتادس القائد الذي انتصر على الفرس فى موقعة ماراتون سنة ٤٩٠ ق . م وحوله الالهة وابطال أتيكا ، كما مثل الأثينيين يقدمون الهدايا والقربان فى دلفى .
هذا إلى جانب تماثيل معبد زويس Zeuss الذى اعتبره الإغريق إليها للماء والبرق والضوء ، والذي يقابل الإله جويتر عند الرومان ، وتماثيل معبد أثينا يارتنوس 05 Parthen1
وكان الجسم مكونا من سن الفيل والملبس من صفائح الذهب ؛ وقد تم تمثال زويس سنة ٤٤٨ ولكنه حرق بعدئيد ، ولولا الصور التى سكت على نقود إلى Elis لما امكننا أن نعرف من شكله شيئا . جلس زويس ( ش ١ ) على عرش بديع حاملا بيمينه إلهة النصرNiKeيساره العصا ، وواضعا قدميه على كرسى صغير خصص لهذا الغرض ، واحيط الراس بغصن الزيتون فوق شعره المجعد ، كما أحيط الوجه بذقن كتيف . وإذا تأملت الصورة اليمنى
فانك بجد القوة والنبل والجمال السامى مرتسما فى وضوح على وجه زويس . وقد تحلى الملبس بعض رسومات ملونة على الذهب .
أما قاعدة العرش فقد تحلت برسومات تمثل مولد أفروديت إليهة الحب عند الإغريق ، والتى خلقت كما هو مذكور فى قصص الآلهة ، من زبد ماء البحر . ولا بد لنا من ان نذكر ان نظرة زويس تدل على الحلم والجبروت ، وهذا منطبق على صفة الالوهية فى معناها الكامل
وكان تمثال اثينا يارتنوس من سن الفيل والذهب أيضا ، أتمه سنة ٤٣٨ إلا أنه اختفى منذ اوائل القرن الرابع . وكل ما حصليا عليه تمثالان منقولان عن الأصل ، أحدهما كبير عن الآخر ، وهما محفوظان فى متحف اثينا . ويخيل إلينا ان الا كبر منهما اقرب إلى الاصل بالنظر إلى ما فيه من تفاصيل تتناسب مع ما عرف عن فيدياس وما امتاز فنه به من طابع خاص .
وله قطعة تمثل أثينا وهى من بدائع معروضات متحف عاصمة بلاد اليونان . هذا عدا تمثال برنزي على جانب عظيم من الجمال لأثينا لمينيا Lemnia قدمة الليمنيون إلى مرتفع أكروبوليس .
وفي متحف درسدن تمثالان رخاميان مماثلان له يظهر انهما منقولان عنه . اما فى رومافله تمثال لافروديت اورانيا ، ولهرمس ابن زويس الذي اعتبره الإغريق إلها للرعاة ورسولا للآلهة وإلها للطرق والتجارة ، وهو الذي يقابل عند الرومان الإله مركور .
وكان لفيدياس تلامذة أمجاد منهم من سار على خطاه مثل أجور كريتوس Paros Agoakritos of والكامينيس Alkamenes oF Athena or Lemnosو كولوتبس Kolotes الذى ساعده فى العمل بأولمبييا ، ومنهم من ارتسم لنفسه خطة خاصة مثل ليكيوسا Lykiosبن ميرون وتلميذه ، وستر ومجيليون Strongylionالذي كان بارعا فى محت تماثيل الخيل فى حالة السير والتسابق ، وكريزيلاس
واستعان في خلق تمثال زويس بشعر هوميروس الذى فيه وصف الإله وصفا مكن النحات من خلقه ( ش ٢ ) . ولعلنا بلمقارنة بين الراسين يجد غنيان واضحا جليا ، فلاملاحح متشابهة ولا الشعر على أبسط جانب من التماثل .
ونختار هنا جانبا من التماثيل المنحوتة فى جزء من وسط المثلث الواقع تحت جمالون الواجهة الغربية لمعبد زويس فى أوليميا لنقف على مدى العظمة الفنية التى بجلت في عمل فيدياس ( ش ٣ )
انظر إلى تفاصيل الأجسام ، وتأمل تكوين العضلات ، وشاهد الحركات الرائعة فى كل جزء من أجزاء القطعة ، ثم انتقل
بنفسك فجأة إلى مصر وإلى من يقدر الفن فيها ويفهمه ، يجد أننا بحالتنا الراهنة لا نستطيع أن يخلق جيلا يتذوق الجمال فى الوقت الحاضر .
أما المستقبل فهو رهين بما نعده الآن ، فإن لم يتكاتف الشعب المصرى مع الحكومة كل فى دائرته على إحياء الفن والعمل على تعليم النشء كيف ينظر وكيف يتأمل وكيف يتذوق
فلا أمل عاجلا أو آجلا فى شئ .
